الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

هزيمة الامن القومي العربي في عاصفة الصحراء

محمد الانصاري

ربما لم تشهد المنطقة حربا أو صراعا كالذي شهدته في الحرب العراقية ـ الكويتية، لقد كانت هناك حروب كثيرة في المنطقة فلقد كانت الحروب العربية ـ الصهيونية عام 1948 و1956 و1967 و1973 وما تبع ذلك أو رافقها من حروب أو صراعات داخلية أو حدودية عربية ـ عربية كما في ايلول في الاردن بين الجيش الاردني من جهة والمقاومة الفلسطينية من جهة اخرى عام 1972 أو في الحرب اللبنانية ـ اللبنانية الداخلية التي كانت قد انفجرت في نيسان (ابريل) نيسان 1975 أو الاجتياحات الصهيونية المتكررة للاراضي اللبنانية والتي كان اخطرها الاجتياح الصهيوني لاراضي اللبنانية في حزيـران (يونيو) عام 1982.

غير ان تلك الحروب والصراعات لم تهدد الساحة العربية بدرجة خطيرة جدا ولم تكن تحد وتهديد خطير للامن القومي العربي، وكما هي الحرب العراقية ـ الكويتية، صحيح ان تلك الحروب كانت بمجملها وفي محصلتها النهائية انتكاسات وتراجعات عربية غير عادية غير انّه حتى هذه الانتكاسات والتراجعات كانت في بعض جوانبها عناصر شد مساعدة باتجاه وحدة الصف العربي أو الجهد العربي أو نحو بلورة عمل عربي موحد لصالح الامن القومي العربي.

ان حرب الخليج الثانية لم تعد رسم بعض الحدود العربية ـ العربية بالدم فحسب وانما أفقدت العرب ما كان لهم من بعض عناصر التوازن في عالم متغير جديد وسهلت الطريق امام حالة الشرذمة العربية وتكريس واقع الانقسام والتفتت والانهيار.

مفهوم الامن القومي

ربما يتبادر إلى ذهن البعض ان اقتران القومي بالامن يعني اتجاه أو نمط قومي في تفسير الامن ومقوماته وعناصره بما لاصطلاح القومية أو القومي من معنى خاص غير ان هذه الاصطلاحات شيء والأمن القومي شيء آخر، فلقد اصطلح على وصف امن دولة معينة أو مجموعة من الدول بالأمن القومي وكما هو الحال بالامن القومي الاميركي مثلا أو الامن القومي العربي على اساس العناصر المشتركة التي توحد الامن العربي وتجعل منه وحدة مشتركة مقابل التحديات أو باتجاه الامال والطموحات والتطلعات.

ولم يعد الامن القومي لدولة واحدة أو لمجموعة دول أو شعوب يتعلق «بالقوة العسكرية» بصفتها سلاح الردع الذي يحفظ امن هذه الدولة أو المجموعة ذلك ان (مثل هذه النظرية الضيقة لهذا الموضوع الخطير تهبط به إلى كونه مجرد مشكلة عسكرية تتعلق بالمعدات الحربية واستخدامها، بل وتحصر نطاقه في مجرد مواجهة مشكلات الحرب بدلا من مواجهة تحديات الإسلام)(1).

وعلى هذا (فان الامن القومي هو ما تقوم به الدولة أو مجموعة الدول التي يضمها نظام جماعي واحد من اجراءات في حدود طاقاتها، للحفاظ على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل مع مراعات المتغيرات المحلية والدولية)(2).

