الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

 

التعددية الحزبية 

صافى أبو طالب 

 

يقدم هذا البحث عرضًا لمفاهيم الشورى وتطبيقاتها وخاصة في مجال التعددية الحزبية ومقارنتها بالديمقراطية التي تقوم عليها نظم الحكم في الحضارة الغربية ، وبيان مدى إمكانية التعايش بين الشورى والديمقراطية في ظل العولمة ، على الرغم من اختلاف الأسس التي تقوم عليها الحضارتان .

أولاً‏ : موقف الإسلام من العولمة في المجال السياسي ‏ :

1 مفهوم العولمة ‏ :

يتجه العالم بخُطى سريعة نحو العولمة بعد انتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي وحلفائه من ناحية ، والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من ناحية أخرى ، فبعد تفكك الاتحاد السوفييتي 1989م 1990م تهاوى النظام الشيوعي الذي ساد الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفييتي ، ولم يتبقّ من النظم الشيوعية إلا الذكرى ، وانفردت أمريكا بسيادة العالم وقيادته ، وعملت على نشر الحضارة الغربية في سائر بقاع العالم ، معتمدة على سيف المعز وذهبه ، وساعدها على ذلك التقدم المذهل الذي حدث في وسائل الاتصالات والمعلوماتية ، لدرجة وُصف معها هذا التقدم بأنه (ثورة في الاتصالات والمعلوماتية التي أصبح معها العالم قرية صغيرة) .

ولم يكن انتشار الحضارة الغربية راجعاً إلى سُمو مبادئها وقِيَمها بقدر ما يرجع إلى التقنية العالمية التي تنشر هذه المبادئ والقيم في وسائل الإعلام الجديدة المتعددة ، وهذا الانتشار السريع للحضارة الغربية هو ما اصطُلح على تسميته (بالعولمة) ، وهي في مضمونها تقوم على تخطّي المسافات في الزمان والمكان والانحياز التام للحضارة الغربية ، متجاهلة الحواجز الجغرافية والحدود السياسية التي تفصل الدول عن بعضها ، متجاهلة السمات والخصائص التي تميز الشعوب والحضارات من بعضها ، ولم يفلت من العولمة مجال من مجالات الحياة ، سواء في ذلك النظم الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو التقدم العلمي ، بل إنها امتدت إلى الديانة باسم (الحوار بين الأديان) ، ولم تترك العولمة للشعوب والدول حرية انتقاء ما يناسبها من نظم الحضارة الغربية كما كان الحال من قبل انتشارها بل اتجهت إلى فرْض نظمها بمعاهدات دولية ، أبرزها منظمة التجارة العالمية ومن أهم تطبيقاتها اتفاقية (الجات) وعلى الدولة التي ترفض الانضمام إليها أن تتحمل أوزار العزلة والمقاطعة الدولية ، وفي المجال الدولي فرضت أمريكا إرادتها على مجلس الأمن وغيره من مؤسسات هيئة الأمم المتحدة ، تديرها وفق هواها ، وبما يحقق مصالحها وحدها ، وتضع المعيار الذي يناسبها في فض المنازعات بين الدول ، ومسلكها في النزاع العربي الإسرائيلي غير خافٍ على أحد ، وكذلك الحال ما حدث في البوسنة والهرسك ، وما يحدث الآن في (كوسوفا) ، وفي المجال الاجتماعي لم يصل الأمر بعد إلى حد فرض النظم الغربية باتفاقات دولية ، بل كانت وسيلة العولمة عقد المؤتمرات الدولية ، وآخرها مؤتمر بكين عام 1996م ، ولم تكتفِ أمريكا بذلك ، بل عمدت إلى إصدار قوانين تعطي لها الحق في التدخل في الشئون الداخلية للدول ، تارة باسم حماية المصالح الأمريكية ، وتارة باسم حرية العقيدة وحماية الأقليات الدينية ، وتارة باسم حماية حقوق الإنسان ، وفضلاً عن ذلك ربطت بين تقديم العون المالي والعلمي للدول والشعوب ، وبين مدى استجابتها لرغباتها ، بل أوامرها ، فأصبح سيف المعز وذهبه وسيلة ذات فاعلية كبيرة في تحقيق نتائج العولمة .

وفي ضوء هذه المتغيرات بدأ بعض المفكرين في دراسة ظاهرة العولمة وآثارها ، وعلى رأس هؤلاء نجد (صموئيل هنتنجتون) الذي نادى بأن العالم يعيش عصر صراع الحضارات ، الحضارة الغربية من جانب ، والحضارات الأخرى من جانب آخر ، سواء الحضارة الإسلامية أو حضارات الشرق الأقصى . . الخ موضحاً قدرة الحضارة الغربية على التغلب على غيرها ، كما تنبأ مفكر آخر (فوكوياما) بنهاية التاريخ بانفراد الحضارة الغربية بالسيطرة على العالم ، وفي ظل هذه الأوضاع بدأ كثير من المفكرين وقادة الدول في الكتابة عن مستقبل حضارات شعوبهم في مواجهة الحضارة الغربية ، وفي كيفية الحفاظ على خصائصها الذاتية والدفاع عن استقلال بلادهم وسيادة كل دولة على أراضيها .

2 اختلاف الأسس الحضارية ‏ :

تعتمد الحضارة الغربية على التراث الحضاري الكلاسيكي متمثلاً في الفلسفة الإغريقية والقانون الروماني ، كما أنها تستمد بعض قِيمها من الفكر المسيحي الذي يفصل بين الدين والدولة ، إعمالاً لقول السيد المسيح (دَعوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) ، ونتج عن ذلك أن ابتعدت الكنيسة كلية عن تنظيم الأمور الدنيوية ، سواء كانت سياسية أو قانونية أو اقتصادية ، وتركتها للدولة ، واقتصر دور الكنيسة على الهداية الروحية والأخلاقية وشئون العقيدة والعبادة ، كما نجم عن ذلك أيضاً إعلاء شأن العقل البشري في كل الأمور الدنيوية ، وترْك أمور الدين لدخيلة النفوس تحت رعاية الكنيسة وحدها دون تدخل من الدولة ، وهذا الفكر هو ما يوصف (بالعلمانية) ؛ ولذلك توصف الحضارة الغربية بأنها (حضارة علمانية) ، وهذا الاتجاه العلماني هو الذي دفع الدول الغربية إلى تبني مبدأ حرية العقيدة بصورة مطلقة ، فمن حق الفرد أن يعتنق الدين الذي يروقه، سواء أكان سماوياً أو غير سماوي أو يكون ملحداً .

أما الحضارة الإسلامية فإنها تعتمد على ما ورد في الكتاب والسنة من مبادئ وقيم ، وعلى رأس هذه المبادئ أن الإسلام يجمع بين الدين والدولة ؛ لأن الإسلام ينظم الأمور الدينية والأمور الدنيوية ، سواء في ذلك العقيدة والعبادة والقانون والنظم السياسية والاقتصادية فضلاً عن قواعد الأخلاق والآداب ، وناط بالدولة مسئولية رعاية الأمور الدينية والأمور الدنيوية على سواء ؛ ولذلك أقام الإسلام توازناً بين الجانبين المادي والروحي في حياة الإنسان ، وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة ‏ : (وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدّارَ الآخِرَةَ ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيَا)‏{القصص‏ : 77‏} ، كما أن الإسلام جعل الدنيا سبيل الإنسان إلى نعيم الآخرة أو عذابها ‏ : (ومَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وأَضَلّ سَبِيلاً)‏{الإسراء‏ : 72‏} .

وهذا التكامل بين الدين والدنيا اقتضى تحقيق تكامل بين العقل والإيمان ، فالعلم ليس مجرد خادم مطيع للإيمان ، والإيمان ليس عدواً مبيناً للعلم ، فالآيات القرآنية ناطقة في حث الإنسان على كشف أسرار الكون بالدرس والتأمل ، والأحاديث النبوية تجعل من طلب العلم فريضة ، ؛ ولذلك أطلق جمهور العلماء للعقل العِنان في الأمور كافة ، باستثناء أمور العقيدة والعبادات والأحكام القطعية في المعاملات ، وهذا الجانب الإيماني في الإسلام مع اعترافه بما سبقه من ديانات سماوية أدى إلى اعترافه بحرية العقيدة بالنسبة للديانات السماوية ، وإنكارها بالنسبة لغيرها .

