الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     
حديث محمد حسنين هيكل فى الجامعة الأمريكية 

في محاضرة بالجامعة الأميركية بالقاهرة: هيكل يدعو لطرح مشروع لكيفية انتقال السلطة في مصر، مصر الآن في حاجة إلى شرعية تؤسس لزمن

اقترح الاستاذ محمد حسنين هيكل الكاتب والصحفي الاشهر طرح مشروع تصور مستقبلي برعاية رئاسة الدولة يكون مدار حوار هدفه التوصل لمشروع يقدم تصوراً وخطوطاً واجراءات بأكبر قدر ممكن لانتقال السلطة المقبل في مصر. واشار في محاضرة القاها مساء أمس في الجامعة الأميركية بالقاهرة إلى ضرورة طرح هذا المشروع حتى لا يفاجأ أحد بالمواقيت حلت على حين غفلة والضرورات تبيح المحظورات.

وقال هيكل ان مصر تجاوزت الشرعية الأبوية التقليدية، واضاف ان مصر الآن في حاجة إلى شرعية تؤسس لزمن. وذكر هيكل في محاضرته ان العدوان المتوحش على حرمة المال العام ألحق اشد الضرر بالاقتصاد المصري وفيما يلي نص المحاضرة:

المستقبل الآن

حاضرات السيدات والسادة:

إنني سعيد اذ أجد نفسي الليلة وسط هذه الصحبة الكريمة المهتمة بالشأن العام، والحريصة على متابعة الحوار فيه.

وسعيد أيضاً إنني أتتكلم في هذه القاعة التي سمعت على مدار تاريخها صوت الحوار مفتوحاً دون قيد.

وسعيد أخيراً ان ذلك يجري في رحاب هذه الجامعة التي قامت ومازالت تقوم بدور تعليمي وتنويري أضاف إلى العقل العربي ومازال يضيف.

وحديثي الليلة حول موضوع حسبته لازما ـ وغرضي منه إلقاء نظرة فاحصة ومتأملة على أحوال مصر قبل نهاية هذه السنة بالذات ـ فتلك كما قيل وتكرر بإلحاح طوال شهورها ـ ذكرى مرور نصف قرن على ثورة سنة 1952 ـ وقيمة أي مناسبة من هذا المستوى إنها تذكير بما جرى بالأمس، وتفكير فيما يجرى اليوم، واستشراف لشكل غد مأمول ومرتجى.

وربما تفضل البعض ولاحظ انني على شدة ما اقتربت من ثورة يوليو ومن قائدها ـ تباعدت عامداً عن مناسبة الذكرى ولم اشارك بفعل او بقول في احتفالاتها ـ لسببين: اولهما ذاتي ـ والثاني موضوعي.

ـ السبب الذاتي ـ ان ذلك الاحتفال بالطريقة التي جرى بها كان هوائيا ـ صاخبا ـ ومسرحياً.

وفيما بدا لي فقد كان الاحتفال الذي امتد عاماً بأكمله «كما قيل» ـ مناسبات لا اظن ان ايا منها ترك علامة، او استنهض همة، او رسم خطا يوميء إلى افق او يدل على طريق.

ـ والسبب الموضوعي ـ ان الاحتفال جرى محاولة للتوفيق والتزويق، خلطت السياق وتعسفت مع المراحل، حتى بلغت حداً شديد الوطأة ـ ليس على التاريخ فحسب، وانما على العقل وعلى الوعي، وبالتالي على المستقبل، وعلى الضرورات التي تستدعي النظر إليه ودراسته والاستعداد لرحلته.

ولقد كان يمكن لمناسبة الذكرى ان تضع امام الشعب والأمة خريطة تكشف وترشد، لكنها لسوء الحظ وضعت امامه البوم صور لا منطق فيه ولا معنى.

كانت الصور لأربعة رجال رتُبت مواقعهم متصلة ببعضها، متتالية واحدة بعد الاخرى. وفي وضع الصور ايحاء بأن الجميع عائلة متماسكة، وعصر ممتد، وسياق متسق، وبالتالي فهم في الهوية رؤية واحدة، وفي المرجعية سند واحد، ثم انهم في النتيجة شرعية متصلة، وظني ان ذلك غير صحيح.

ولست هنا في مجال اصدار حكم اختار به او انحاز ـ مع ان ذلك انساني! ـ وانما مطلبي الآن مجرد الملاحظة، والتحديد، والتمييز، لأنه في القواعد الاساسية للحساب لا يجمع غير المتشابه!

وحقيقة الأمر ـ بدون مقارنة او مفاضلة او تقييم، اننا امام أربع صور حول كل واحدة منها اطار يحدد ويفصل، والألبوم من أوله لآخره ناطق بأن تلك الخمسين سنة لم تكن عمراً تدفق طبيعياً مرحلة بعد مرحلة، وانما هي بكل الشواهد ـ عصور متعددة ـ اختلفت ـ وتناقضت ـ وفي بعض الاحيان تصادمت.