لم يتعلق الامن القومي بالقوة العسكرية وامكانات القوة والردع انما وحسب المفهومين السابقين تعدى ذلك إلى مختلف المجالات والانشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتكنولوجية، اذ يمكن للدولة الواحدة أو مجموعة الدول ان تنشط عملها في هذه الاتجاهات لتحقيق امنها القومي وان كانت «القوة العسكرية» جزء من تلك العناصر والمفردات، وفي هذا الاتجاه يقول روبرت ماكنمارا انّه «لا يمكن للدولة ان تحقق امنها الا إذا ضمنت حدا ادنى من الاستقرار الداخلي الامر الذي لا يمكن تحقيقه الا بتوفر حد ادنى للتنمية فعند اعداد الميزانية لا ينبغي التركز على شؤون الدفاع فحسب، اذ يكون الاهم من ذلك التركيز على الامن القومي بمعناه العريض. الا ان مفهوم الامن القومي اوسع واعمق من ذلك فالظلم الاجتماعي والفقر يؤديان في نهاية الامر إلى تعريض امننا للخطر والتنمية تعني التقدم في المجالات المختلفة، الاقتصادية والعلمية والسياسية والعسكرية، فكلها يرتبط بعضها ببعض ارتباطاً مباشراً ويتوقف النمو في احداها على النمو في غيرها من المجالات»(3).

ان تجربة الاتحاد السوفيتي السابق تؤكد المفهوم السابق للامن القومي، فلقد توفر للدولة الشيوعية كل اسباب القوة والردع العسكري على مستوى التكنولوجيا النووية المتقدمة والمتطورة جدا، غير ان عملية الاختراق التي

____________________________________

1- في السياسة والامن / امين هويدي.

2- الامن القومي في مواجهة الامن الاسرائيلي / امين هويدي.

3- جوهر الامن / روبرت ماكنمارا.

 

زعزعت الامن القومي السوفيتي ومن ثم اسقاطه باسقاط دولته بصورة نهائية عام 1991م لم تكن عسكرية، وانما كانت خليطا ثقافيا وسياسياو اقتصاديا متراكما ومتداخلا نخر في الجسم السوفيتي السابق حتى اتى عليه من القواعد دون هدير طائرات أو انفجار صواريخ. ان النشاط باتجاه تحقيق الامن القومي مطلوب لذاته للضرورات التالية:

1 ـ توفير قدر معين ومستويات مطلوبة من الرفاهية والرقي والتقدم والامن لشعوب الدولة أو الدول المعنية بذلك الامن.

2 ـ مواجهة المشاكل والتحديات التي تهدد تلك الدولة أو الدول على ضوء اوضاع وظروف دولية أو اقليمية.

وإذا كانت مسائل التنمية والتقدم والتطور ليست مسائل مركزية في سلم اولويات بعض الدول والحكومات، فان من اضعف الايمان بالنسبة لتلك الدول والحكومات الاهتمام بشؤون الامن القومي وتحقيقه لعلاقة ذلك بالتحديات والتهديدات الخارجية، وينسجم الشطر الثاني تماما مع العالم العربي الذي تلازمه دون انقطاع تحديات خارجية غير عادية، وربما لم تتعرض منطقة في العالم إلى مثل التحديات التي يتعرض لها العالم العربي وذلك يعود إلى الاسباب التالية:

1 ـ استراتيجية الموقع الجغرافي للمنطقة حيث تتوسط العالم القديم مما ادى إلى تنافس الدول الكبيرة في سبيل استثمار المنطقة واستثمار خيراتها(1).

2 ـ اهمية المنطقة الخليجية التي تتميز لكونها تضم اكبر نسبة من احتياط النفط العالمي وتمول الدول الصناعية والنامية بنسبة كبيرة من حاجاتها المتزايدة من هذه المادة(2).

3 ـ الاحتلال الصهيوني للاراضي الفلسطينية وتطلعات المشروع الصهيوني نحو التوسع والانتشار والامتداد على حساب اراضي عربية وثروات عربية اخرى.