وقد ترتب على اختلاف الأصول الحضارية اختلاف الغايات والأهداف واختلاف الوسائل والأدوات القانونية والاقتصادية والسياسية لتحقيقها ، فالحضارة الغربية غايتها نفعية محض ، ففصلت بين القانون والدين والأخلاق ، أما الحضارة الإسلامية فغايتها مثالية ؛ فجمعت بينها في كِيان واحد .

ثانياً‏ : مفهوم الديمقراطية ومفهوم الشورى

1 مفهوم الديمقراطية ‏ :

من المسلّم به أن نظام الحكم في أي مجتمع وفي أي عصر لا يُكتب له النجاح إلا إذا استهدف تحقيق أمرين ‏ :

أ- تمكين الفرد من المشاركة في القرارات المصيرية التي تهمه ، وتهم المجتمع كله .

ب- حصول الفرد على نصيب عادل من ثروة بلاده .

وقد اختلفت نظم الحكم في كيفية تحقيق هذين الهدفين ، واختارت الحضارة الغربية المعاصرة الديمقراطية كوسيلة لتحقيق الهدفين ؛ ولذلك يقوم نظام الحكم فيها على المبدأ الديمقراطي أي ‏ : (حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب) ، وهو ما يعبّر عنه في الفكر السياسي المعاصر بأن (السيادة للأمة) وهي مصدر السلطات ، سواء في ذلك التشريع والتنفيذ والقضاء ، وكل سلطة منها منفصلة عن الأخرى ، وإن كانت تتعاون فيما بينها ، ويراقب بعضها البعض الآخر ، ولا ينفرد شخص أو جماعة بسلطات الدولة ، وأساس سلطات الدولة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم يحكمها عقد تصوري هو (العقد الاجتماعي) الذي ابتكره الفيلسوف الفرنسي (روسّو) منذ أواخر القرن الثامن عشر ، وبمقتضى المبدأ الديمقراطي أن يكون شغل منصب رئيس الدولة بالانتخاب ، وأن يكون هو ومعاونوه مسئولين عن أعمالهم أمام الشعب ، فيستطيع أن يحاسبهم ويعزلهم .

ويمارس الشعب سيادته عن طريق نواب ينتخبهم ، ويكوّنون ما يسمى (بالبرلمان) ، ويتفرع عن المبدأ الديمقراطي مجموعة مبادئ من أهمها ‏ : المساواة أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة ، ومجموعة من الحريات العامة من أبرزها الحرية الشخصية وحرية العقيدة وحرية الرأي ، وحرية الاجتماع ، وحق تكوين الجمعيات ، وحق الانتخاب ، وحرية التنقل ، وحرمة المسكن والحياة الخاصة ، والحق في العمل وحرية الملكية الخاصة . . الخ ، ويقابل هذه الحقوق مجموعة من الواجبات مثل أداء الضرائب والتكاليف العامة والخدمة العسكرية . . الخ ، كما يتفرع عن المبدأ الديمقراطي مبدأ سيادة القانون كأساس للحكم ، بحيث تخضع الدولة في سائر تصرفاتها للقانون ، ويكون للقضاء استقلاله وحصانته ؛ الأمر الذي يؤدي إلى صون الحقوق والحريات العامة .

وضماناً لإعمال المبدأ الديمقراطي يقوم نظام الحكم في الديمقراطية الغربية على مبدأ الأحزاب السياسية ، سواء بصورة مطلقة أو بصورة مقيدة ، فأكثرها يطلق حرية تكوين الأحزاب ، سواء نادت بمبادئ وبرامج تتفق مع الدستور أم تخالفه ، مثل السماح بقيام أحزاب ملكية في بلد جمهوري أو العكس ، والسماح بقيام حزب شيوعي في بلد رأسمالي . . . الخ ، وبعض البلاد الغربية يقيد حرية الأحزاب فيما تدعو إليه من مبادئ وما تضعه من برامج ، مثل عدم جواز قيام حزب نازي في ألمانيا ، أو حزب فاشستي في إيطاليا ، وبجانب التعددية الحزبية وضع آليات وأدوات قانونية تسمح بتداول السلطة بين الأحزاب في سهولة ويسر تبعاً لما تسفر عنه الانتخابات .

2 مفهوم الشورى ‏ :

لم يضع القرآن الكريم ولا السنة النبوية قواعد تفصيلية لنظام الحكم في الإسلام واكتفيا ببعض المبادئ العامة أهمها ‏ : مبدأ الشورى ، ومبدأ العدل ‏(المساواة أمام القانون‏) ؛ ولذلك كان نظام الحكم عند جمهور العلماء…‏(1‏)‡ من الأمور الاجتهادية التي تتغير تبعاً لظروف المجتمع ، وقد أوجب القرآن الكريم الشورى في آيتين كريمتين ، إحداهما في سورة آل عمران ‏ : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ ولَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)‏{159‏} ، وقد نزلت هذه الآية عقب ما ابتُلي به المسلمون في غزوة أُحد ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد تشاور مع أصحابه واستجاب لمشورة أكثرهم في الخروج من المدينة لملاقاة العدو ، ونصت الآية الأخرى في سورة الشورى ‏ : (والّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبّهِمْ وأَقَامُوا الصّلاةَ وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ومِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)‏{38‏} ، ونزلت هذه الآية في امتداح خصال الأنصار .

وأكدت السنة النبوية سواء القولية منها أو الفعلية هذا المعنى من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ‏ : (ما تشاور قوم قط إلا هُدوا لأرشد أمرهم) ، وقوله ‏ : (استعينوا على أموركم بالمشاورة) ، وقوله ‏ : (ما استغنى مستبد برأيه ، وما هلك أحد عن مشورة) ، وأحداث التاريخ تقطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثير المشورة ، سواء في الأحكام الشرعية ‏(أسرى غزوة بدر‏) ، أو الأمور الدنيوية ‏(اختيار المكان الذي ينزل فيه المسلمون في غزوة بدر‏) ، وجرى الخلفاء الراشدون على نفس النهج في المشاورة .

ومن المسلّم به أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بحاجة إلى مشاورة أصحابه ؛ لأن العناية الإلهية تهديه سواء السبيل ، ولكنه كما قال العلماء كان يشاورهم تطييباً لقلوبهم من ناحية ، ولكي يقتدوا به في المشاورة ، وقد اختلف رأي العلماء حول حكم الشورى ، فذهب فريق منهم إلى أنها واجبة ، وذهب فريق آخر إلى أنها مندوبة ، وأنصار الوجوب اختلفوا فيما بينهم ، فمنهم مَن يُلزم ولي الأمر بالأخذ بالرأي الذي انتهت إليه المشاورة ، ويجعل من مخالفته سبباً من أسباب عزله ، ومنهم مَن يرى غير ذلك .

ومقتضى نظام الشورى حسبما جرى عليه التطبيق العملي في صدر الإسلام أن شغل منصب الخلافة يكون بالاختيار، وأن يكون الخليفة مسئولاً عن أعماله أمام الأمة التي يحق لها عزله ، وإشراك ذوي الرأي مع ولي الأمر في اتخاذ القرارات المهمة مما يحُول دون الاستبداد بالرأي ، وكفالة الحريات السياسية للمواطنين ، ومنها حرية الرأي ، وتقدير مبدأ المساواة بين الناس دونما تمييز لأحد أو طائفة أو طبقة .