وترتبت على هذه الاحوال نتائج: أبرزها، تباين رؤى للهوية وتباين نظر إلى المرجعية، وبالتالي تباين أسس في الشرعية. وقد تكون تلك طبيعة ظروف تبدلت ـ او طبيعة نفوس تغيرت في وطن خرج طبق مقولة عالم الاجتماع الاشهر «ماكس فيبر» من مرحلة الاطار الأبوي التقليدي للشرعية ـ الى شرعية مرحلة الانتقال وفيها دور الرجل الواحد سواء كان ذلك الرجل زعيما شعبيا، او خلفاً له من اقرانه، او من جهاز الدولة المسئول عن تسيير الأمور ـ «وذلك تقدير «فرانسيس فوكوياما» وهو عالم اجتماع آخر معاصر»، مع العلم «وتلك مرة أخرى عودة إلى «ماكس فيبر» ـ ان كلا من المرحلتين التقليدية الأبوية، ومرحلة الرجل الواحد وما بعدها تمهد للنموذج الأرقى من الشرعية وهو الشرعية الدستورية القانونية.

وقد كان ذلك هو الهدف الذي كافح الشعب المصري ـ وغيره من شعوب الأمة العربية لبلوغه ومازالوا ـ مؤمنين انه حق الوطن وكرامته ودرس التاريخ وعبرته، وكان هناك شكل لهذا النموذج من الشرعية قبل الثورة ـ لكن نتائج التجربة تكشف انه ظل استعارة للمظهر دون الجوهر لأن الشرعية الدستورية والقانونية تتأتى وتترسخ نتيجة تطور اقتصادي وسياسي وثقافي يتجلى معه نوع من النمو المجتمعي يعطي للشعوب والأمم فرصة للحوار تتكافأ فيه المواقع، ومن ثم تتوازن المصالح وتتوافق الأهداف، وللانصاف فإنه في بلدان مستعمرة او محتلة، وهو ما كان عليه الحال في كل البلدان العربية إلى بداية الخمسينيات من القرن العشرين، فإن الكلام عن الشرعية الدستورية القانونية يجيء حلماً متخطياً للواقع، لأن الاستعمار والاحتلال الأجنبي كلاهما مانع من الشرعية، والممكن الوحيد في مثل تلك الظروف هو ملء الفراغ بنوع من نصوص القانون تفرضه القوة الغالبة. وحكم الحياة في مواجهته ظهور نوع من مشروعية المقاومة يعبر عن اصرار يتحدى الواقع المفروض ويجاهد للانتصار عليه.

ومن قبل الثورة ـ وبعدها ـ وحتى الآن، فليس من باب التجاوز ان يُقال ان ما عاشه العالم العربي ظل محصوراً في نوعين ـ او اطارين من الشرعية ينتظران ثالثهما طبق مقولة «ماكس فيبر»!

ـ عرف العالم العربي تجربة الشرعية الأبوية التقليدية ـ قبلية أو عائلية ـ وهي مازالت حاكمة حتى الآن في بعض اوطان الأمة، تسمى نفسها ملكيات أو سلطنات أو مشيخات أو أوصافاً من هذا القبيل.

ـ وعرف العالم العربي تجربة شرعية الانتقال يبرز فيها دور الرجل الواحد زعيماً شعبياً، او خلفاً له نادته الظروف من اقرانه أو من غيرهم.

ـ وفي التجربة المصرية ـ وربما في غيرها ـ فإن تكرار دور الرجل الواحد أربع مرات لا يعني وجود وحدة في النسب ـ او اتصال للسياق ـ او مصدر مستمر لذات الشرعية!

ـ 1 ـ

كان اللواء «محمد نجيب» أول هؤلاء الرجال الأربعة ـ في التجربة المصرية ـ وكان يمثل شرعية التغيير من الملكية الى الجمهورية، ومواصفاته انه الرجل الذي لقي اجماع ضباط الجيش في انتخابات ناديهم «آخر ديسمبر 1951»، وكانت تمهد له طلعة تقابل الناس بقسمات رجل ناضج، متهلل بابتسامة تحمل رسالة طمأنينة تبشر بأن التغيير الذي هبت رياحه فجر 23 يوليو 1952 ـ آمن ومعقول.

وفي ظروف ذلك التغيير فإن الرجل قام بدوره كاملا ـ على ان المشكلة التي واجهته في النهاية ان اعتبارات التغيير وملابساته ـ كانت مختلفة عن دواعي التغيير واحكامه. وفيما بين هذا الاختلاف ـ بين قدوم التغيير، وبين ضغط مطالبه ـ وقع مأزق الصورة الأولى، وكذلك رُفعت من مكانها دون فرصة لها تحدد هوية ـ او تؤكد مرجعية ـ أو تؤسس شرعية.

ـ 2 ـ

وكان «جمال عبدالناصر» هو الرجل الذي يمثل دواعي التغيير ومطالبه، ومعه يصح القول بأن الشرعية الثورية ليوليو بدأت.

وأرجح التقدير ان الشرعية الثورية ليوليو لم تكن نظرية معروفة أو خطة متكاملة ولعلها كانت اقرب إلى تغيير متجدد عن المشروع الوطني القومي الذي ينادي مصر في عصور نهضتها ـ وقد ناداها اكثر من مرة عبر القرون وحتى قبل ان تتحدد بوضوح تلك المعالم السياسية المتفق عليها لكيان وطني او رابطة قومية ـ او شريعة حقوق أساسية يحكمها دستور وقانون وغير ذلك من القيم التي طرحتها وعمقتها الثورات الكبرى في التاريخ الانساني.

