الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

وجهة نظر في احداث المنطقة لاريجاني ونظرية التغييرات المتزامنة

خالد توفيق

* يقال في وصف السياسة انها علم الاحتمالات، والتحليل السياسي عادة لا يعرف اليقين لكونه مفتوحا على جميع التوقعات. من هذه الزاوية بالذات ينظر إلى التحليل السياسي كونه أداة تعيننا على التوقع بمستقبلات الأحداث، وترتكز في الوقت نفسه إلى ركنين: المعلومات ومنهج التحليل. فكلما كانت المعلومات وفيرة وصحيحة، وكلما كان المنهج الذي يعتمد عليه المحلل السياسي سليما منطقيا ومحكماً موضوعياً، كلما ازدادت قدرة التحليل على التوقع بمسارات المستقبل. والركنان كما نرى يتكاملان في أداء وظيفتهما، إذ ليس بمقدور المعلومات مهما بلغت ان تعطينا رؤية واضحة من دون ان تحمل على منهج سليم في التحليل السياسي، كما انه ليس بمقدور المنهج وحده إن ينهض بالمهمة من دون المعلومات. على خلفية هذه المقدمة المنهجية نتبين اهمية الموقع الذي يحتله المحلل السياسي شخصاً كان أو مؤسسة. وانطلاقاً من هذا الموقع بالذات فضلنا ان نقدم للقارئ أولاً ـ وبالذات القارئ العربي خارج إيران ـ بعض الحيثيات التي ترتبط بشخصية د. محمد جواد لاريجاني، لكونه واحدا من المع من يمارس التحليل السياسي في ايران، بالاضافة إلى انه صاحب الرؤية الخاصة التي سنعرض لعناصرها في فقرة آتية.

 * الحيثيات الشخصية

تتسم شخصية محمد جواد لاريجاني الذي يحمل شهادة دكتوراه بالبرمجة والتخطيط، بالتوفر على الجانبين الثقافي والسياسي، وان كان الاخير اظهر. وربما كان مرد ذلك هو الخلفية العائلية حيث ينحدر لاريجاني من عائلة علمائية معروفة استقى من اجوائها المعرفة الاكاديمية، لتأتي بعد ذلك ممارسته للسياسة في مواقع مختلفة من اجهزة الدولة كي تبني خبرته السياسية المتميزة.

ورغم طغيان جانب الخبرة السياسية على شخصية لاريجاني إلاّ ان حياته في الجانب الثقافي لم تخل من الاثارة والجذب، فبالاضافة إلى انه واحد من مثقفي ايران البارزين، فان له من الاطروحات الثقافية ما اثار الكثير من النقاش الخصب في الاوساط المعنية، نخص منها بالذكر اطروحته المسماة (أم القرى) وهي محاولة لبناء نظرية اسلامية سهلة في العلاقة المتبادلة فيما بين الجمهورية الإسلامية والمسلمين خارجها تكون بمثابة قاعدة شرعية وفكرية في توجيه سياسة ايران الخارجية في محيط العالم الاسلامي.

له أيضاً رؤية في وظيفة (التكنولوجيا) في محيط التجربة الإسلامية تأتي في المنطلق النظري مختلفة تماما مع نظرية في الموضوع يتبناها د. عبد الكريم سروش احد ابرز المثقفين الناشطين في الحياة الثقافية الايرانية له كذلك اطروحة متميزة في صياغة العلاقة بين المسلمين والغرب، تقوم برأيه على ضرورة توفر المسلمين على اكتشاف ثلاثة شواخص بارزة في الغرب، هي: العلم العربي، الفلسفة الغربية والتكنولوجيا الغربية. فالموقف الاساسي الراهن كما يرى لاريجاني يذهب مباشرة إلى رفض الغرب جملة وتفصيلاً من دون معرفة وافية بالحيثيات التي تشير إليها الشواخص الثلاثة المشار إليها في حين يرى انه يتعين أولاً على المسلمين ـ وخطابه موجه إلى التجربة الإسلامية في ايران ـ ان يتعرفوا جيداً على العلم والفلسفة والتكنولوجيا في الغرب، قبل الحكم عليه بشكل كلي، خصوصاً وان هذه الشواخص تمثل الآن حاجات لا مفر للتجربة الإسلامية في ايران منها.