ولم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية أحكام تحدد مَن هم أهل الشورى ، ولا كيفية حدوثها ، وكذلك لم يفعل الفقهاء ؛ ولذلك اختلف أسلوب التشاور من عهد إلى عهد ، ففي العهد النبوي كان أهل الشورى هم وجوه المهاجرين والأنصار ، وفي عهد الخلفاء الراشدين كان وجوه الصحابة يجتمعون في المسجد بالمدينة للتشاور ، الأمر الذي كان يتيح لأي شخص الحضور والاشتراك في الرأي ، وبعد تفرق الصحابة في الأمصار بعد الخليفة عمر تعذر جمعهم فاكتفي بمَن يوجد منهم في المدينة ، وفي العهد الأموي كان الأعضاء البارزون من الأسرة الأموية يكوّنون مجلساً للخليفة ، يشير عليه فيما يعرضه عليهم من أمور ، وفي العصر العباسي نُظّمت الشورى ، فقد أنشأ الخليفة المأمون مجلساً للشورى ، يضم ممثلين عن طوائف المجتمع لإبداء الرأي فيما يعرضه عليهم من أمور ، وحذا الخلفاء العباسيون حذو المأمون ، كما أحاط أمراء الولايات الذين استقلوا بها أنفسهم بمجالس شورى على غرار مجلس الخليفة ، وفي العصر العثماني أنشئ الديوان الهمايوني الذي يضم كبار رجال الدولة من مدنيين وعسكريين وبعض العلماء وبعض الأعيان ، وكان بمثابة مجلس استشاري للسلطان ، وعلى غراره أنشئ ديوان الوالي في الولايات المختلفة .

ومن الواضح أن نظام الشورى الإسلامي حسبما جرى عليه التطبيق العملي يختلف عن المجالس النيابية ‏(البرلمان‏) السائدة في النظم الديمقراطية المعاصرة ، فهذه مجالس منتخبة تختص بالتشريع ورقابة السلطة التنفيذية ، أما الشورى حتى بعد تنظيم مجالس لها فلم يكن أهلها كلهم منتخبين ، بل كانوا مختارين من جانب ولي الأمر ، ولم يكن لهم اختصاص محدد، بل كانوا يبدون الرأي في أمور الدولة المهمة التي يعرضها عليهم ولي الأمر ، ومعنى ذلك أن العمل جرى على الرأي الذي يقول بأن الشورى مندوبة ، وحتى لو قلنا بأنها واجبة فإن رأي أهل الشورى لم يكن ملزماً ، ولعل ظروف المجتمع كانت تسمح بذلك ، أما الآن وفي ضوء انتشار المبدأ الديمقراطي ، وتعقّد ظروف الحياة فإن الرأي الفقهي الذي يقول بوجوب الشورى وبأن قرارات أهل الشورى ملزمة لولي الأمر أَوْلى بالاتباع ؛ وذلك إعمالاً بقاعدة أصولية تقضي بأن (ما لا يتم الواجب إلا به يكون واجباً) ، ولعل هذا الفكر هو الذي سهّل على الدول الإسلامية في العصر الحاضر اقتباس النظم البرلمانية من الغرب ، فجوهر الشورى في مفهوم هذا الرأي لا يختلف عن جوهر الديمقراطية .

ثالثاً‏ : قيام الحكم الإسلامي على الشورى ‏ :

1 الخلافة ‏ :

لم يرد في الكتاب ولا في السنة نظام تفصيلي للحكم ؛ ولذلك نظمته أحكام اجتهادية تتغير تبعاً لظروف المجتمع ، وهذه القواعد استنبطها الفقهاء من بعض المبادئ العامة الواردة في الكتاب والسنة ، مثل مبدأ الشورى ، ومبدأ العدل ‏(المساواة‏) . . الخ ، ومن السوابق التي جرى عليها العمل في عهد الخلفاء الراشدين ، وفي اجتماع السقيفة الذي انعقد فور وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وُلد نظام الحكم الإسلامي الذي عُرف باسم (الخلافة) ، وقد عرّفها الفقهاء بأنها (خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا) ، وقد حرص الخلفاء الراشدون والفقهاء من بعدهم على التأكيد على أن الخليفة ليس خليفة الله تعالى في الأرض ، بل هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظام الخلافة نظام فريد في العالم ، يختلف عما سبقه من نظم الحكم ، وما عاصره ، وما تلاه لدى الشعوب الأخرى .

وقد مر نظام الخلافة بثلاثة أدوار متميزة‏ :

ففي عصر الخلفاء الراشدين قامت الخلافة على أساس الشورى ، وتحققت في الخلفاء كل شروط الخلافة ، ويتشابه في كثير من الوجوه مع النظم الجمهورية المعاصرة ، وفي العصرين الأموي والعباسي قام نظام الحكم على الوراثة ، واختلطت الخلافة بالملكية ، ولكنها احتفظت بنظام الشورى من حيث الشكل ، على الرغم مما شَابَ البيعة من إكراه في بعض الأحيان، كما حدث تجاوز في الشروط الواجب توافرها في الخليفة ، ومع ذلك ظلت الخلافة محتفظة بمعانيها ومقاصدها والالتزام بأحكام الشريعة وتطبيقها ، والخلافة في هذين العصرين تتشابه من بعض الوجوه مع الملكيات المقيّدة ‏(الدستورية‏) ، وتحوّل نظام الخلافة في العصر العثماني إلى ملكية مطلقة مستبدة ، وابتعد الحكم عن الشكل الإسلامي ‏(الشورى‏) ؛ إذ أصبح القهر أو الغَلَبَة هو أساس السلطة ، وأصبحت وراثة العرش رهناً بإرادة السلطان وحده ، وابتعد عن جوهر الخلافة ومقصودها ؛ إذ حدثت مخالفات لأحكام الشريعة ، وتسللت الأفكار العلمانية إلى النظم القانونية ؛ ولذلك يصف العلماء نظام الخلافة في عهد الخلفاء الراشدين بوصف (الخلافة الكاملة) ، ويصفونها بوصف (خلافة الضرورة) فيما تلاهم من عصور ويا لَلأسف الشديد يحكم المفكرون في الغرب ، بل وبعض المفكرين في العالم الإسلامي على نظام الخلافة من واقع تطبيقها في عصر الدولة العثمانية ، وبعض فترات الاستبداد قبلهم ، ولعل ذلك يرجع إلى انتشار نظم الحكم الاستبدادية في العالم كله قبل الثورة الفرنسية ؛ ولذلك سننحّي جانباً ما حدث من تجاوزات في التطبيق في عصور الاستبداد سالفة الذكر باعتبار أنها تجاوزات لأصول نظام الحكم الإسلامي .

وقد ساعد على سوء تطبيق الفكر الإسلامي في نظام الحكم عدة عوامل أهمها‏ : اعتمد الفقهاء حينما بدأوا يكتبون عن نظام الحكم في القرن الثاني الهجري على السوابق التي حدثت في عصر الراشدين باعتباره الصورة المثلى للخلافة ، وتجاهلوا ما حدث من تجارب وتطورات بعد ذلك …‏(2‏)‡ حينما اتسعت رقعة الدولة ، وازدادت شعوبها عدداً ، وتباينت حضاراتها داخل الدولة الإسلامية ، وهجرة الصحابة إلى البلاد المفتوحة ، وظهرت عدم صلاحية الأدوات القانونية والآليات السياسية التي سادت في عصر الخلفاء الراشدين حينما وقع الصدام بين علي ومعاوية ، يضاف إلى ذلك أنهم لم يضعوا ضوابط محددة ، ولا أسلوباً محكماً لكيفية ترشيح الخليفة ولا طريقة الانتخاب ، كما أنهم لم يفصحوا عن رأيهم في مدة الخلافة ، وزاد الأمر صعوبة أنهم لم يحددوا جهة أو هيئة يمكن الاحتكام إليها إذا وقع تصادم بين الخليفة والقوى السياسية المعارضة ، أو إذا قام بالخليفة سبب من أسباب عزله ، ورفض أن يعزل نفسه ، واكتملت المأساة بإقرار (مبدأ توارث الحكم) ، وكل أوجه القصور سالفة الذكر قضت بالتدريج على جوهر الخلافة ، وأظهرت الحكم الإسلامي في صورة حكم فردي استبدادي ، يعتمد على صلاح الخليفة نفسه بدلاً من اعتماده على مؤسسات تكشف الأخطاء وتصححها ، ولم يغبْ كل ذلك عن نظر بعض العلماء ، فقد نقل السيوطي عن الحسن البصري وهو من التابعين أنه قال ‏ : (أفسد أمر هذه الأمة اثنان: عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفْع المصاحف ، والمغيرة بن شعبة حين أشار على معاوية بالبيعة ليزيد ، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة) .