غير ان كل هذه التحديات لم تدفع باتجاه نظام جماعي أو عمل جماعي في الساحة العربية، وباستثناء بعض المشاريع والاطر غير الفعالة مثل جامعة الدول العربية التي تأسست عام 1945 ومنظمة الوحدة الاقتصادية العربية والتي تأسست داخل كيان جامعة الدول العربية بالاضافة إلى بعض المعاهدات والمواثيق، مثل معاهدة الدفاع العربي المشترك فانه لم يكن على الساحة العربية ما يرقى إلى مستوى الجدية في العمل المشترك وبما يتناسب والتحديات الخارجية. لقد كان هناك فراغا كبيرا في واقع الامن القومي العربي وإذا كان البعض يتحدث عن ثغرات في جدار الامن القومي العربي، فان التعبير الاكثر دقة في وصف حالة الامن القومي العربي ربما كانت في عدم وجود اصل الجدار لذلك الامن. ومع ان المروض كان انشاء الجدار للامن القومي العربي لحماية عملية التنمية الداخلية ان وجدت بالاضافة إلى مواجهة التحديات والاخطار الا ان الذي حصل كان على خلاف كل الفرضيات والامال والطموحات.

لقد انفجرت الازمة العراقية ـ الكويتية على غير موعد وتطورت تلك الازمة إلى دراما مأساوية في الواقع العربي عندما انتهت إلى صراع عسكري مسلح فيما عرف بـ«عاصفة الصحراء»، ولان كانت هذا العاصفة قد بدأت في 17 كانون الثاني/ يناير من عام 1991 بصورة حرب جوية وانتهت مراحلها البرية في 28 شباط/فبراير 1991 فان اثارها العميقة الواسعة التي ضربت في العمق قد لا تتوقف عن التفاعل السلبي حتى سنوات طويلة قادمة.

____________________________________

1- مجلة الامن والجماهير، العدد 5 كانون الاول 1981، بغداد.

2- مجلة الامن والجماهير، العدد 5 كانون الاول 1981، بغداد.

 

العراق خارج دائرة الفعل والتأثير

كان العراق ولا يزال يتميز بموقعه الجغرافي الحساس بالنسبة إلى ساحة الصراع العربي ـ الصهيوني، الامر الذى جعل منه دولة مواجهة بالنسبة إلى الكيان الصهيوني. وبما ان العمق الاستراتيجي من العناصر الفاعلة في المواجهة العسكرية فان العراق كان افضل عمق بالنسبة إلى الجبهة الشرقية لكل من سوريا والاردن.

وإذا اضيف إلى هذا العمق الاستراتيجي الذي يوفره العراق طاقات العراق وامكاناته العسكرية والعلمية، يصبح واضحا ثقل العراق ـ بلد وليس نظام حاكم ـ في اي مواجهة محتملة أو متوقعة مع الكيان الصهيوني.

ان نظام صدام دخل الحرب ضد الكويت وللعراق قوات عسكرية تتألف من مليون جندي محترف و250 الف من قوات الاحتياط مع ترسانة عسكرية ضخمة مكونة من:

* 5500 دبابة.

* 3700 قطعة مدرعة.

* 600 أو 700 طائرة حربية.

* 200 طائرة مروحية.

* 250 صاروخ ارض ـ ارض من مختلف الاحجام اضف إلى ذلك قدرات كيمياوية في التسليح والاستخدام(1).

وما ان توقفت الحرب بصورة رسمية حتى كان العراق قد خسر اكثر من نصف تلك القوة على اقل التقادير، وبذلك خرج العراق من ساحة المواجهة مع الكيان الصهيوني تاركا بذلك خللا كبيرا في ميزان القوى لصالح الكيان الصهيوني.

اما خسائر العراق المادية فأقلها توقف صادراته النفطية(5ر3 مليون برميل قبل الاجتياح) اي حرمانه من 15 مليار دولار سنوياً ناهيك عن مئات المليارات من الدولارات ثمن البنى التحتية التي انهارت الواحدة بعد الاخرى في (عاصفة الصحراء)(2).