على الصعيد الثقافي له أيضاً مساهمات فاعلة في القضايا التي تعيش الدائرة الإسلامية من حولها نقاشا حامياً، وذلك من نظير ما تشهده الساحة الايرانية من حوار وصراع في وجهات النظر الفكرية والثقافية حول قضايا المجتمع الديني في اسسه ومقوماته، والحداثة في تكوينها ومعناها، وفيما إذا كان الاخيرة مفهوما غربيا خالصا أم حالة يمكن ان يمر بها أي مجتمع ومنه المجتمع الديني. ثم ما هو دور المثقف في المجمع الديني خصوصا في اطار التجربة الإسلامية في ايران التي تؤمن بولاية الفقيه كأساس  للشرعية. كل هذه وغيرها مسائل ابدى لاريجاني ازاءها مواقف صاغها بشكل رؤى نظرية وفكرية مستمدة من المباني الإسلامية (يراجع على سبيل المثال كتابه: نقد دينداري ومدرنيسم، بالفارسية).

على الصعيد السياسي ساهم في تقديم نظريات في القضايا التي يحتاج إليها مسار الدولة الإسلامية كمفهومه حول الشرعية السياسية (نلاحظ دراسته: حكومت ومرز مشروعيت) والاستراتيجية الوطنية (يلاحظ كتابه: مقولاتي در استراتژي ملي) والنظام الدولي والأمن الاقليمي وغير ذلك.

 

* نظريته حول موقف أميركا من صدام

أردنا من الاشارات آنفة الذكر ان نفتح آفاقاً امام القارئ العربي للتعامل مع الآراء التي يطرحها لاريجاني في الجانبين الثقافي والسياسي، خصوصاً وان له في الجانب الثاني مكانة مرموقة في اروقة وواجهات السياسة الايرانية وكبرى مؤسساتها. فلاريجاني كان وفق افضل التخمينات مرشحاً لكي يخلف علي اكبر ولايتي في وزارة الخارجية في اطار التشكيل الثاني لحكومة الرئيس رفسنجاني، ولكن يبدو ان الشيخ فضل الابقاء على الوضع في وزارة الخارجية على ما هو عليه طوال فترة رئاسته الثانية. وفيما يخصص لاريجاني يهمنا ان نذكر بموقعه المؤثر في ادارة وزارة الخارجية في سنوات الحرب، خصوصاً في الفترة التي سبقت موافقة ايران على القرار (598). وهو إلى ذلك يدخل في اطار الفريق الخاص الذي يعتمد عليه الرئيس رفسنجاني في بناء سياسته في الحقلين الاقتصادي والسياسي (وان كان ابدى نظرات نقدية حول الخطة الخمسية الاولى والثانية)، وهو يعد فعلا ضمن موقعه الراهن كعضو ومستشار لمجلس الامن القومي، احد العقول المدبرة للسياسة بعيدة المدى التي تعتمدها الجمهورية الإسلامية، بالاضافة إلى موقعه في المجلس النيابي نائبا عن العاصمة طهران، ومشرفاً على مركز الدراسات التابع لمجلس الشورى.

اما على الصعيد الخارجية، فان العواصم الغربية تتلقى تحليلات لاريجاني بالمزيد من الاهتمام لكونها رؤى متماسة مع مصدر القرار الايراني.

يبقى ان نؤكد من واقع المتابعة الاستقرائية ان ما يصل إلى 65% من التحليلات والرؤى التي يدلي بها لاريجاني تصيب الواقع ولا تخطئه.

من حصيلة هذا العرض نريد ان نؤكد مجدداً ضرورة الانفتاح على هذه العقلية وما تحمله من رؤى ربما بدت غريبة على مستوى تحليله حسين والعواصم الخليجية.

فالدكتور لاريجاني يعتقد منذ نهاية حرب عاصفة الصحراء، ان أميركا امامها مشكلة بديل. وفي طوال السنين الماضية ولاريجاني يكرر موقفه هذا في لقاءاته مع اجهزة الاعلام المختلفة، وقبل اقل من سنتين حينما وجهت أميركا ضربة عسكرية إلى بغداد بعد هدنة عاصفة الصحراء، كان لاريجاني يصر في تحليلين واسعين ومتقاربين، ان الضربة الأمريكية ليست عملاً تكتيكيا فرضته شروط تحول الادارة من بوش إلى كلينتون، وانما هي خطوة لتوفير فرص افضل للتغيير.

 

* أربعة نماذج للتغيير

وهذه النماذج، هي:

أولاً: انتفاضة شعبية تزحزح السلطة وتقضي عليها.

ثانيا: انقلاب عسكري.

ثالثا: حل سياسي يمكن تصوره باطروحة تغيير تتبناها المعارضة الإسلامية أو العلمانية وتكون مدعومة من هذا الطرف الاقليمي والدولي أو ذاك.

رابعاً: التدخل العسكري المباشر سواء من دول الجوار، أو من دول التحالف.