2 الخلافة على رأس فروض الكفاية‏ :

يفرق الفقه الإسلامي بين فروض العين وفروض الكفاية ، وجرى العلماء المسلمون على اعتبار الخلافة ‏(الإمامة‏) على رأس فروض الكفاية ، أي الفروض التي تكون المصالح العامة للأمة ويعجز الفرد عن أدائها ؛ ولذلك تقع على عاتق الأمة في مجموعها ، ويكفي أن يؤديها بعضهم حتى ترتفع المسئولية عن الباقين ، وهي فروض دائمة ومتجددة ، وبذلك ضمنوا استمرار الدولة في أداء وظائفها ، كما أنهم اعتبروها من الحقوق المشتركة بين الله والعباد ، ومن ثم فإن إقامتها حق لله وحق للأمة ، وكل ذلك عبر عنه الماوردي بقوله ‏ : (فكانت الإمامة أصلاً عليه استقرت قواعد الملة ، وانتظمت به مصالح الأمة ، حتى استتبت بها الأمور العامة ، وصدرت عنها الولايات الخاصة) .

وهكذا عرف الفقه الإسلامي النتائج التي تترتب على فكرة (الشخصية المعنوية) المعروفة في الفقه اللاتيني الحديث دون أن يستعملوا تعبير الشخصية المعنوية ، وقد اعتبر الفقهاء فروض الكفاية من واجبات الخليفة بصفته وكيلاً عن الأمة ، وهذه الواجبات تجعل من نظام الخلافة نظاماً شبيهاً من بعض الوجوه بالنظام الرئاسي المعروف في النظم الديمقراطية المعاصرة ، فالخليفة يجمع بين يديه ما نسميه اليوم السلطة التنفيذية والسلطة القضائية ، أما سلطته التشريعية فهي مقيدة ؛ لأن التشريع في الإسلام لله ورسوله ، وهذا لا يعني استبداد الخليفة بالسلطة ؛ لأنه مقيد فيما يصدره من قرارات بأحكام الشريعة ، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .

وتشمل فروض الكفاية بعد الإمامة ‏ : القضاء والنظر في المظالم ، والجهاد ومعه المهادنة والموادعة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويتفرع عنه نظام الحسبة ، والقيام بعلوم الدين والدنيا ، وتوفير وسائل العمران ، والتكافل الاجتماعي .

وفروض الكفاية سالفة الذكر شبيهة إلى حد كبير بما يسمي في الديمقراطية الغربية سلطات الدولة من تنفيذية وقضائية، أما سلطة التشريع فهي في الفكر الإسلامي لله وللرسول ، والفكر الإسلامي لا يستعمل تعبير سلطات الدولة ، ولكنه يستعمل تعبير (الولاية) ، بمعنى إنفاذ القول أو الفعل على الغير جبراً عنه ، ويفرقون بين الأفعال التي تقتضي حكماً وقضاءاً وحق تصرف في الأعمال والأموال ، وتلك التي لا تقتضي شيئاً من ذلك ، ويتطلبون في النوع الأول صدور تقليد أي عقد من الخليفة أو مَن ينيبه في ذلك ، وينطبق هذا الوصف على الوزير وأمير الإقليم والقاضي وأمراء الجيوش والخراج وغيرهم من أصحاب الولايات ، ويقرر الفقهاء صراحة أن تقليد الخليفة لهؤلاء يكون بصفته نائباً عن الأمة ؛ ولذلك لا ينعزلون بموت الخليفة ، ومعنى ذلك أن كل ما يدخل في فروض الكفاية هو من اختصاص الأمة ، ويتولاها الخليفة ومعاونوه نيابة عنها ، فإذا كان الفكر الديمقراطي الغربي يجعل من الأمة مصدر كل السلطات فإن الفكر الإسلامي يجعل الأمة مصدر كل الواجبات الكفائية .

ومن ناحية أخرى يجري الفقه الدستوري في الديمقراطية الغربية على القول بأن السيادة للأمة ، وتعبير السيادة هذا ابتكره الفقه الغربي منذ الثورة الفرنسية ؛ لاستبعاد اندماج الدولة في شخص الملك ، كما كان يدّعي الملوك قبل هذه الثورة ، ولاستبعاد عودة الفكر الديني الذي جعل من البابا ممثلاً لله على الأرض ، ومنه يستمد سلطته الدينية والمدنية ، والفكر الإسلامي لا يستعمل تعبير السيادة اكتفاء بتعبير (واجبات الكفاية) ، وناط بها الأمة في حدود ما يأمر به الكتاب والسنة ، وقد استنتج البعض من هذا أن الدولة الإسلامية دولة دينية كهنوتية ‏(تيوقراطية‏) ، شبيهة بما كان عليه الحال في أوروبا في العصور الوسطى في ظل الحكم البابوي ، وهذا الرأي بعيد كل البُعد عن الصواب ؛ لأن رعاية الدولة لشئون الدين لا تحوّلها إلى دولة كهنوتية ؛ فرجال الدين المسيحي وعلى رأسهم البابا يتمتعون بامتيازات تجعل منهم طبقة خاصة ، تتمتع بسلطات روحية تجعلهم ممثلين لله على الأرض ، يقبلون التوبة ، ويغفرون الذنوب ، ويحتكرون تفسير النصوص الدينية ، ولا يوجد شيء من ذلك في الفكر الإسلامي ؛ إذ (لا كهنوت في الإسلام) ، ومن ناحية أخرى فإن وصف الحكم بأنه (تيوقراطي) يتحدد تبعاً لما إذا كان الحكام يستمدون سلطتهم من الله تعالى أم من إرادة البشر ، والحاكم في الفكر الإسلامي يستمد سلطته من رضاء الأمة ، ولا يغير من طبيعة الحكم تمتّع رئيس الدولة باختصاصات دينية ؛ ففي الدولة الرومانية كان الإمبراطور رئيساً للديانة قبل اعتناق المسيحية وبعدها ، وملك إنجلترا في العصر الحديث رئيس للكنيسة .

رابعاً‏ : الخلافة عقد بين الأمة والخليفة ‏ :

يتم اختيار رئيس الدولة في النظم الديمقراطية الغربية بالانتخاب من جانب الشعب صاحب السيادة ومصدر كل السلطات، كما يتم انتخاب ممثلين عن الشعب يكوّنون ما يسمى بالبرلمان ، يختص بالتشريع ويراقب السلطة التنفيذية ، وهو ما يعرف بالديمقراطية النيابية ، وقد سبق الفكر الإسلامي العالم كله في استحداث نظام شبيه بذلك هو (الإنابة) أو (التفويض)، وفيه تختار الأمة مجموعة من الناس يطلق عليهم تعبير (أهل الحل والعقد) أو (أهل الاختيار) ، ينوبون عنها في ممارسة سلطات الدولة حسب التعبير الحديث ، ومنها سلطة اختيار الخليفة ، ومراقبة ما يقوم به من أعمال ، وما يقوم به غيره من أصحاب الولايات باستثناء التشريع فهو لله وللرسول .