الكويت

بغض النظر عن خسارة الكويت الاولى ذات الطبيعة الاجتماعية ـ السكانية فان الكويتيون انفسهم قدروا قيمة اعادة البناء بين 20 و30 مليار دولار فيما حددت بعثة الامم المتحدة(16 آذار/مارس ـ 4 نيسان/ابريل) القيمة بحدود 23 مليار دولار تدخل ضمنها قيمة النفط الذي كان يفترض ان تصدره البلاد بين تاريخ الاجتياح وتاريخ انتهاء الحرب(5ر8 مليار دولار)(3).

وتكبدت الكويت خسائر تتعلق بالتزاماتها في كلفة الحرب بلغت 2ر18 مليار دولار للدول المتحالفة سددت منها عام 1991 حوالي 14 مليار دولار بالاضافة إلى التزامات إلى الدول «المتضررة» من الحرب (مصر وتركيا على وجه الخصوص) بقيمة 7ر3 مليار دولار سددت منها في عام 1991، 6ر1 مليار دولار(4) يضاف إلى كل ذلك خسائر غير مباشرة يصعب تقديرها.

____________________________________

1- مجلة العالم العدد 361، 12 كانون الثاني / يناير 1991.

2- الفرسان، الكتاب السنوي، ذاكرة العام 1991.

3- الفرسان، الكتاب السنوي، ذاكرة العام 1991.

4- الفرسان، الكتاب السنوي، ذاكرة العام 1991.

 

العربية السعودية

بالنظر إلى ان المملكة العربية السعودية كانت في تماس مباشر مع الحرب وساحة العمليات العسكرية فان المملكة تكبدت من جراء الحرب ما مجموعه 50 مليار دولار اي ما يعادل نصف الانتاج الوطني. اما مساهمة السعودية في التزامات الحرب فقد بلغت 8ر16 مليار دولار بالاضافة إلى مساعدة الدول المساهمة والمتضررة بما مقداره 6ر4 مليار دولار دفعت منها عام 1991، 2ر3 مليار دولار(1).

الانهيار السياسي

إذا كانت ارقام مليارات الدولارات تشخص هول الكارثة الاقتصادية التي خلفتها ورائها حرب الكويت، فان حالة التشتت والتشرذم والتباعد والصراع تشخص هي الاخرى حالة الانهيار السياسي في الوسط العربي.

لقد كانت الحرب العراقية ـ الايرانية التي بدأت في الحادي عشر من ايلول عام 1980 بسبب مغامرة أيضاً من صدام حسين عاملا في تقسيم الساحة العربية الرسمية إلى مؤيد ومعارض بالنسبة إلى هذه المغامرة. ولما لم تستطع بعد هذه الساحة من لملمة اطرافها وتجاوز حالة الفرقة والخلاف والانقسام التي سببتها تلك الحرب بعد توقفها عام 1988 حتى جاء اجتياح الكويت في 2 آب 1990 ليعمق من حالة الانقسام وعلى اساس أيضاً من المعارضة أو التأييد بالنسبة إلى المغامرة الجديدة، اجتياح صدام للكويت فانقسم العالم العربى الرسمي إلى صوبين الاول إلى جانب الكويت، والثاني مع صدام وعلى اساس هذا الانقسام تبلورت مواقف واتجاهات جعلت اطار العمل المشترك العربي الوحيد ـ (الجامعة العربية) عاجزة في ان تحرك قدم واحد إلى الامام باتجاه تسوية الازمة أو تطويقها وبذلك اصيب العمل العربي المشترك ـ ان كان هناك عمل مشترك ـ بالشلل التام تاركا المجال وحتى اشعار اخر امام عمل دولي مشترك بقيادة طرف دولي واحد يدخل المنطقة من باب ازمة اجتياح الكويت.