وفي تعبيرها المتجدد ـ وفي زمانها ـ فإن الشرعية الثورية ليوليو حاولت التوصيف والتحديد، وهنا فإنها امام قضية الهوية عرضت نفسها ـ كما هي طبيعة أي حياة إنسانية ـ في عدد من الملامح متعددة ومنسجمة في نفس الوقت: ـ ملمح هوية مصري ـ يتصور وطناً يحقق استقلاله، ويخطط لتنمية شاملة توفر أرضية لتقدم يواكب العصر، ولعدل اجتماعي تتكافأ فيه الفرص بقدر ما يتسع نطاق العمل الوطني.

ـ وملمح هوية قومي ـ يتصور انتماءه إلى أمة تفاعلت في محيطها عوامل الجغرافيا المتصلة، والتاريخ المتواصل، ومعهما عوامل الثقافة المستندة إلى لغة واحدة ـ إلى جانب تأثير التشريع المعتمد لأكثر من اربعة عشر قرناً على مصدر رئيسي تمثله سلطة خلافة متماسكة ـ او مبعثرة ـ في شظايا تسمى نفسها دولاً أو امارات أو حتى خديويات!

ـ وملمح هوية انساني مستقل مفتوح لتعاون حر تتسع دوائره عربية ـ إسلامية ـ آسيوية ـ وأفريقية. وهذا التعاون حريص في كافة الأحوال ان يكون استقلاله موصولاً بميثاق الأمم المتحدة ومبادئه.

وهنا كانت مرجعية يوليو استطراداً منطقياً لهذه الملامح المتعددة والمنسجمة لهويتها:

ـ فهذه المرجعية على التراب الوطني كفاح لبلوغ الاستقلال ينهي بقايا الاحتلال العسكري والسيطرة الامبراطورية ويصفي مواقع الاستغلال الاجنبي اقتصادية ومالية.

ـ وهذه المرجعية في العمل الداخلي خطط للتنمية «أساسها التصنيع والتعليم» ـ وجهدا في تحقيق العدل الاجتماعي «يقوم في الزراعة على إعادة توزيع الأرض وتدعيم الملكية بالتعاون، وفي الصناعة على الملكية العامة كما كان الحال في معظم بلدان العالم المتقدم، بالذات في أوروبا ـ بعد الحرب العالمية الثانية» ـ ويتزامل مع التنمية الشاملة طموح إلى المشاركة السياسية يبحث عن وسائل تمكن منها.

ـ وهذه المرجعية في المجال القومي دعوة إلى وحدة الهدف ووحدة العمل ووحدة الأمن، باعتقاد ان حق الأمة أكبر من سلطة أي نظام يحكم في وطن من اوطانها.

ـ وهذه المرجعية في المجال الخارجي يد ممدودة إلى العالم القريب والبعيد «من تأسيس حركة التحرر الآسيوي الافريقي في باندونج والقاهرة، إلى تأسيس تجمع الدول غير المنحازة في بلجراد ودلهي والقاهرة، إلى تأسيس منظمة الوحدة الافريقية من الدار البيضاء وأديس أبابا إلى القاهرة»، وذلك طريق طويل ومضن في طلب السلام مع العدل، يصاحبه استعداد في أي وقت لحمل السلاح ورد للعدوان.

ومن هذه الملامح ـ تشكلت هوية يوليو ـ وتحددت مرجعيتها ـ وتأسست شرعيتها.

لكن شرعية يوليو واجهت مأزقها الأكبر سنة 1967 ـ لأن ما وقع في يونيو من تلك السنة ـ ومع الاعتراف بضلوع قوى خارجية كبرى في تدبيره وتنفيذه ـ أدى إلى شرخ خطير، بحكم ان اي نظام لا يستطيع حماية ترابه الوطني، مُهدد في مبرر وجوده، وانكشاف شرعيته.

وكان يمكن لشرخ سنة 1967 ان يتحول إلى كسر، لولا ان جماهير الشعب المصري وجماهير الأمة العربية خرجت يومي 9 و10 يونيو تفرض إرادة المقاومة فرضاً، وتصر على مواصلة القتال، على ان ذلك الخروج لم يكن شفاء، وانما كان معالجة موقوتة ـ تمنح لحساب مهمة محددة، هي مهمة إزالة آثار العدوان، وبعدها يكون لكل حادث حديث ـ كما يقال!

وكانت الأمة فيما تصرفت به اصيلة وحكيمة.

وعلى نحو صادق مع النفس فإنه لا يصح لأحد نسيان ان شرعية يوليو اصبحت يوم 5 يونيو 1967 ـ ثم ان هذه الشرعية جرى تجبير شرخها للتمكين من مهمة مؤقتة، ولمدة محددة.

وكان «جمال عبدالناصر» نفسه أول من فهم الحقيقة واستوعب معناها وتصرف وفق املائها ـ سواء حين أعلن قراره بالتنحي مساء 9 يونيو، أو حين عاد عنه ظهر 10 يونيو تحت ضغوط شعبية مصرية وعربية وعالمية. واظن انني الطرف الذي يستطيع ان يؤدي القسم ويتكلم بيقين، فقد كنت شاهداً وحيداً حاضراً عاش مع «جمال عبدالناصر» داخل غرفة مكتبه طول نهار 9 ينويو، وكل صباح 10 يونيو، ورأى بنفسه وتابع ـ واكثر من ذلك ـ كانت لديه فرصة ـ وشرف ـ ان يساعد في صياغة ثلاث وثائق رئيسية عبرت عن الحقيقة ودرسها ـ وهذه الوثائق الثلاثة هي: خطاب التنحي مساء 9 يونيو ـ والرسالة إلى مجلس الأمة بالعودة عنه ظهر 10 يونيو 1967 ـ وفيما بعد تعزيزاً وتوثيقاً للحقيقة ودرسها: بيان 30 مارس 1968، وفي هذه الوثائق الثلاث ونصوصها مشهورة، تحدث «جمال عبدالناصر» عما جرى بأمانة وتحمل مسئوليته بشرف ـ وقبل مقتضياتها مقتنعاً.