الحديث هنا عن نماذج، اما التغيير الحقيقي فيعتمد على امكانات التغيير وآلياته، وهذه المسألة تردنا مرة اخرى إلى الموقف الامريكي إذ يعتقد لاريجاني ان الخيار الوحيد (أي الارجح من سواه) الذي تتبناه واشنطن وينسجم مع فلسفتها وخبرتها التاريخية في تغيير الانظمة السياسية، هو خيار الانقلاب العسكري، الذي يرفع مشكلة البديل. ففي حين تواجه فرضيات التغيير ونماذجه الاخرى مشكلة البديل، وفي حين تذهب اغلب التحليلات إلى ان ما يحول دون واشنطن ومبادرتها لتغيير نظام صدام حسين، هي مشكلة البديل، فان لاريجاني يعتقد ان أميركا لا تواجه مشكلة البديل طالما كانت تؤمن بخيار الانقلاب العسكري، فالعسكر الذين يقودون الانقلاب هم حتما من ثوب الانظمة العسكرية السائدة في العالم الثالث، وبالتالي فلاخطر على المصالح الأمريكية مع وصول هؤلاء بديلا عن صدام حسين.

بيد ان المشكلة كما يؤكد لاريجاني ذلك مراراً ان واشنطن لا تملك التأثير الكافي على قيادات الجيش العراقي، وانها فشلت حتى الآن بسبب خبرتها الضئيلة داخل العراق وذكاء صدام وانتباهه، في اختراق هذه المؤسسة بالمستوى الذي يضمن لها التخطيط الناجح لانقلاب مضمون يطيح بصدام.

 * التطورات الاخيرة

قبل يوم واحد من تفجر الازمة الاخيرة، وبالتحديد مساء الخميس المصادف 6/10/1994م كان لاريجاني يعلن من خلال البرنامج السياسي الاسبوعي للشبكة الثانية في تلفزيون طهران، بأن الموقف الامريكي ازاء العراق والانظمة الخليجية يقدم نفسه بالصورة التالية:

* الابقاء على الوضع في العراق جامداً ودون ان يعني ذلك تغييرا في الموقف الامريكي القاضي باستبدال صدام حسين.

* السير الحثيث نحو اجراء تغييرات في الانظمة السياسية في دول الخليج العربية، وبالذات في السعودية والكويت.

في اليوم التالي (أي الجمعة 7 تشرين الأول الجاري) اندلعت الازمة، وتصاعدت الاحداث، ثم هدأت وتيرتها العلنية دون ان يغلق الملف نهائيا. وكانت الحصيلة على هذا الصعيد ما يلي:

أولاً: تواجد امريكي عسكري مباشر في الكويت والمنطقة بحجم لا يتناسب مع التهديد العراقي المفترض، واستمرار هذا التواجد حتى بعد اعتراف أميركا بانسحاب كامل للقوات العراقية.

ثانيا: صدور القرار (949) من مجلس الأمن، وخصوصية التفسير الامريكي له، حيث اعتبرت واشنطن ان القرار يسمح لها بتوجيه ضربة عسكرية إلى العراق بمجرد ان تتجاوز قواته خط الجنوب.

ثالثا: تهميش واشنطن لما اطلق عليها بالمبادرة الروسية الأمر الذي اغاض وزير خارجية روسيا إلى الحد الذي دفعه لتفجير مسألة خطيرة إلى العلن تتمثل بزعمه ان واشنطن كانت ـ كغيرها من الحلفاء ـ على علم مسبق بالمسار الذي تحركت به القوات العراقية.

رابعاً: تفجر موجة من النقد المتبادل بين فرنسا وأميركا حول الموقف من العراق. قادت إلى ما يشبه الاصطفاف بين الموقفين الامريكي ـ البريطاني من جهة، والفرنسي ـ الروسي من جهة ثانية، مع اصرار فرنسا على ان جزءاً من التحرك الامريكي تم على اساس بواعث داخلية. في حين ذهب البعض إلى ان فرنسا في تمييزها لموقفها عن موقف واشنطن، ارادت ان ترد على الاخيرة في موقفها من السياسية الفرنسية ازاء الجزائر.

خامسا: في غضون التطورات الاخيرة في الازمة شهد المحور الاسرائيلي ـ العربي نقلة نوعية جاءت بمستوى النقلة التي تمت قبل عقد ونصف حين وقع الطرف المصري معاهدة سلام مع تل ابيب، إذ تم هذه المرة الاعلان عن معاهدة سلام بين الاردن و(اسرائيل) ترتبت على اثرها جولة الرئيس الامريكي في عواصم المنطقة.