1 عقد البيعة ‏ :

من المسلم به بين جميع العلماء فيما عدا الشيعة أن الخلافة تنعقد بالاختيار والتراضي ، ويتم ذلك بأحد طريقين ‏ : اختيار أهل الحل والعقد ومبايعة الأمة ، أو عهد من الإمام السابق بعد مشاورة أهل الحل والعقد وموافقتهم ومبايعة الأمة ، وهذه المبايعة قريبة الشبه من نظم الاستفتاء المعاصرة ، وقد صوّر العلماء العلاقة بين الخليفة والأمة على أنها (علاقة تعاقدية) ، مثلها في ذلك مثل أي عقد من العقود ، وأشبهوها بعقد البيع ؛ ولذلك أطلقوا عليها تعبير (بيعة) اشتقاقاً من البيع ، وهذا العقد شبيه بالعقد الاجتماعي الذي ابتكره الفيلسوف الفرنسي (روسّو) في القرن الثامن عشر ، واعتُبر منذ ذلك الوقت هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة ، وسنداً للسلطة فيها .

والفارق بين هذا العقد والبيعة أنه عقد تصوّري لا وجود له في الواقع ، بينما البيعة عقد حقيقي ، والبيعة تستوجب وجود طرفين ، موجِب وهو الأمة ، وقابل هو الخليفة .

2 الطرف الموجب (الأمة) ‏ :

وينوب عن الأمة في عقد البيعة مجموعة من الناس هم (أهل الحل والعقد) ، وقد اختلف الفقهاء في تحديد العدد اللازم من أهل الحل والعقد لمبايعة الخليفة ، والرأي الغالب يتطلب موافقة أغلبية أهل الحل والعقد ، ويعبرون عن ذلك بقولهم ‏ : (لا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد في كل بلد) ؛ ولذلك اعترض فريق من الصحابة على مبايعة الإمام علي حسبما ذكر ابن خلدون في مقدمته (لافتراق الصحابة أهل الحل والعقد بالآفاق ، ولم يحضر إلا قليل) ، واختيار أهل الحل والعقد للخليفة هو مجرد ترشيح حسب الرأي الراجح بين العلماء يستتبعه بالضرورة موافقة أكثرية الأمة صاحبة الحق الأصيل .

وهذه هي البيعة العامة ، ومن حق أكثرية الأمة أن توافق على رأي أهل الحل والعقد ، ولها أن ترفضه ، والعلماء يُجمعون على أن البيعة في مرحلتيها يجب أن تتم بالرضا الكامل وحجتهم في ذلك على حد تعبير الماوردي ‏ : (لأنها عقد مراضاة واختيار ، ولا يداخله إكراه ولا إجبار) ، وعلى ذلك فانتخاب الخليفة يتم حسب المصطلحات الدستورية الحديثة على درجتين ‏ : الأولى من جانب أهل الحل والعقد ، والأخرى من جانب الأمة .

وما سبق أن ذكرناه يصدُق بالنسبة لمبايعة ولي العهد ‏ : فيتم ترشيحه من الخليفة القائم بالحكم بعد التشاور مع أهل الحل والعقد وموافقتهم حال حياة الخليفة الحاكم ، ومبايعة من الأمة بعد وفاته .

ولا يقتصر دور أهل الحل والعقد على اختيار الخليفة ، بل إنهم مسئولون عن رقابته في تنفيذ واجباته ، فإن حاد عنها أو قصر في أدائها وقع عليهم عبء تقويمه أو خلعه واستبدال غيره به كما سنرى وبجانب ذلك كانوا يقومون بدور الرأي العام الحديث في الرقابة والتوجيه.

ومن أهم تطبيقات ذلك ما حدث في عهد الخليفة عثمان حينما اشتكى الناس من مخالفة بعض ولاته لأحكام الشريعة ‏(الوليد ابن عقبة أخو عثمان لأمه والي الكوفة ، فأقام عليه الحد وعزله‏) ، ومنها رفض الرعية لسياسة بعض الولاة مما اضطر الخليفة عثمان لعزلهم ‏(سعيد بن العاص والى الكوفة ، وأبو موسى الأشعري والي البصرة‏) ، بل امتد الأمر إلى الخليفة نفسه ، مثلما حدث عندما اتهم الناس الخليفة عثمان بمحاباة الأمويين ، وطالبوه بعزل نفسه ، ولما رفض قامت ضده ثورة انتهت بقتله .

أما عن تكوين هيئة (أهل الحل والعقد) وشروطهم فإن الفقهاء لم يُوْلُوها العناية الكافية ، فظلت من أكثر الأمور غموضاً وإبهاماً في الفقه الإسلامي ، فهم لم يحددوا بطريقة واضحة قاطعة الطوائف والهيئات التي ينتمي إليها أهل الحل والعقد ، وإن كان بعضهم الرملي قد حددها بقوله ‏ : (العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذي يتيسر اجتماعهم) ، ونتيجة لهذا الغموض اختلف الفقهاء في الطريقة التي يتم بها اختيار أهل الحل والعقد والعدد اللازم والطريقة التي يعبرون بها عن رأيهم ، ويزيد من صعوبة الأمر أن السوابق التاريخية لا تسير على نسق واحد مما يؤكد أن كل ذلك متروك لظروف المجتمع .

أما عن الشروط الواجب توافرها في أهل الحل والعقد فهي ثلاثة ‏ : العدالة الجامعة لشروطها ، أي الاستقامة والأمانة ، والرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار الأصلح للخلافة ، وقدر من العلم يمكّن من معرفة الشروط الواجب توافرها فيمن يستحق الخلافة على شروطها ، وشروط أهل الحل والعقد شروط يسيرة بالمقارنة بالشروط الواجب توافرها في المجتهدين ، ومن الواضح أنه لا يشترط في أهل الحل والعقد نصاب مالي ، ولا الانتماء إلى فئة أو طائفة معينة في المجتمع ، ومن الواضح أيضاً أنه نظام خاص بالفكر الإسلامي يختلف عن الهيئات النيابية المنتخبة في العصر الحديث في الديمقراطية الغربية ، فهم لا يكوّنون برلماناً ولا هيئة استشارية لها صفة الدوام ، كما أن بعضهم اكتسب صفة أهل الحل والعقد نتيجة لتعيينه في أحد المناصب الكبرى كالإمارة أو قيادة الجيش . . الخ . وبعضهم اكتسبها بما اشتُهر به بين الناس كالعلماء ووجوه القوم . . الخ ، ولكنهم يؤدون بعض الوظائف التي تقوم بها البرلمانات الحديثة في الديمقراطية الغربية ، منها اختيار الحكام ومراقبة أعمالهم .

ومن الواضح أن موضوع أهل الاختيار من الأمور الاجتهادية ، التي اختلف الرأي في شأنه ؛ ومن ثم يمكن تنظيمه الآن بصورة تتفق مع روح الشورى وتحدد عددهم وطريقة اختيارهم . . الخ ؛ إذ من المسلّم به كما سبق القول أن (ما لا يتم الواجب إلا به يكون واجباً) .

3 الطرف الثاني (القابل) (الخليفة الإمام أمير المؤمنين) ‏ :

وأهم شروطه ‏ :

1 العدالة بمعناها الجامع .

2 سلامة الحواس والأعضاء .

3 الكفاية ‏ : وأهم عناصرها الإسلام والحرية والذكورة والعقل ، فضلاً عن القدرة على ممارسة عمله .

4 العلم .

5 النسب .

ويقصد بالعلم ‏ : (العلم بالأحكام الشرعية والأمور السياسية والحربية والإدارية ، وكل ما يدخل في فروض الكفاية) ، وفي صدر الإسلام كان يقصد بالعلم العلم بالأحكام الشرعية بدرجة تصل به إلى مرتبة الاجتهاد ، قياساً على ما كان عليه حال الخلفاء الراشدين ، غير أن العمل جرى منذ عهد الدولة الأموية وما بعدها على التجاوز عن شرط الاجتهاد اكتفاءاً بما يحيط بالخليفة من مستشارين متخصصين ، وحدث هذا التجاوز في عهد الأئمة الكبار ولم يعترضوا ، ومن ناحية أخرى جرى خلاف حول شرط النسب ، فالشيعة يشترطون أن يكون الخليفة من ذرية الإمام علي ، والخوارج لا يشترطون نسباً معيناً ؛ فكل مسلم ولو كان أعجمياً يصلح للخلافة ، أما أهل السنة فيشترطون انتماءه إلى قريش حتى يكون مطاعاً من الجميع باعتبار أن قريش كانت تتمتع بمكانة سامية بين العرب ، ولما فقدت قريش مكانتها المتميزة تجاوز الفقهاء المتأخرون عن شرط النسب القرشي ، وكل الشروط سالفة الذكر لازمة لانعقاد البيعة للخليفة، كما أنها شروط استدامة ، فإذا فُقد أحدهما كانت سبباً لعزله .