وفي خطابه إلى مجلس الأمة ظهر 10 يونيو 1967، فإن «جمال عبدالناصر» قال بالحرف: «انني مقتنع بالأسباب التي بنيت عليها قرارى «بالتنحي عن السلطة، وفي نفس الوقت فإن صوت الجماهير بالنسبة لي امر لا يُرد، ولذلك فقد استقر رأيي على ان اظل في موقعي حتى تنتهي الفترة التي نتمكن فيها جميعاً من إزالة آثار العدوان، على ان يعود الأمر بعد هذه الفترة إلى الشعب».

كان ذلك ما قاله، واعرف بيقين انه كان صادقاً فيه، بل أزعم انني اعرف كيف كان ترتيبه لما بعد إزالة آثار العدوان، وباختصار ـ على الأقل في هذه المناسبة ـ فقد كان مصمماً على أنه ـ بعد تحقيق هذا الهدف «ومعه استكمال بناء السد العالي رغم ضغوط حرب الاستنزاف» لابد ان تقوم في مصر شرعية من نوع مختلف، وكان حسابه ان الشعب بموقفه في تحمل المسئولية والقبول بتبعات استمرار المقاومة، اثبت ان طاقته تجاوزت شرعية الثورة، وشرعية قيادتها معا. ومع انه اعتبر ذلك في جزء منه نجاحاً يحسب لها ـ فإنه في نفس اللحظة ادرك ان دوره قارب نهايته، وان عليه بعد إزالة آثار العدوان ان ينسحب من الصورة، تاركاً الأمة والتاريخ معاً لحركة التقدم الطبيعي ـ وتاركاً سجله الكامل لأجيال قادمة تحقق فيه وتدقق وتوازن وتحكم على تجربته في مجملها ـ مبدا وتنفيذاً، فكراً وفعلاً، آفاقاً وعصراً.

ـ 3 ـ

وعندما جاء «أنور السادات» على طريق «عبدالناصر» «كما قال بنفسه» ـ فإنه ظل يواصل العمل داخل تلك الشرعية المؤقتة المرهونة بمهمة محددة هي إزالة آثار العدوان، وقد تحمل «انور السادات» مسئوليته في ظروف بالغة الصعوبة والحرج.

وكانت شرعية يوليو ـ ما بقى من اصلها او ما اضيف اليها مؤقتا ـ قاعدته ظهر يوم 6 أكتوبر 1973 حين اصدر قرار الحرب، وعندما تحقق ذلك العبور للجسور، وتمكنت الجيوش العربية لمصر وسوريا ـ يدعمها تحالف عربي ودولي واسع ـ من احراز ذلك النجاح المشهود بعد ظهر يوم 6 اكتوبر، فإن شرعية يوليو ـ ما بقى من الاصل وما اضيف إليه ـ ادت مهمتها، بشهادة ما رآه وزير خارجية الولايات المتحدة «هنري كيسنجر» وقدره وسجلته على لسانه محاضر محادثاته السرية مع قادة إسرائيل «وهذه المحاضر منشورة بنصوصها ضمن وثائق زمنها» ـ وفيها قوله لقادة إسرائيل وبينهم «جولدا مائير» و«موشى ديان» و«ييجال آللون» «ان العرب احرزوا نصراً استراتيجياً يعطيهم حقا ان يطلبوا وان يحصلوا على انسحاب القوات الإسرائيلية بالكامل من كل الأرض العربية المحتلة بعد 4 يونيو سنة 1967، كما انه ليس امام إسرائيل غير ترتيب نفسها على هذه الحقيقة والانصياع لحكمها».

والشاهد انه من طبيعة الاشياء والبشر ان كل رجل لا يكفيه ان يكون تكملة لصفحة، وانما طموحه الإنساني ان يبدأ من رأس صفحة، فاذا كان معه انجاز على مستوى اكتوبر 1973، اذن فإن الرئيس السادات كانت لديه بالفعل امكانية ـ واهلية ـ فتح صفحة من اولها ـ على شرعية جديدة.

وقد مضى الرئيس السادات يؤسس لهذه الشرعية الجديدة، برؤية مختلفة للهوية، ومصدر مغاير للمرجعية.

ـ كانت الهوية في رؤيته مصرية.

ـ وكانت المرجعية في تقديره توجها إلى نوع من الرأسمالية عرف باسم الانفتاح.

ـ وجاءت بعد ذلك ـ وهو منطق الاشياء ـ نقلة في الساحة السياسية الداخلية من تنظيم واحد لما سمى تحالف قوى الشعب العامل ـ إلى انشاء ثلاثة منابر مختلفة سميت يميناً ويساراً ووسطاً.