لقد دخلت الولايات المتحدة الاميركية على خط الازمة من بابها الواسع العريض مع ما مثلته من تجربة نموذجية فريدة لاقرار حالة جديدة في النظام العالمي القديم بعد تراجع القطب المشارك في نظام القطبية الثنائية السابق. وبما ان (الامن القومي العربي لا ينبع من فراغ ولا يبنى في فراغ لانه يتأثر بالنظام العالمي الذي يعيش في ظله، وعليه ان يتفاعل مع قوانينه السائدة ومتغيراته المحتلة)(2) لذلك فان الحالة الدولية الجديدة التي تعاملت بطراز جديد مع اجتياح الكويت كان عليها ان تتعامل مع دائرة قريبة تمس الامن العربي بالصميم الا وهي القضية الفلسطينية لا سيما وان هذه القضية جرى ربطها قسرا مع المراحل المختلفة للازمة الكويتية.

القضية الفلسطينية في مدريد

ما ان وضعت الحرب اوزارها حتى نشطت ادارة الرئيس الاميركي السابق جورج بوش في تحريك العمل الدبلوماسي الخاص بازمة الشرق الاوسط وكان حصيلة ذلك النشاط الدعوة إلى مؤتمر مدريد بمشاركة كافة الاطراف المعنية مباشرة بالقضية الفلسطينية بالاضافة إلى غير المعنيين مباشرة بالازمة.

____________________________________

1- الفرسان، الكتاب السنوي، ذاكرة العام 1991.

2- في السياسة والامن / امين هويدي.

 

انعقد مؤتمر مدريد في 23 تشرين الاول/ اكتوبر 1991، لكن كيف ستدخل الوفود العربية قاعدة الاجتماع وما هي الاوراق التي تحملها إلى طاولة المفاوضات؟

لعل تعليمات الرئيس السوري حافظ الاسد إلى الوفد السوري المشارك في مفاوضات مدريد تعبر عن الواقع العربى لما بعد حرب الكويت والذي كان يلقي بظله الكثيف على قاعة المؤتمر، قال الرئيس السوري (لا تتصرفوا في مدريد على ان العرب منهزمون)(1).

لكن هزيمة العرب في الكويت لم تترك في ايديهم ورقة ضغط أو مساومة يمكن ان يلعبوا بها في مفاوضات شاقة قد لا تنتهي في المستقبل المنظور. فلقد خرج العراق من دائرة العمق الاستراتيجي ومن دائرة الفعل العسكري مع كل ما ترك ذلك من اختلال في ميزان القوى العسكرية و الاستراتيجية في المنطقة.

اما المليارات من الدولارات التي كان من الممكن ان تدعم هذا الطرف أو ذاك فقد ذهبت هي الاخرى في تسديد فواتير حرب الكويت، وفيما يتعلق بالنفط، الذي كان في يوم ما سلاحا في المعركة فانه ما عاد كذلك بعد ان اصبح باستطاعة الدول المستهلكة الحصول على ما تريد من وفرة نفطية في الاسواق العالمية تزيد على 23 مليون برميل في اليوم الواحد ـ من انتاج الاوبك فقط(2) فيما الاستهلاك العالمي قد لا يتجاز 21 مليون برميل يوميا على افضل التقديرات(3). ان نفقات حرب الكويت وخسائرها قد دفعت باتجاه زيادة الانتاج، فانتاج العربية السعودية ارتفع من 4ر5 مليون برميل يوميا إلى 4ر8 مليون برميل وانتاج الامارات من 5ر1 إلى 26ر2 مليون برميل يوميا فيما وصـل الانتاج الكويتي إلى مليوني برميل فى اليـوم(4) وكل ذلك بسبب حرب الخليج الثانية.

