الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

تدمر : شاهد ومشهود

في عام 1980 توجه الشاب "محمد سليم حمّاد" من بلده في الأردن إلى سورية لغرض الدراسة في جامعة دمشق، وكأي شاب طموح كان "محمد" يأمل أن يحوز على شهادة علمية تسعد أسرته، وتعود عليه بالفائدة في حياته العملية..

لم يكن الشاب "محمد" قد أتم العقد الثاني من عمره عندما وجد نفسه محاطاً بأجواء مشحونة بالمواجهة في بلد ينتفض فيه شعبه من أجل نيل حرياته الإنسانية الأساسية، ولم يسبق لهذا الشاب أن خاض تجربة العمل السياسي، كما أنه لم يمارس أي نوع من الأنشطة المناوئة للحكومة السورية، غير أن الأخيرة وجدت أن علاقة "محمد" بمحيطه الطلابي ومعظم أفراده من الفتيان السوريين المناوئين للحكم الشمولي المغلق كافية لاعتقاله وإلقائه في غياهب سجن تدمر الصحراوي مدة 11 عاماً دون محاكمة.

وفي كتاب أصدره عام 1998 تحت عنوان "تدمر .. شاهد مشهود" يروي "محمد سليم حماد" تجربته القاسية في السجون السورية، وهي معاناة تلخص ما يواجهه آلاف المعتقلين السوريين والعرب (من لبنان وفلسطين والأردن والعراق ...)، والذين يرفض الحكم السوري الإقرار بوجودهم في معتقلاته ، كما لم يستجب لأي مناشدات للإفراج عنهم، لغرض التخفيف عن أسرهم وعائلاتهم المنكوبة بفقدانهم منذ سنوات طويلة.

يقول "محمد" في كتابه الذي يقع في 245 صفحة من القطع المتوسط إن تعرضه للتعذيب العنيف بدأ مع اعتقاله في فرع قيادة المخابرات في منطقة العدوي بدمشق، حيث حل رقم (13) محل اسمه، ونزعت عنه ملابسه، وأمره المحققون بأن يجثو على ركبتيه مطأطئ الرأس ليجيب على أسئلتهم وسط ضرب مبرح، وتهديدات بالقضاء عليه.

ويضيف "محمد" الذي لم يكن بوسعه الإقرار بما يطلب أنه نقل بعد ذلك إلى غرفة مخصصة للتعذيب أسفل قبو مظلم، حيث علق بالحبال في سقف الغرفة وهو مجرد الثياب، ثم انهال عليه الجلادون بالضرب بأسياخ النار وكبلات الكهرباء والعصي، واندفع هؤلاء إلى استخدام اللسعات الكهربائية في مناطق حساسة من جسمه مهددين إياه بالموت ما لم يعترف بما يطلب منه.

وبعد تلك الجولة من العذاب التي تعرف بلغة الجلادين "الشبح" ، نقل "محمد" إلى تعذيب من نوع آخر يدعى "بساط الريح" ، وهو لوح من الخشب يشد المعتقل إليه بواسطة قطع حديدية، ثم يرفع نصفه، حيث يبدأ الضرب على القدمين بكبلات معدنية، وأسلوب آخر يعرف بـ " الكرسي الألماني" وهو كرسي ذو أجزاء متحركة يوثق المعتقل إليه من ذراعيه وساقيه ثم يُسحب مسنده الخلفي إلى الوراء، ساحباً بذلك الجذع الأعلى معه، فيما تظل قدماه مثبتتان من الجهة الأخرى، فيتركز الضغط على الصدر والعمود الفقري، مما يؤدي إلى تهتك العمود الفقري، والإصابة بالشلل لاحقاً.

ويروي الشاب الأردني "محمد سليم حماد" في كتابه أن جولة التعذيب التي تعرض لها أثناء اعتقاله لم تكن سوى مرحلة أولى ضمن طريق مضن يسلكه المعتقلون السياسيون في سورية، فقد نقل "محمد" بعد ذلك إلى فرع التحقيق العسكري بدمشق ، حيث أخضع لجولات جديدة من التعذيب القاسي الذي يشمل الصعق بالكهرباء ، والكي بالنار، والجلد والشبح.

ويعتبر سجن تدمر الذي أقيم زمن الاستعمار الفرنسي لتعذيب المجاهدين ضد الاحتلال الأسوأ سمعة بين السجون والمعتقلات السورية، ويعتبر التعذيب جزءاً من منهجية الاعتقال، حيث يبدأ منذ اللحظات الأولى لوصول المعتقل وهو معصوب العينين ، ويختتم بوفاته ، أو الإفراج عنه وهو أمر نادر كما تشير الوقائع.

ويعدد المعتقل الأردني " محمد سليم حماد" أساليب التعذيب التي تعرض لها أو شاهدها في سجن تدمر ، على النحو الآتي:

  • التعليم: وهو انتقاء واحد من المعتقلين بشكل عشوائي ، حيث يتم تعريضه لوجبات قاسية من العذاب إلى أن يقضي نحبه ، وبذلك يكون عبرة لغيره من المعتقلين.