ـ وفي نفس الوقت كانت مرجعية السياسة الخارجية للشرعية الجديدة ـ ما رآه الرئيس «السادات» صحبة مع المتقدمين عن طريق علاقة خاصة بالولايات المتحدة الأميركية ـ تتبعها امكانية صلح مع إسرائيل، يبدأ منفرداً اذا اقتضى الأمر، ويلحق به الآخرون حين يريدون ـ أو حين يقدرون!

وهنا كان مأزق شرعية أكتوبر، لأن ما وصلت اليه في رؤية الهوية وفي سند المرجعية لم يكن متسقاً مع الواقع في «شرعية أكتوبر» ـ وأوله ان الرئيس السادات توصل إلى قرار الحرب بعد أكثر من ثلاث سنوات في رئاسته ـ وعندما يئس من اقناع الولايات المتحدة الأميركية بالمساعدة على بلوغ حل عادل لأزمة الشرق الأوسط ـ ولم يحقق مطلبه رغم كل ما حاول بسبب الانحياز الأميركي لإسرائيل ـ وحين وصل الرجل الى لحظة الحسم فإنه تحمل مسئولية الحرب، وكذلك جاء قراره الشجاع بقبول المخاطرة.

ثم حدث ان الرئيس السادات، وعند توقف اطلاق النار، اعتبر ان 99% من أوراق حل أزمة الشرق الأوسط في يد الولايات المتحدة الأميركية، وبدا ذلك للوهلة الأولى مفاجئاً، فإذا أضيف اليه ان حرب اكتوبر كانت عملاً مشتركاً مع سوريا، وتحالفاً عربياً أوسع، ثم انها كانت بالكامل سلاحاً سوفييتياً، فقد وقع تناقض بين النتائج والمقدمات!

وزاد على ذلك في شأن المرجعية تناقض آخر، مؤداه ان القطاع العام المصري (وهو قاعدة التنمية التي قام بها الشعب المصري في ذلك الوقت)، كان الركيزة الاقتصادية التي تحملت تكاليف وأعباء انجاز اكتوبر، لكنه عندما جاءت شرعية اكتوبر تعيد حساب مرجعيتها، فإن الذين مشوا بشجاعة على جسور العبور في اكتوبر لم يكونوا هم الذين نالوا جوائز النصر.

ثم كان ان شرعية اكتوبر أصابها، بدورها، شرخ خطير يومي 18 و19 يناير 1977، فيما عُرف ب«مظاهرات الطعام»، ذلك انه حين يعجز أي نظام عن اقناع شعبه بوسائل السياسة، وهو صاحب المبادرة فيها، وبوسائل الاعلام، وهي رهن اشارته، وبوسائل البوليس، وهي تصدع بأمره، ثم يضطر لاستدعاء القوات المسلحة في مواجهة جماهير تطالب بحقها في الخبز بعد تضحياتها بالدم، فإن شرعية هذا النظام تصاب بضربة شديدة، والراجح ان الرئيس السادات، رغم انه أطلق على المظاهرات وصف «انتفاضة حرامية»، كان يملك من الذكاء ما جعله يستشعر الحقيقة في ضميره وان أنكرها على لسانه، وقد فكر بكل جهده في ترميم شرعية عهده، وتوصل الى انه يستطيع بوعد السلام أن يستعيد حلم الرخاء، وكان ذلك في الغالب دافعه الى مبادرته الشهيرة بزيارة القدس بعد ثمانية أشهر من السنة نفسها 1977، وأمله ان هذا الاختراق الصاروخي كفيل بأن يكسر آخر حاجز بينه وبين أميركا المتقدمة، بما يضعه في حساباتها وسياساتها على قدم المساواة مع اسرائيل.

ومن سوء الحظ ان الذين لم يتركوا للرئيس السادات غير خيار الحرب، تركوه وحيداً، في خيار السلام، وكذلك استحكم المأزق.

ومن المفارقات المحزنة ان ذكرى تأسيس شرعية اكتوبر، أصبحت سنة 1981، يومها الأخير.

ومع ذلك فإن أحداث ذلك الخريف الغاضب من زمن أنور السادات بما فيها تلك النهاية الحزينة لحياته ولشرعية اكتوبر، لا يصح أن تكون وحدها حساب تاريخه، فقصة كل رجل كتاب كامل وليست فصلاً واحداً من كتاب، حتى وان كان ذلك الفصل ذروة المأساة.

الصورة الرابعة

كانت الصورة الرابعة لرجل آخر شاء تقديم نفسه بطريقة لا تلحقه بما قبله، وعندما سئل كان حرصه على التذكير باسمه، كاملاً، ثلاثياً (محمد حسني مبارك)، لكي ينبه مبكراً إلى انه ليس خلفاً لسلف من يوليو أو من أكتوبر. وكان ذلك الحرص من جانبه، تأكيداً مضافاً لمنطق ان مرحلة الانتقال تنسب شرعية الرجل الواحد الى قيمة منجزاته. والحاصل ان تلك الصورة الرابعة في مرحلة الرجل الواحد بدأت واستمرت وعدا وعهداً بالتقدم نحو الشرعية الدستورية والقانونية.

وربما ان التطورات والمتغيرات في الوطن وفي العالم وفي الاقليم عوقت وعطلت، وتسببت في تأخير يمكن فهم بعض دواعيه.

ـ بين الدواعي ان الصورة الرابعة انتقلت الى موقع الصدارة من خلال عاصفة نار ودم تسبب فيها صدام بين النظام وبين عناصر تعصب ديني مقاتل يتصور على أحسن الفروض ان من حقه أن يسوق الناس الى الفردوس بتصويب السلاح الى صدورهم أو ظهورهم!