وإذا نحّينا رأي الشيعة جانباً نجد أن شروط الخليفة لا تختلف عن نظيرتها في شروط رؤساء الدول في الديمقراطية الغربية المعاصرة ، ولا محل للطعن في النظام الإسلامي باشتراط الإسلام في الخليفة ، فبعض الدساتير المعاصرة في أوروبا تشترط أن يكون رئيس الدولة من دين أغلبية السكان ، وأكثرها يجري فيها العرف الدستوري على ذلك ، والإسلام هو دين الأغلبية في الدولة الإسلامية .

ويختص الخليفة بعدة اختصاصات دينية ودنيوية ، يسميها الفقهاء (واجبات الخليفة) ، وهي كلها من فروض الكفاية التي يمارسها الخليفة نيابة عن الأمة ، ويدخل في الواجبات الدينية ‏ : حفظ الدين ، والفصل في الخصومات وإقامة الحدود ، وجباية الأموال والصدقات وصرفها في وجوهها الشرعية ، ويدخل في الواجبات الدنيوية الدفاع عن الدولة وحفظ الأمن الداخلي ، والإشراف على الأمور العامة ، وتعيين العاملين ، وتحقيق التكافل الاجتماعي . . الخ فهو يجمع بين يديه رئاسة السلطتين التنفيذية والقضائية حسب التعبيرات الحديثة ويخرج منها السلطة التشريعية ؛ إذ التشريع لله وللرسول ، ومن ثم يخرج من اختصاصه التشريع في شئون العقيدة والعبادة والأحكام القطعية في المعاملات ، وينحصر دوره في التشريع بموافقة أهل الاجتهاد فيما لم يرد فيه نصوص في الكتاب والسنة ، أو ترجيح رأي فقهي على آخر في الأحكام الاجتهادية .

ومن الواضح أن هذه الاختصاصات تتشابه إلى حد كبير مع اختصاصات رئيس الدولة في النظم الرئاسية في الديمقراطية الغربية المعاصرة ، وتزيد عليها الاختصاصات الدينية ، فلكل نظام خصائصه ، ولكل فقه صناعته .

وفي سبيل أداء هذه الواجبات يتمتع الخليفة بحقين هما ‏ : حق الطاعة وحق النصرة وهما شبيهان بسلطة الأمر والنهي في الديمقراطية الغربية ، والأساس الشرعي لحق الخليفة في الطاعة والنصرة يرجع أصله إلى قوله تعالى ‏ : (يَا أَيّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وأَطِيعُوا الرّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إلَى اللّهِ والرّسُولِ)‏}النساء‏ : 59‏{ .

غير أن طاعة ولي الأمر ونصرته مقيدة بأمرين ‏ :

أولهما ‏ : الالتزام بأحكام الشريعة ؛ إذ (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) .

وآخرهما ‏ : أن ينهض بواجباته على الوجه الأكمل .

فإن عجز أو قصّر سقط حقه في الطاعة والنصرة ، وحق الطاعة يعني عدم جواز مخالفته أو الخروج عليه ، وهو ما يسمى (البغي) ، ويعرّفه الفقهاء بأنه ‏ : (الخروج على الإمام الحق بدون وجه حق) ، ويفرق الفقهاء في معاملة البغاة تبعاً لجسامة ما أتوه من أفعال ، فإن اقتصر الأمر على اختلاف الرأي فلا عقاب عليه ، ويقتصر الأمر على المجادلة بالحسنى ، فإن تجاوز البغاة ذلك وحرضوا على عدم طاعة ولي الأمر جاز له عقابهم تعزيراً ، فإن تجاوزوا ذلك وأعلنوا عصيانهم ومنعوا ما عليهم من حقوق وتفردوا بجباية الأموال وتنفيذ الأحكام جاز لولي الأمر قتالهم حتى يفيئوا إلى الطاعة .

أما حق النصرة فيعني تأييده ومساندته (بالقول) ‏ : أي إسداء النصيحة ، و(الفعل) ‏ : أي مساندته في مقاومة البغاة ورد العدوان عن الدولة .

والسند الشرعي لهذا الحكم الحديث الشريف‏ : (مَن أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوه بالسيف) ، ومعناه ضرورة رضوخ الأقلية لرأي الأغلبية ، وإلا اعتُبرت فئة باغية تستحق التقويم ، وقد أساء بعض الخلفاء استخدام هذا الحق ‏(مذبحة كربلاء من جانب الأمويين ضد الحسين وآل البيت ، وما فعله بعض الخلفاء العباسيين في مطاردة خصومهم السياسيين من الشيعة ومن بني أمية ، ونفس المسلك حدث من بعض سلاطين آل عثمان‏) .

ولنا أن نتساءل عن مدى مسئولية الخليفة وغيره من الحكام عن أعمالهم ، وما الجهة التي يُسألون أمامها ؟ ، إن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية قاطعة في تقرير هذه المسئولية ، وهي مسئولية مزدوجة ‏ : أمام الله تعالى في الحياة الآخرة ، وأمام الأمة في الحياة الدنيا ، فولاية أمر المسلمين يعتبرها الإسلام أمانة ، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال لأبي ذر حينما سأله إمارة إحدى الولايات ‏ : (إنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا مَن أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) ، والقرآن الكريم يأمر بأداء الأمانة وعدم خيانتها ، من ذلك قوله تعالى ‏ : (يَا أَيّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)‏}الأنفال‏ : 27‏{ ، وقوله تعالى ‏ : (إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)‏}النساء‏ : 58‏{ ، والأحاديث النبوية تؤكد هذا المعنى ، ومنها ‏ : (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته ، الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته) ، وتوعدت الآيات القرآنية خائن الأمانة بأشد أنواع العذاب في الآخرة ، ومنها ‏ : (وخَابَ كُلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ . مّن ورَائِهِ جَهَنّمُ ويُسْقَى مِن مّاءٍ صَدِيدٍ . يَتَجَرّعُهُ ولا يَكَادُ يُسِيغُهُ)‏}إبراهيم‏ : 15 17‏{ .