وإذا كان العرب قد دخلوا مدريد وايديهم خالية من اوراق الضغط والمساومة أو التكتيك، فان الكيان الصهيوني كان يمسك بكل تلك الاوراق ذلك (لان حكومة شامير كانت قد وضعت في رأس اولوياتها حسب تصريح وزير الدفاع موشي ارينز هدف الخروج من الحرب ـ حرب الكويت ـ ومعها افضل الاوراق السياسية)(5) وكان صاحب الحالة الدولية الجديدة والرابح والوحيد في حرب الخليج الثانية قد تعهد بـ(ان اي مؤتمر قد ينعقد مستقبلاً لتسوية النزاع العربي ـ الاسرائيلي لن يمارس على اسرائيل اي ضغط كان، ولن يقدم اي حل للقضية الفلسطينية في غير الاتجاه الذي تريده اسرائيل)(6) ثم ان الكيان الصهيوني لا يمكن ان يخفي زهوه بالتفوق العسكري الصهيوني لا سيما وان الحالة الدولية الجديدة ومن خلال اداتها الامم المتحدة تضع الفيتو على كل تسلح استراتيجي أو شبه متطور في منطقة الشرق الاوسط باستثناء التسلح الصهيوني.

وكان ان حصل الكيان الصهيوني على اول استحقاقات حرب الكويت تمثل في تعاطف غربي لم يسبق له مثيل علق عليه رئيس المعارضة العمالية شمعون بيريز «بان العالم اجمع كان ضد اسرائيل قبل حرب الخليج، غير ان هذه الحرب غيرت المعادلات واصبح العالم اجمع في صف اسرائيل»(7).

____________________________________

1- حرب الخليج أوهام القوة والنصر / محمد حسنين هيكل.

2- مجلة العالم العدد 472، 27 شباط / فبراير 1993.

3- مجلة الوحدة، العدد 15، كانون الثاني / يناير 1993 طهران.

4- مجلة العالم العدد 472، 27 شباط / فبراير 1993.

5- الفرسان، الكتاب السنوي، ذاكرة العام 1991.

6- الفرسان، الكتاب السنوي، ذاكرة العام 1991.

7- الفرسان، الكتاب السنوي، ذاكرة العام 1991.

 

بهذا الخلل الفاضح في موازين القوى وعناصر المفاوضة والمساومة والهجوم أو الدفاع دخلت الوفود المشاركة قاعة مؤتمر مدريد. لقد ذهب العرب إلى مدريد والعالم العربي منقسم على نفسه وليس في ايديهم سلاح قوّة يحتكمون إليه في حالة فشل المفاوضات، وهذا ما وصفه «جيمس بيكر» في قوله «ان الظرف الان مناسب لحل ازمة الشرق الاوسط المستعصية وخصوصا بعد التغيرات التي وقعت في الاتحاد السوفيتي ثم النتائج التي انتهت اليها حرب الخليج»(1). كما انّه على ضوء تداعيات تلك الحرب ونتائجها ـ اصبح للولايات المتحدة حق أو سلطة رسم خريطة جديدة للمنطقة(2).

وباستخدام هذا الحق أو السلطة كان مشروع «بيكر» لمؤتمر مدريد يقوم على ثلاث مراحل هي:

1 ـ المؤتمر العام المفتوح.

2 ـ المفاوضات الثنائية المباشرة.

3 ـ مفاوضات البحث في افاق التعاون في المنطقة في مجالات خطط التنمية المشتركة، موارد المياه، طرق المواصلات، تطبيع العلاقات، التعاون الاقليمي الشامل، والرقابة على الاسلحة(3).

وإذا كان المؤتمر في مراحله الاولى والثانية يعمل باتجاه تصفية القضية الفلسطينية فان مرحلته الثالثة تعمل بخطورة مضاعفة عندما تهدد مجمل الامن القومي العربي في اساسياته وعناصره الحيوية من مياه ومواصلات ونفط وتنمية.

ان موارد المياه بالنسبة للكيان الصهيوني قضية مركزية يؤكد ذلك قول بن غوريون: «.. ان اليهود يخوضون اليوم مع العرب معركة المياه، وعلى مصير هذه المعركة يتوقف مصير اسرائيل. وإذا لم تنجح في هذه المعركة فاننا لن نكون في فلسطين..»(4).