ـ بين الدواعي ان ذلك الانتقال جرى في أجواء دولية ملبدة بضباب آخر معارك الحرب الباردة، وهي المعركة التي وصفها رونالد ريغان الرئيس الأميركي بالمعركة ضد امبراطورية الشر، (كان الشر أيامها سوفييتياً والآن أصبح الشر عربياً أو اسلامياً!).

ـ بين الدواعي أيضاً ان الاقليم راح يشهد أحوال وأهوال حروب أهلية في لبنان، والسودان، واليمن، والجزائر، إلى جانب حربين شاملتين في منطقة الخليج العربي بدأتا باقتتال داخلي بين الأطراف المباشرين ثم حلت النهاية طوق حصار على الجميع فرضته قوى كبرى.

وهكذا فإن كثيرين من ذوي الرشد ساورهم ظن ان الصورة الرابعة تلزمها فسحة وقت: ـ من ناحية لأنه في أوقات الاضطراب يكون البطء أسلم من الاندفاع، ويكون احتمال ضياع فرصة ـ أكثر أماناً من تحمل مخاطرة.

ـ ومن ناحية ثانية لأنه تبدى لكثيرين ان الصورة الرابعة في حاجة الى وقت تظهر فيه توجهاتها، لأن خلفية تلك الصورة كانت من الأصل بعيدة عن ألوان السياسة ـ وتلك في ظروفها حكم قانون.

وهكذا بدا «الانتظار» أدعى للسلامة، لكن ما حدث بعد ذلك هو ان «الانتظار» تحول من سد فجوة الى طبيعة سياسية، كل شيء فيها مؤجل وأي تغيير عليها لا داعي له، فإذا اشتدت المطالبات وزادت الضغوط فإن المسموح به يجيء حلاً وسطاً يكرس الانتظار أكثر مما يسمح بالانطلاق.

ومثل ذلك وقع حتى في القضايا الكبرى.

ـ بمعنى ان الهوية بدت في عديد من الأحيان ملتبسة، فلا هي وطنية تلزم حدودها، ولا هي قومية تحمل مسئوليتها.

ـ ثم ان المرجعية ترددت في خياراتها الاجتماعية، فلا هي مرجعية التنمية الشاملة ولا هي مرجعية المبادرة الفردية، (وللانصاف فقد كانت هناك محاولة للخروج من هذه الحيرة بجهد واضح في مشروعات البنية الأساسية على انتظار أن يجيء فصل الخطاب، وأخيراً جاء الترياق بالوصفة الجاهزة لصندوق النقد الدولي».

ـ والشيء نفسه تكرر حيال مرجعية السياسة الخارجية، بمعنى ان 99% من أوراق الحل في أزمة الشرق الأوسط ومستقبله بقيت في يد الولايات المتحدة، لكن ذلك صاحبه شعور بالحرج من واقع تزايد انحياز الولايات المتحدة لاسرائيل.

وفي موقف الانتظار الذي طال، تداخلت الثوابت والمتغيرات. ونسي البعض ان الثوابت هي التي ترسي قواعد الاستراتيجية العليا للدولة، وان المتغيرات ترسم السياسات الآتية لها، وإذا أصبحت الثوابت متغيرات وأصبحت المتغيرات ثوابت، فقد غامت الرؤى وغابت المصالح الحيوية للأمة. ومع مثل هذا الخلط في المعايير يصبح السلام، وليس الزمن، مطلباً استراتيجياً، وتصبح مائدة المفاوضات، وليس نتائجها، غاية في حد ذاتها!

على ان هذا التداخل والخلط زاد مقداره بسبب طواريء تزاحمت وأحاطت بالشأن المصري.

ـ الطاريء الأول: انه نتيجة اعتبارات مختلفة، ان ادارة الموارد الاستراتيجية المصرية في المنطقة تناقص تأثيرها على نحو يستدعي القلق، فمصر تبدو طالبة أكثر منها مطلوبة، قاصدة أكثر منها مقصودة، وذلك لا يريح، وهنا فإن تغطية نقص الفعل بزيادة الكلام لا يحل مشكلة، لأن الأدوار لا تقاس بما يدعيه طرف عن نفسه وانما تقاس بما يعترف به الآخرون!

ـ والطاريء الثاني: ان هناك قضية قديمة جديدة، ممزوجة بمياه النيل، عادت تفرض نفسها بالحاح متجدد يضاف الى قيمتها الأصلية، وتلك هي علاقة مصر بالسودان، وهذه قضية تعرضت لأساليب متعددة في التعامل معها، وبصرف النظر عن التفاصيل، فإن التطورات في السودان تستدعي نظراً أكثر تركيزاً وأوسع فهماً.

ـ والطاريء الثالث: ان هناك صمتاً يبدو ثقيلاً، إزاء خطر زادت وطأته ملاصقاً للحدود الوطنية، ينادي بأنه ليس في مقدور مصر، بالتزامها القومي أو بدونه، أن تقبل على جوارها تفوقاً في المجالات: العسكرية والعلمية والتكنولوجية، تختل به موازين القوة على هذا النحو، فذلك وضع لم تعرفه مصر من قبل على طول تاريخها، وإذا كانت تحتاج الى درس فيه (رغم ان جوارها اسرائيل حادث مستجد) فعليها مراجعة تجارب التاريخ مما كان في أوروبا (بين فرنسا وألمانيا)، وفي آسيا (بين الصين واليابان)، وقريباً منها في البحر الأبيض (بين تركيا واليونان)، ثم تقرر، دون عصبية لا تقفز فوق الواقع ولا تخضع له، ان فجوة القوة على حدودها يستحيل قبولها أمراً مسلماً به، وان تلك الاستحالة، وليس غيرها، هي تحدي القرن الجديد.