والفقهاء مجمعون على وجوب محاسبة الخليفة وولاته وعماله سواء بتقويمه بنصحه ، أو بإقامة الحد عليه تبعاً لجسامة الفعل الذي أتاه ، أو عزله إذا قام به سبب من أسباب العزل ، ومن ذلك فقدان الخليفة لأحد شروط الخلافة ؛ لأنها شروط انعقاد واستدامة في نفس الوقت ، كأن طرأ على بدنه نقص في الحواس أو الأعضاء يؤثر في عمله ، أو حاد عن الطريق السوي فجار أو ظلم ، أو ظهر منه عدم كفاية في إدارة شئون الدولة أدى إلى اختلال أمور المجتمع ، أو خالف الشريعة في سلوكه وتصرفاته أو تهاون في تطبيق أحكامها مما أدى إلى انتكاس أمور الدين . . الخ ، ومبدأ جواز تقويم الخليفة وعزله تقرر منذ قيام نظام الخلافة ، وقد عبر عنه الخليفة أبو بكر غداة مبايعته بقوله ‏ : (أما بعد . . أيها الناس ! فإني وُليت عليكم ، ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوّموني ، . . أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله ، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم) ، والأساس الشرعي لحق الأمة في تقويم أولياء الأمر ومحاسبتهم وعزلهم يرجع إلى أنها هي صاحبة الحق الأصيل ، وهو وكيل عنها بمقتضى عقد البيعة ؛ ولذلك من حقها فسخ العقد ومساءلته إذا وُجد سبب لذلك ، ولكن الفقه الإسلامي لم يحدد جهة أو هيئة تختص بمساءلة ولي الأمر ، واكتفى بتركها لأهل الحل والعقد، وهو تعبير غامض مرن ومطاط؛ ولذلك تثور المشكلة إذا رفض ولي الأمر الانصياع إلى قرار أهل الحل والعقد بعزله أو بتقويمه ، وقد انقسم الرأي في هذا الصدد إلى اتجاهين ‏ : فريق ‏(الخوارج والمعتزلة والزيدية‏) الذي يرى جواز الخروج عليه والثورة ضده استناداً إلى الآية القرآنية ‏ : فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللّهِ‏}الحجرات‏ : 9‏{ ، وهو ما حدث بالنسبة للخليفة عثمان حينما رفض عزل نفسه بعد ما طالبه الناس بذلك ، وهذا الاتجاه يُعرف بمبدأ (سَلّ السيف) ، وذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز الخروج على ولي الأمر والتمسك بالصبر مع استمرار إسداء النصيحة له ، ولكنهم أجازوا بيعة المتغلب إذا توافرت فيه شروط الخلافة ، وبرروا رأيهم بحالة الضرورة دفعاً للفتن وسفك الدماء من ناحية ، ومنعاً للفوضى إذا أعلنوا بطلان الخلافة مع العجز عن استبدال الخليفة ، وهذا الاتجاه يعرف (بمذهب الصبر) ، وعلى الرغم من رفضهم الثورة ضد الإمام الجائر إلا أنهم لا يعتبرون الخروج عليه بغياً ، فإذا ما نجحت الثورة اعترفوا بها إذا كان الخليفة الجديد مستوفياً لشرائطها .

ومن الواضح أن الفكر الإسلامي يقرر مبدأ مسئولية الحاكم ومحاسبته بصورة تكاد تتطابق مع النظم الغربية المعاصرة، ولكنه خلا من وضع الآليات والأدوات التي تؤدي إلى إعمالها بصورة فعالة ، كما خلا من التحديد الدقيق لحالات مسئولية الحاكم وأسباب عزله ومدة توليه الرئاسة . . الخ ؛ ولعل ذلك كان يناسب ظروف عصرهم ، ومن السهل الآن تنظيمها في ضوء ظروف العصر الحاضر ، إعمالاً لقاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به يكون واجباً) .

خامساً ‏ : التعددية الحزبية ‏ :

يعتمد النظام الديمقراطي المعاصر في الحضارة الغربية على التعددية الحزبية بما يسمح بتداول السلطة بين الأحزاب الحاكمة وأحزاب المعارضة ، فهل كان نظام الشورى الإسلامي يسمح بذلك ؟ ، ذهب كثير من المستشرقين وبعض العلماء المسلمين إلى أن نظام الحكم الإسلامي يرفض مبدأ التعددية الحزبية ، ولكن هذا الرأي يتجاهل طبيعة الفكر الإسلامي وتطبيقه السليم ويعتمد على ما جرى عليه العمل في بعض العصور ، وواقع الأمر أن الفكر الإسلامي في عصور حرية الاجتهاد كان يفتح الباب أمام تعدد الآراء في إطار المبادئ العامة التي وردت في الكتاب والسنة ، وهذا التعدد ظهر صداه في تعدد المدارس الفكرية التي عُرفت باسم (المذاهب الإسلامية) ، ولم يقتصر الأمر على ذلك ، بل صَاحَبَ ذلك وصحبه ظهور أحزاب سياسية بالمعنى المفهوم لنا اليوم عُرفت في التاريخ الإسلامي باسم (الفرق الإسلامية) ، فالحزب بالمعنى السياسي يتكون من (جماعة تضع لنفسها برنامجاً معيناً تسعى إلى تحقيقه بعد الوصول إلى الحكم بإرادة الناخبين) ، والخلاف بين الفرق الإسلامية بدأ سياسياً حول نظام الحكم ، ثم تبعه اختلاف فقهي واختلاف في بعض أمور الدين ، ولا غرابة في ذلك ؛ لأن نظام الحكم الإسلامي يجمع بين الدين والدنيا ، وبدأت الفرق في الظهور مع التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في المجتمع الإسلامي بعد اتساع رقعة الدولة ودخول شعوب كثيرة في الإسلام وتدفق الأموال والغنائم في أعقاب الفتوحات الإسلامية ، فبعد الثورة ضد الخليفة عثمان والتي انتهت بقتله ، وبعد تولي الإمام علي للخلافة انقسم الناس إلى عدة فرق تبلورت نظرياتها في الحكم بالتدريج ، وأهمها ثلاث فرق ‏ :

فرقة ترى أحقية الإمام علي بالخلافة وسميت فيما بعد بفرقة (الشيعة) ، وتحصر الخلافة في ذريته ، وفرقة تحصر الخلافة في قريش ، وهم (أهل السنة أو الجماعة) ، وفرقة ترى عدم حصر الخلافة في أسرة أو قبيلة معينة ، وتجعلها حقاً للمسلمين أجمعين ، عرباً كانوا أو أعاجم ، وتسمى فرقة (الخوارج) ، والفرقة الأولى تعتبر الخلافة من أركان الدين ، ولا تُترك لاجتهاد الأمة ، أما الفرقتان الثانية والأخيرة فتريان أنها من الأمور الاجتهادية المفوضة للأمة ، وحاولت كل فرقة جمع الأنصار من حولها بغية الوصول للحكم ، وقد نجحت فرقة الشيعة في الوصول إلى الحكم وإقامة الدولة الفاطمية في مصر ، ولم ينجح الخوارج في الوصول إلى الحكم اللهم إلا في بعض أجزاء الدولة في عصر تجزئة الدولة الإسلامية في أواخر القرن الثالث الهجري ، بينما ظل أهل السنة أو الجماعة قابضين على الحكم في العصرين الأموي والعباسي ، وبعد سقوط الدولة الأموية في دمشق نجحوا في إقامة دولة لهم في الأندلس ، ومازال الخلاف قائماً بين الشيعة والخوارج وأهل السنة حتى اليوم ، ولم يقتصر الخلاف بين الفرق ‏(الأحزاب‏) الثلاث على المبادئ السياسية ونظام الحكم والقواعد القانونية وبعض أمور الدين ، بل تعداه إلى طريقة الوصول إلى الحكم ، فأهل السنة يشترطون رضاء الأمة ، بينما ترى الشيعة أنه يتم بالتوارث بوصية من السلف للخلف بعيداً عن إرادة الأمة ودون مشاركة منها ، أما الخوارج فينادون بجواز الوصول إلى الحكم بالقوة .

ولم يُكتب للنظام الحزبي سالف الذكر النمو والتطور على خلاف ما حدث في الديمقراطية الغربية لعدة أسباب أهمها: الظروف التي نشأت فيها في أعقاب الفتنة الكبرى بعد مقتل الخليفة عثمان ، وعدم اعتراف أحزاب الأقلية ‏(الشيعة والخوارج‏) بنظام الحكم الذي أقامه أهل السنة بدءاً من عهد معاوية ، وتراضت عنه الأمة لدرجة سُمي العام الذي قام فيه ‏(41هـ‏) بعام الجماعة ، وناصبته العداء علانية ؛ الأمر الذي دفع السلطة الحاكمة إلى اعتبارهم بغاة يستحقون العقاب بل والقتال ، وعدم وجود آليات وأدوات فعالة تسمح بتداول السلطة سلماً بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة ، وازداد الأمر صعوبة بعد تقرير مبدأ توارث الحكم مع بقاء سلطات الخليفة الواسعة ، وكان من أخطر نتائج هذا الوضع أن الحكام كانوا لا يعتبرون المعارضة جزءاً من نظام الحكم ، ولا يسمحون بتداول السلطة معهم ، ويمكن في العصر الحديث تنظيم هذا الموضوع بصورة فعالة ، وهو ما لجأت إليه بعض البلاد الإسلامية الآن .