  • الدولاب: حيث يوضع المعتقل داخل دولاب مطاطي ، وترفع قدماه في الهواء ، بحيث ينهال عليه الجلادون بالسياط ، وبعد ذلك تربط القدمان بسلسلة من الحديد تمنعهما من التحرك ، ويلي ذلك انقضاض على المعتقل بالضرب والركل ، إلى أن تسيل الدماء منه.

  • المراقبة الدورية: في المهجع الذي يكتظ بالمعتقلين ، وهو عبارة عن غرفة مستطيلة تحتوي دورة مياه وحمامين ، وفي السقف فتحتان مغطاتان بقضبان حديدية ، ويقوم عناصر المخابرات والشرطة العسكرية بالتعرض للمعتقلين كافة أو انتقاء واحد منهم ، كلما طلب بدء جولة جديدة من التعذيب.

  • التفقد: وهو عملية الإحصاء اليومي للمعتقلين ، حيث تصاحبه على الدوام عمليات ضرب وسب وجلد ، ولا يسمح للمعتقلين بالنوم إلا على بطانيات بالية ، لا تتيح لهم الوقاية من برد الصحراء القارس.

  • التنفس: حيث يعمد الجلادون إلى استغلال اللحظات التي يخرج فيها المعتقلون إلى باحة السجن، للانقضاض عليهم بالضرب بواسطة العصي والكبلات، ومنعهم من التحدث إلى بعضهم، ويعتبر الطعام المقدم إلى المعتقلين جزءاً من عملية الإساءة التي تتميز بها المعتقلات السورية، وخاصة سجن تدمر الصحراوي، وتتميز الأطعمة في غالب الأحيان بأنها فاسدة ، وتسبب الأمراض المعوية للسجناء ، وفي بعض الأحيان يؤمر المعتقلون بأكل الذباب والصراصير والفئران الميتة تحت التهديد والوعيد.

  • الحلاقة: يؤمر المعتقل بالجلوس جاثياً أمام الحلاق وهو أحد جلادي السجن، حيث يقوم " الحلاق" باستخدام موس جارح مع الضرب والشتم ، وغالباً ما تتسبب العمل بإصابة المعتقل بجروح غائرة في الرأس والوجه.

  • الحمّام : حيث يخرج المعتقلون إلى باحة السجن ، وينهال عليهم الجلادون بالضرب والجلد، ثم يساقون إلى مقصورات ضمن مجموعات تضم كل واحدة نحو ستة معتقلين، ويوضع هؤلاء تحت رشاش يطلق ماءً بارداً ، وهم ينزعون عنهم ملابسهم.

ويصف "محمد" في كتابه الأجواء الرعيبة التي تخيم على معتقل تدمر ، وعملية الإعدام المتواصلة للسجناء السياسيين ، إلى جانب وفاة عدد منهم نتيجة إصابتهم بأمراض خطيرة ، لم تتح السلطات لهم فرصة الحصول على العلاج في المشفى ، والمحاكمات الصورية التي يقوم بها ضباط الأمن والمخابرات ، حيث تصدر أحكام عشوائية تتصف بالقسوة استناداً إلى اعترافات تم انتزاعها تحت التعذيب ، ورغم هذه الصورة المقيتة ، فقد أرغم الجلاوزة السجناء وغالبيتهم من طلبة الجامعات على التصويت بـ "نعم" خلال حملة إعادة انتخاب الرئيس حافظ الأسد لولاية جديدة في الحكم عام 1991 ، ويقول "محمد" إن الجلادين أجبروا المعتقلين على كتابة كلمة "نعم" بدمهم إمعاناً في القسوة.

ويسط الكتاب/الوثيقة مشاهدات عدد من المعتقلين أثناء مجزرة سجن تدمر في 27 يونيو 1980 عندما أقدمت سرايا الدفاع بقيادة شقيق الرئيس "العقيد رفعت الأسد" على قتل ما يربو على 600 معتقل ودفنهم في مقابر جماعية شرق بلدة تدمر.

إن محمد الذي ما زال يعاني من آثار سنوات اعتقاله الطويلة، يتقدم بالمناشدة إلى هيئات حقوق الإنسان ومناصري الحريات العامة لبذل كل ما يستطيعونه من الضغط على الحكومة السورية للإفراج عن المعتقلين السياسيين لديها سواءً كانوا سوريين أو غير سوريين ، وإرسال لجنة لتقصي الحقائق إلى سجن تدمر ، للوقوف على عمليات التعذيب التي تتم داخله، ومطالبة الحكومة بالكشف عن أسماء الذين توفوا تحت التعذيب ، ومحاكمة الأفراد والمسؤولين الذين تسببوا في تلك الحوادث، ووقف كافة أشكال انتهاك حقوق الإنسان في سورية.