 

* نظرية التغييرات المتزامنة

هل يسع التحليل السياسي ان يتجاوز آثار كل هذه التطورات ليبقى متمسكا برؤيته؟ يجيب لاريجاني على هذا السؤال بتأكيد نظريته التي يصح ان نطلق عليها بنظرية التغييرات المتزامنة. فهو يرى ان جميع الاحداث والتطورات التي حصلت حتى الآن تتحرك في اطار الهدف الامريكي ولا تلغيه.

فأميركا لا تزال تريد تغيير صدام حسين بالانقلاب العسكري. والأهم من ذلك، والأكثر اثارة هو ما يؤكد عليه لاريجاني من ان هدف أميركا يتجاوز الآن مجرد تغيير نظام صدام حسين ـ فهذه لديه من المسلمات ـ إلى اجراء تغييرات سياسية في الجنوب (دول الخليج العربية) تترافق مع تغيير الحكم في بغداد. وهو يرى تحديدا ان بلدين يحثان الخطى في التخطيط الامريكي لاستقبال هذه التغييرات هما: السعودية والكويت، بل يصير مؤكدا انه يرى وقوع هذه التغييرات وشيكا، وان المسألة واضحة لديه وضوح الشمس.

وحينئذ يكون الضغط الامريكي العسكري والسياسي والاقتصادي على العراق هو ضغط حقيقي، وان أميركا تهدف من نشر قواتها ـ فيما يتعلق بالعراق ـ إلى استنزاف النظام وفن خطط دقيق يهدف إلى خلخلة العاصمة وسلب فرص الاستقرار من حول صدام وتعزيز شكوكه واجباره بالتالي لاجراء سلسلة من التصفيات داخل مؤسسة النظام. ولاريجاني يعتقد ان أميركا سوف تستمر بهذا النهج، وان ما يبدو على السطح من تسويات توحي بالاستقرار ورفع الحصار ما هي سوى حالات تكتيكية تفضي إلى الهدف (تغيير النظام) ولا تلغيه.

وقد يذهب البعض إلى ما هو أكثر من ذلك حين يفسر استمرار تواجد القوات الأمريكية في المنطقة على اساس انها باقية لمراقبة الموقف في مرحلة ما بعد صدام، وردع بعض القوى المحلية والاقليمية (ايران مثلا) من التدخل. ومن البديهي ان هذا الهدف الاساس لا يسقط اهدافاً فرعية اخرى تضمن لأميركا مكاسب اقتصادية وسياسية ودائية وخصوصاً مع الاخذ بنظر الاعتبار جولة كلينتون الراهنة.

والشيء نفسه يقال بالنسبة للتغيير المنتظر في العواصم الخليجية، فالسياسة الأمريكية في المنطقة تمارس حضورها على اساس تحقيق جملة من الاهداف في وقت واحد، دون ان تغير مسارها الاستراتيجي. فهي تستفيد من بقاء صدام حتى اللحظة في احتواء الجمهورية الإسلامية من جهة، وتمرير خطوات ما يطلق عليها بعملية السلام مع (اسرائيل) بالاضافة إلى استنزاف الانظمة الخليجية. وهي من جهة ثانية توظف حضورها المباشر في توفير (هيبة) لمخططها الواسع. بالاضافة إلى انها تستفيد من ابقاء الوضع السياسي على ما هو عليه في دول الجنوب (الكويت والسعودية والامارات) لتحقيق تقدم على المحاور الاخرى في المنطقة. وعندما تصل في سياستها العامة إلى نوع من التوازن بالذات على محور (السلام الاسرائيلي ـ العربي) ومحور احتواء الجمهورية الإسلامية، وحين تستنفذ طاقة الانظمة المحلية على اداء الادوار. حينئذ تصل لحظة التغيير بعد ان تكون التمرة قد نضجت.

المنطقة اذن قادمة على تغيير متزامن ينطلق برأي لاريجاني من بغداد ويمتد إلى عواصم اخرى. والمسار الراهن للاحداث يتحرك بذا الاتجاه حتى لو دلت بعض القرائن على خلاف ذلك.

نعود إلى ما افتتحنا به المقال من ان التحليل السياسي بوصفة اداة للتوقع بالمستقبل، هو عمل محفوف بمختلف الاحتمالات. ولم يكن الهدف ان نسمع الصحة أو الاطلاق على آراء لاريجاني بقدر ما أردنا ان ننفتح على آراء هذه الشخصية وندرسها كاحد الاشخاص تملك امكانات التحقيق.

 

الصفحة الرئيسية