وينكر البعض على الفكر الإسلامي رفضه لحرية تكوين الأحزاب ورفضه لحريتها في وضع برامجها ، وهذا الرأي فيه مبالغة كبيرة ، فالواقع أن النظم الديمقراطية الغربية تختلف فيما بينها بخصوص حرية تكوين الأحزاب ، فبعضها يستلزم لقيام حزب سياسي الحصول على موافقة الدولة ، وبعضها الآخر يطلق حق تكوين الأحزاب ، كما أن بعض الدول تشترط عدم خروج الأحزاب على بعض المبادئ الأساسية في المجتمع ، فلا تسمح بقيام حزب جمهوري في بلد ملكي ، والعكس بالعكس ، ولا تسمح بقيام حزب فاشي أو نازي في بلد ليبرالي وهكذا ، والبعض الآخر يطلق للأحزاب حق وضع برامجها ولو كانت مخالفة للمبادئ التي أقرها دستورها ، والفكر الإسلامي يسمح بتكوين الأحزاب السياسية كما رأينا ولكنه يقيده بعدم الخروج على المقومات الأساسية للمجتمع ، كما حددها القرآن والسنة ، فلا يجوز إقامة حزب علماني يخلّي مسئولية السلطة الحاكمة عن مسئولية رعاية الدين ، ولا تسمح بقيام حزب ينادي بمبادئ تخالف الأحكام القطعية في الكتاب والسنة مثل نظم المواريث وهكذا .

الخلاصة ‏ :

ونخلص من كل ما تقدم أن أوجه الشبه والتلاقي بين الشورى الإسلامية والديمقراطية أكثر من أوجه الاختلاف ، ويرجع ذلك الاختلاف إلى أن للحضارة الإسلامية ونظمها أصولاً ومبادئ تختلف عن تلك التي تقوم عليها الحضارة الغربية ، كما أن لكل منها غايات وأهدافاً قد تتطابق وقد تختلف ، ونتيجة لذلك اختلفت الأدوات والآليات ومعاني المصطلحات ، ونستطيع أن نجمل كل ذلك فيما يلي ‏ :

أولاً ‏ : يعترف النظامان الإسلامي والغربي بمجموعة من المبادئ من أهمها ‏ :

المساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات ، وكفالة مجموعة من الحريات والحقوق العامة ، ويختلف النظامان في أصل هذه المبادئ والحريات والحقوق ، فالنظام الغربي يستنبطها من ضمير الجماعة ومن مبادئ العدالة والقانون الطبيعي ، أما الفكر الإسلامي فيردها إلى فروض الكفاية أو فروض العين ، ويعتبر بعضها من حقوق الله ، وبعضها الآخر من حقوق العباد ، ونوع ثالث يدخل في عداد الحقوق المشتركة بين الله والعباد . . .

ثانياً ‏ : يسلم النظام الغربي بمبدأ السيادة للأمة ، ويرد كل سلطات الدولة للأمة ، سواء في ذلك السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية أو السلطة القضائية ، أما الفكر الإسلامي فإنه لا يعرف هذه المصطلحات ويعرف شبيهاً بها ، وهي فروض الكفاية ، ويُدخلها في الحقوق المشتركة بين الله والعباد ، وناط بها الخليفة وغيره من أصحاب الولايات بصفتهم نواباً عن الأمة .

وفي كلا النظامين تتميز شخصية الحاكم عن شخصية الأمة ، وتنفصل ذمته المالية عن ذمتها .

ثالثاً ‏ : تقوم العلاقة بين الدولة والفرد في الفكر الغربي على أساس العقد الاجتماعي وهو عقد تصوّري ، لا وجود له في الواقع ، أما في الفكر الإسلامي فإنها تقوم على عقد حقيقي هو (البيعة) .

رابعاً ‏ : يتم اختيار الحاكم في النظامين الإسلامي والغربي بالانتخاب مع اختلاف طريقته فيهما .

خامساً ‏ : نَظّمَ الفكر الغربي مسئولية الحاكم أمام الشعب ووضع ضوابط له ، والفكر الإسلامي يقر بمبدأ مسئولية الحاكم أمام الأمة ، ولكن ظروف المجتمع الإسلامي تقتضي وضع ضوابط أكثر دقة ، فضلاً عن أن مسئولية الحاكم تقتصر في الفكر الغربي على الشئون الدنيوية والجزاء الدنيوي ، أما في الفكر الإسلامي فإنه ناط بالحاكم مسئولية رعاية الشئون الدينية والدنيوية معاً ، وجزاء المخالفة مزدوج دنيوي وأخروي .

سادساً ‏ : يقوم النظام الغربي على أساس الديمقراطية النيابية ، وقد عرف الفقه الإسلامي نظاماً شبيهاً هو نظام (الإنابة) أو (التفويض) .

سابعاً ‏ : تُعتَبر التعددية الحزبية ركيزة أساسية للديمقراطية الغربية ، ويعترف النظام الغربي بحرية تكوين الأحزاب وما تضعه لنفسها من برامج ، وذلك بصورة مطلقة في بعض البلاد وبصورة مقيدة في بعضها الآخر ، وأصول الفكر الإسلامي تسمح بالتعددية الحزبية بصورة مقيدة بحيث لا تخالف المقومات والمبادئ الأساسية التي وضعها الكتاب والسنة .

ثامناً ‏ : يوجد اختلاف جذري بين الفكر الإسلامي والديمقراطية الغربية في خصوص المقاصد والغايات ، فالنظام الغربي يحدد أهداف النظام الديمقراطي بسعادة الفرد في الحياة الدنيا ؛ ولذلك لا يدخل في اعتباره الأمور الدينية ويتركها للكنيسة ، كما أنه يترك الجوانب الأخلاقية للفرد وضمير الجماعة ، أما النظام الإسلامي فإنه يُدخل في فروض الكفاية التي يتولاها الخليفة نيابة عن الأمة أموراً دينية وأخلاقية بجانب الأمور الدنيوية ، وهذا الجانب الإيماني والأخلاقي من خصائص النظام الإسلامي .

تاسعاً ‏ : يستطيع نظام الشورى الإسلامي أن يتعايش بسهولة ويسر مع النظام الديمقراطي الغربي في ظل العولمة التي بدأت تجتاح العالم اليوم .

إن العالم الغربي يشكو الآن من الطغيان المادي ، وما صاحبه من خواء روحي ، ولعله يستفيد من نظام الشورى الإسلامي الذي يعتمد على الجانبين الروحي والمادي ، فقد ثبت بالتجربة أن ترْك الدين لدخيلة النفوس يؤدي إلى ضياعه ، وانعدام التوازن في السلوك البشري، وهو ما عبر عنه الإمام الغزالي بقوله ‏ :

(الدين أُسّ ، والسلطان حارسٌ ، وما لا أُسّ له مهدوم ، وما لا حارسَ له فضائع) .

الحاشية ‏ :

‏(ا‏) أجمع علماء الشيعة على أن الإمامة ركن في الدين ، ومَن لا يقر بإمامة علي وذريته فهو كافر مخلد في النار ؛ ونتيجة لذلك أنكروا على الأمة حقها في اختيار الإمام ، وجعلوه من واجبات الإمام ، فعليه أن يوصي بمَن يخلفه من ذرية الإمام علي ؛ ومن هنا كان الإمام معصوماً من الخطأ ، ويرتفع على المساءلة أمام البشر .

‏(2‏) من أبرزها مؤتمر (الجابية) الذي عُقد في عام 64 هـ ، واستمر أربعين يوماً ؛ وذلك للتشاور فيمن يخلف معاوية الثاني ، الذي تُوفي دون أن يعهد بالحكم لأحد في وقت اشتداد الخلاف بين بني أمية وابن الزبير ، وانتهى المؤتمر بمبايعة مروان .