ـ والطاريء الرابع: ان اسرائيل بما تقوم به في المنطقة وعلى نطاقها المباشر أو الأوسع، لم تعد بعيدة عن ذلك الحلم الذي تصوره مؤسس دولتها دافيد بن جوريون، وهو حلم يسعى الى حصر مصر وراء حدودها، مع اطلاق يد اسرائيل في مشرق العالم العربي، ومن سوء الحظ ان مشاهد هذا الحلم المجنون تتوالى على خط الحدود المصرية ذاته، واصلة الى قطاع غزة، نافذة الى قرية رفح المقسومة الى نصفين بين مصر وفلسطين، ثم لا يستدعي ذلك وقفة لازمة، بالضمير على الأقل.

ـ والطاريء الخامس: انه جرى عدوان متوحش على حُرمة المال العام، وفاحش على أمانة النظام المصرفي، وهذا العدوان المزدوج أهدر الحقوق واستباح القيم، وألحق أشد الضرر بالاقتصاد الوطني، فضلاً عن تأثيره على الضامن الأخلاقي والقانوني لهذا الاقتصاد الوطني ولغيره من شئون المجتمع.

ـ والطاريء السادس: ان هناك بينات تشير الى ان الدور الثقافي المصري يتراجع، وذلك مثير للشجن، فقد كان لمصر دائماً، حتى بغير العنصر السياسي وأدائه، اسهام ثقافي خلاق وملهم لم تشحب أنواره، ومن الحق أن أضيف ان مكتبة الاسكندرية الجديدة تستطيع أن تكون شعاعاً في سماء رمادية عندما تقدر طاقة الفنار على اختراق كتلة المعمار.

ـ والطاريء السابع: ان ذلك تزامن في التوقيت مع قضية خلافة تنتظر الحسم، لأن رئاسة الجمهورية الحالية قاربت مدتها الدستورية بعد أربع فترات تناسخت، بدأت في 14 اكتوبر 1981 وتتصل بإذن الله الى 14 اكتوبر 2005، ولم يعد ممكناً لهذه الفترات بحكم الطبيعة أن تزيد، ومعنى ذلك ان الغد أحد احتمالين: إما صورة خامسة تتكرر بها الصور على نحو ما، أو انه، إذا صدق الوعد والعهد، باب مفتوح لتطور صحي تستقيم به الأمور وتستقر الحقوق.

وكل تلك طواريء جادة لا تعالج بلصق الصور، ولا بصخب الاحتفالات.

وفي محصلة ذلك ومغزاه ان مصر الآن ـ وليس غداً، في حاجة الى رؤية للهوية أمينة، والى سند في المرجعية أصيل، والى شرعية تؤسس لزمن، يستحيل قبوله امتداداً متكرراً لشرعية الرجل الواحد، أو لدعاوى حزب يعتبر نفسه ديمقراطياً بدليل تزاحم الأجنحة داخله، ويشاهد تجمعات تظهر على هامشه، تحاول اثبات وجودها، دون وسيلة لإبراز ذلك إلا نشر صحف يومية أو اسبوعية!

ومن المحقق ان الوقت حان، وزيادة، للانتقال الى الدرجة الأعلى في مراحل الشرعية، أي الشرعية الدستورية والقانونية. لأن مصر بكل ما حققت، تجاوزت، وينبغي لها أن تتجاوز، مرحلة الشرعية الأبوية التقليدية (وفق مقولة فيبر)، ثم انها اجتازت كذلك شرعية مرحلة الانتقال وفيها دور الرجل الواحد، وقد جمعت في تلك المرحلة ألبوم صور يكفيه ما فيه، ولا يحتاج يقيناً إلى خامسة، خصوصاً إذا لم يكن لهذه الخامسة ما يستدعيها من مطالب ثورة، أو حتمية حرب، أو مفاجأة اغتيال.

وفي تلخيص مختصر فإن ما جئت لأقول اليوم، ينحصر في نقطتين:

ـ نقطة تتعلق بما كان، مؤداها ان تلك الخمسين سنة لم تكن هوية واحدة أو مرجعية واحدة، أو شرعية واحدة، وانما كانت عدداً من التجارب أعطت كلاً منها ما عندها بقدر ما استطاعت في حدود تفسيرها للتاريخ وللعصر، وقد يمكن القول بأن تلك التجارب عملت وأضافت، وتلك قيمة التجربة.

ـ ونقطة ثانية تتعلق بما هو كائن، ملخصها ان الغد لا يقدر، ولا يملك ان ينتظر صورة خامسة تزيد على ألبوم الصور السابقة، لأن تحديات زمان جديد لا تحتمل استراتيجية الانتظار وسياسة التأجيل.

والآن فإن المشاركة في حوار، والتوصل جماعة الى قرار، هو القضية الأعظم التي تستحق أن نقصد إليها ونلتقي حولها في السنوات الثلاث من فترة الرئاسة الحالية، مسلمين انها قضية لا يحق لأحد، حكماً أو حزباً، أن يدعي فيها بوصاية أو باحتكار!

