الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

هي نهاية الفكر المتطرف وولادة ديموقراطية إسلامية؟

خالص جلبي

اشتبكت في نقاش طاحن مع مجموعة من المتشددين استمر عشر ساعات حول سؤال محدد: لماذا تقدم الغرب وليس معه كتاب وسنة؟ ولماذا تخلف المسلمون؟ وكان الجواب ان الغرب غير متقدم لأنه غير مسلم. وان التقدم ليس في انتاج الطائرات والكمبيوتر. وهكذا وقعنا في فخ المنهج الارسطاطالي. فكل تقدم غير الاسلام هو تخلف. والغرب غير مسلم. الغرب اذاً متخلف. وبناء على التعريف السابق يصبح البرلمان الاوربي حسب رؤية المتشددين تخلفا. وفخر الصناعة الالمانية في انتاج سيارات المرسيدس في شتوتجارت تخلفا، والصدق في المعاملة، والالتزام بالمواعيد، واحترام حقوق الانسان، واتقان العمل، ونظافة دورات المياه العامة، والعدل في الرعية فلا يعتقل المواطن على الشبهة ويوضع على الخازوق.. يصبح كل هذا على حد تعريف المتشددين تخلفا. ألا ساء ما يحكمون.

وفي المانيا افتتح كاتب مقالته في مجلة اسلامية بهذه الجملة: (المسلم الحق لا ينطق الا حقا). وهذا التقرير لا يوجد إلا في دماغ الكاتب فلا يوجد (المسلم الحق) والله وصف نفسه بالحق فقال (ذلك بأن الله هو الحق). والمغالطة الثانية ان المسلم الارضي ينطق حقا وباطلا. وهنا يحصل خلط بين ثلاثة أمور: الاسلام والمسلمين. البشري والالهي. الذات ومسألة الآخر. فالإسلام هو نموذج مثالي والمسلمون بشر يصعدون ويهبطون يحققون ويفشلون. وعمل البشر يخضع لقوانين اجتماعية. والله غير متحيز للمسلمين وقانونه يسري على الجميع. قل فلم يعذبكم (بذنوبكم) في الجزائر وأفغانستان؟

وهذا يفسر ثلاثة أمور: لماذا استوردنا سيارات ولم نستورد الديموقراطية؟ ولماذا نبايع الزعيم السياسي مثل شيخ الطريقة الصوفية الى الأبد؟ وتوزع البطاقات الانتخابية مثل الحروز والتمائم على حد تعبير مالك بن نبي؟ وثانيا لماذا ينجح البرلمان الاوربي في انقاذ حياة أوجلان الكردي وتغيير قانون الاعدام في تركيا بعد ان لاح فوق رأسه حبل المشنقة ثم دنا فتدلى، ولم تنجح كل مظاهرات الاكراد في انقاذ رقبته؟ وثالثا لماذا توقفنا عن الانتاج المعرفي وتحولنا الى كوكب تائه في الفضاء التاريخي الموحش بدون جاذبية وتوازن؟

إن أعظم أزمة ساحقة يتعرض لها الانسان هي عجزه عن الاستفادة مما حوله. واعتبر القرآن ان كثيرا من الآيات يمر عليها الناس وهم عنها معرضون. كما اعتبر ان الحمار لو حمل على ظهره موسوعات المعرفة كلها لم يحمل سوى اسفار. والكنيسة باعت تذاكر لمقاعد وهمية في الجنة وهي تتلو الانجيل. والذي فك حجر رشيد لم يكن المصريين بل شامبليون الفرنسي. والبترول موجود تحت اقدامنا منذ الاحقاب الجيولوجية والذي كشف عنه الغرب لحاجته لهذه المادة. وثروتنا المتواضعة تعود الى صدفة جيولوجية اكثر من العمل. فهذه كلها شواهد على قانون نفسي اجتماعي يفيد ان اعظم المناظر لا يراها الاعمى. وان انهيار الاسواق المالية لا يعني شيئا لفقير لا يملك يورو أو دولارا. وأن معجزات موسى التسع بتحويل الانهار الى دماء وقفز الضفادع فوق رؤوس الانام لم تزد قلب فرعون الا قسوة فصلب الناس على جذوع النخل وقال لتعلمن اينا اشد عذابا وأبقى.

وهذا السؤال في اشكالية تخلف المسلمين دفع (حسين احمد أمين) ان يضع عنوانا لكتابه (دليل المسلم الحزين الى مقتضى السلوك في القرن العشرين) كما كتب (شكيب ارسلان) (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم) وقدم الكتاب (رشيد رضا). وتعالج سلسلة كتب مالك بن نبي مشكلة الخسوف الحضاري التي انتبه اليها ابن خلدون منذ عام 1408م حينما اشار في (مقدمته) «ان لسان الكون نادى بالخمول والانقباض فاستجاب». وهو يعني به كسوف شمس العرب من سماء الاحداث الكونية. ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. و(موت الأمم) هنا حسب القرآن يختلف عن (موت الأفراد البيولوجي). فالجسم الحي عندما يموت تعتريه مجموعة من الصفات تسمه بالموت، تبدأ بتوقف (وظيفة الشيء) ثم يتبعه (تحلل الشكل) وموت الأمم يشبه ذلك فتتقطع شبكة العلاقات الاجتماعية ويعجز المجتمع عن السيطرة على مشاكله اليومية قبل ان يتم ابتلاعه حضاريا من أمم أخرى قوية. عندها لا يبقى للأمة سوى مدافن التاريخ. أما (الافراد) فيبقون (بيولوجيا) ولكنهم يندمجون كقطع (بلوك) في بناء أمم جديدة حية. وهكذا تهلك الأمم في التاريخ والأمة العربية لا تخرج عن هذا القانون.