وربما ان الوقت قد حان للاتفاق على عدد من الشواهد لم يعد ممكنا ولا جائزاً انكارها:

أولها: ان مجرد التواجد في الحكم ليس كافياً في حد ذاته لاضفاء الشرعية على أي تنظيم أو نظام.

ثانياً: ان القعود الحذر طوال الوقت يتحول الى حالة من الجمود، تهدد مطلب التجدد سواء في الأفكار أو في السياسات أو في حركة تتابع الأجيال، دون اقرار بأن الاستقرار يتحقق بالتواصل مع الزمن وليس بتجبيس كل شيء على حاله وكل رجل في وظيفته! ثالثاً: ان مرجعيات مصر في الداخل والخارج غير واضحة، وعلى الأقل فإنها ليست مسنودة بقواعد مرئية يمكن قياسها وحسابها، ومن ثم التعامل معها بأمان.

رابعاً: ان هناك تناقضاً في الأداء الرسمي بين زهو الكلمة وتواضع الفعل، وهذا التناقض أنتج فجوة مصداقية أوصلت الى احباط شبه عام.

وخامساً: ان أوضاع الاقليم وأوضاع العالم تواجه مصر بما لم يعد في مقدورها تأجيله أو تحويل النظر عنه أو الادعاء في شأنه سواء أمام النفس أو أمام جماهير تجد نفسها باحثة في فضاء الآخرين لتعويض فراغ تحسه حولها.

وكل تلك أسباب تستوجب حواراً جاداً، واسعاً، عميقاً، صافياً، شفافاً خلال السنوات الثلاث الباقية من مدة الرئاسة الحالية، حتى يستطيع الوطن أن يرسم خريطة متجددة لحياته، في اطار موضعه وموقعه، متناسبة مع أزمنة متغيرة تحركها أشواق للرقي غير محدودة.

وتتداعى في هذا السياق ملاحظة جاء موضعها، وذلك ان همساً شاع أخيراً حول اقتراح بتوريث السلطة في مصر.

ومن الحق والانصاف ان يسجل بأمانة، واعترافاً بالفضل، ان المعنيين بهذا الموضوع مباشرة، أبدوا فيه رأياً قاطعاً ومسئولاً.

فقد عرض رئيس الجمهورية في كلمات لا تحتمل التأويل، ونبرة حزم لا يظهر عليها تردد ـ نقطتين:

ـ الأولى: ان مصر بلد يختلف عن غيره من البلدان، فلا هو وطن طائفة أو قبيلة أو عشيرة أو عائلة تلح عليها فكرة توريث السلطة لسبب أو لآخر.

ـ والثانية: ان النظام الجمهوري بطبيعته وفلسفته لا يعرف توريث السلطة، أياً كانت الحجج.

زاد على ذلك ان الوريث الذي تردد اسمه في حديث الخلافة أبدى هو الآخر في هذه المسألة رأياً واضحاً وبيناً، قائلاً بأجلى عبارة انه لم يفكر ولا يفكر في أي منصب تنفيذي.

وذلك كلام يليق بالثلاثة: النظام ـ والرئيس ـ والابن ـ (والوطن بالطبع قبل الثلاثة).

وبالرغم مما سلف فإنه في مناسبة انعقاد المؤتمر الأخير للحزب الحاكم، عاد اللغط مرة أخرى حول ذات الموضوع.

ومع انني أعرف ان معظم اللغط السياسي في مصر منفلت، فإنه، قد يكون مناسباً ومن باب التحوط، أن يستبعد الكل ما قاله الأب، صريحاً، وما نفاه الابن، قاطعاً.

وأضيف للحق ان كل ما أسمعه عن الابن المعني بالأمر يثني عليه ويشهد له، إلا ان المحاذير في مثل هذا الموضوع ظاهرة، وفيها ما يعكس على المستقبل ظلالاً، لا هي تنفعه ولا هو يحتاجها.

والحقيقة ان التاريخ لا يتواصل ولا يتقدم بالتلكؤ أو التزيد، وانما يتقدم التاريخ ويتجدد بمقدار ما تستطيع الأمم والشعوب أن تحدد من رؤاها وطموحاتها، وبمقدار ما توظف من مواردها ووسائلها، وبمقدار ما تحشد من فكرها وارادتها، وبمقدار ما تستوعب من حقائق وأدوات عصرها، وبمقدار ما يتوافر لها على طول الطريق من استنارة وعزم في ادارة شئون حياتها موصولة بزمانها وعالمها.

وهنا تزيد الحاجة الى المشاركة في الحوار والقرار.

وإذا كان لأحد أن يعرض في هذا الأمر اجتهاداً، فلعلي أتجاسر واقترح أن يكون المنطلق، مشروع تصور مستقبلي تطرحه رئاسة الدولة، ويكون من حوله مدار الحوار ومجاله، حتى يتوصل الى هدفه في فسحة وقت تكفيه:

ـ مشروعاً يقدم تصوراً لشكل وخطوط وإجراءات الانتقال المقبل بأكبر قدر ممكن من التحديد والتفصيل حتى لا يفاجأ أحد بأن المواقيت حلت على حين غفلة، وان الضرورات حينئذ تبيح المحظورات!

 

 

الصفحة الرئيسية