وبالنسبة للعالم العربي فقد انتهوا كحضارة منذ منتصف القرن الثالث عشر وخرجوا من مسرح التاريخ حينما انهار جناحا العالم الاسلامي اشبيلية وبغداد. وما زال مخطط الانحدار مندفعا الى الاسفل بقوة ودون رحمة. وخيل للعرب منذ نصف قرن انهم تخلصوا من الاستعمار ولم تنتبه القيادات السياسية ان معركة الاستقلال الفعلي لم تبدأ بعد، لأن الاستعمار رصيد النفوس قبل الاحتلال العسكري. وعندما فشل العرب في حل المعادلة استبدلوا بالاستعمار الخارجي استعمارا داخليا ادهى وأمر. مثل من استبدل الايدز بمرض السل.

>وحسب مقالة الصحفي الاسرائيلي (أوري افنيري) الاخيرة عن المنطقة فإنها ستصبح في قبضة المارد الامريكي وينتهي الاستقلال العربي وتتبخر احلام الوحدة وتقرر امريكا سعر البترول وتلتهم الاوبيك وتدفع دول الخليج الى حافة الافلاس ويفتح ملف الحرب الصليبية الثامنة ويعيد التاريخ دورته كما كانت ايام صلاح الدين. وكما بدأنا أول خلق نعيده.

وهذا يلقي الضوء على مخطط الانحدار منذ الخمسينات الذي ازداد نكسا واصبح الوضع السياسي اسود مربادا كالكوز مجخيا. فلم نحصل استقلالا بل استبدادا، وسقطت شعوب المنطقة في يد ديكتاتوريات تفوح رائحتها حتى واشنطن فيطالب بوش بتغييرها. وهو في قسم من ذلك على حق. ونحن اليوم بفضل امريكا نتنفس الحرية بنسمات الكترونية عبر الانترنيت. وكنا من قبل نحاسب على الهمسة وتفتح صنادق البريد والرسائل من المخابرات. وبواسطة العلم الغربي انتهت الجغرافيا وتكسرت المراقبة ومعها الاستبداد وطغاة الشرق لا يصدقون. ولكن التاريخ كما قالت (كوندوليسا رايس) ان حركته ليست على نظم واحد ولكنه يتدفق بموجب طفرات مثل الكوانتوم فيتشكل العالم على نحو مستحدث كما حدث في الحرب الكونية وانهيار الاتحاد السوفيتي واحداث سبتمبر.

وفي المقابلة التي اجرتها مجلة «در شبيجل» الالمانية في أحد أعدادها الاخيرة مع الفرنسي (جيل كيبل) Gilles Kepel وهو متخصص في الاسلاميات، اعتبر ان الفكر الاسلامي على منعطف هام يودع فيه الفكر المتطرف. وان بن لادن كان يريد استدراج الامريكيين الى افغانستان كي يدفنهم في ارضها كما حصل مع الروس والبريطانيين من قبل، والذي فاته ان الامريكيين استوعبوا درس التاريخ ولم يكرروا قصة الجرذ مع المصيدة. وهو يقول في تحليله للاوضاع انه لا يعول على حماس الجماهير في الشارع فنصف حياة (تذكر) البطولة قصير في العالم العربي. وهو يشاهد ظاهرة جديدة من التحام القوى الاسلامية المعتدلة مع العلمانيين نحو توليد ديموقراطية اسلامية في المنطقة، وان تفاؤله خف مع القيادات الشابة الجديدة لخوفهم ان انفتاح المجتمع معناه كنسهم. وان عهد الثورات مثل ثورة ايران انتهى. وان القوى المتطرفة لا تستطيع تحريك الشارع العربي. وأخطر ما يهدد الانظمة هو الانفجار السكاني اكثر من المتطرفين. وقد يكون قسم من كلامه صحيحا ولكن الشيء الاكيد ان هناك تيارات معتدلة تتشكل في المنطقة. وان هناك قدراً من هامش الكتابة والتعبير وانه يزداد باتساع وتسارع. وهناك قوانين لتغيير المجتمعات تعمل بطريقتها الخاصة سواء تفاءلنا أم تشاءمنا.

أرسل لي شاب في حالة ذعر كتابا ينتشر اليوم عن قرب قيام الساعة وقدوم المهدي وان الامام السيوطي جزم في كتابه (الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف) بأن عمر الأمة لن يتجاوز 1500 سنة بحال. وهذا يعني ان امامنا لقيام الساعة 77 سنة.

وقع الذئب يوما في فخ الصياد فاقترب منه الثعلب يتأمله. قال له الذئب يقولون ان القيامة قامت. اجاب الثعلب اما القيامة فليس عندي خبرها ولكن الشيء الاكيد ان قيامتك قامت. ويبدو ان موعد قيامة الفكر المتشدد قد اقتربت

الصفحة الرئيسية