وبقدر ما توفر هذه المياه للكيان الصهيوني فرصة الوصول إلى مصادر المياه العربية، فانها تهدد العالم العربي بالنسبة إلى موارده المائية. ذلك ان الوزارات والاجهزة المختصة في الكيان الصهيوني مشغولة باعداد مشروعات تتعلق بخطوط مياه قادمة من تركيا عبر سوريا ولبنان إلى النقب واخرى تحمل مياه النيل من سيناء والى النقب ايضاً(5). وعندما يفكر الكيان الصهيوني بنقل المياه التركية إلى صحراء النقب في فلسطين المحتلة فان هذا يعني تعاونا وتنسيقا تركيا لما يتعلق بتهديد مصادر المياه بالنسبة إلى كل من سوريا والعراق. ان المياه التركية هي مياه دجلة والفرات ذلك لان ما يسميه «شمعون بيرز» وفرة موارد المياه التركية»(6) وهي وفرة على حساب سوريا من خلال نهر الفرات وعلى حساب العراق من خلال نهري دجلة والفرات.

لقد تنكرت تركيا على سبيل المثال لمعاهدة الصداقة وحسن الجوار الموقعة بين العراق وتركيا عام 1946 والذي الزم البروتوكول الاول منها الملحق بالمعاهدة على ان تركيا توافق على اطلاع العراق على ايه مشاريع خاصة تقرر انشائها على نهري دجلة والفرات أو روافدهما لتلافي الاثار والاضرار المحتملة لتلك المشاريع.

____________________________________

1- لمزيد من التفاصيل يراجع كتاب حرب الخليج اوهام القوة والنصر / محمد حسنين هيكل.

2- حرب الخليج اوهام القوة والنصر / محمد حسنين هيكل.

3- حرب الخليج اوهام القوة والنصر / محمد حسنين هيكل.

4- اسرائيل والمياه العربية / عفيف البزري من خطاب لبن غوريون في تل ابيب عام 1955.

5- حرب الخليج اوهام القوة والنصر / محمد حسنين هيكل.

6- حرب الخليج اوهام القوة والنصر / محمد حسنين هيكل.

 

وحسب تصريح فيليز ديندجتين المتحدثة باسم وزارة الخارجية التركية في شباط/فبراير 1993 فان دجلة والفرات ليسا نهرين دوليين مثل الدانوب خلافاً لما يؤكده جيران تركيا الذين يرغبون بوضع دولي لهذين النهرين، وان تركيا لم تلتزم بتلبية كل احتياجات سوريا والعراق لان مياه هذين النهرين تتميز باهمية اساسية بالنسبة لتركيا». ان اتحاد الشركات الاوروبية سيقوم بتنفيذ السد الرابع على نهر الفرات بموجب الاتفاق الذي وقعه مع وزارة الطاقة التركية في 23 كانون الثاني/ يناير 1993، وإذا كان الكيان الصهيوني يفكر بارواء ضمأ الصهاينة في صحراء النقب من «وفرة موارد المياه التركية» فليكن ذلك على حساب عطش سوريا والعراق بسبب انهيار العراق وتشرذم الساحة العربية على خلفية حرب الكويت، ومغامرة صدام العسكرية.

وعندما ينشغل الكيان الصهيوني في وضع واعداد مشروع خط انابيب بترول من الخليج إلى البحر الابيض المتوسط فان هذا قد يندرج في سياق مشروع واسع يوظف فرائض بترول الخليج مع ما يسميه «شمعون بيريز» «قدرة التكنولوجيا الاسرائيلية»(1) حتى يحقق «لاسرائيل» ما تريد.

ان تحديات الامن العربي لا تنحصر فى منطقة الشرق الاوسط وانما تشمل القارة الافريقية، حيث عقدة عدم الاستقرار في القرن الافريقي المحاذية للبحر الاحمر مع ما يمثله من تأثيرات عميقة على اثيوبيا (اهم منابع النيل) وجنوب السودان، خاصة بعد انتشار القوات الاميركية في الصومال في كانون الاول/ديسمبر عام 1991 لتحويل البحر الاحمر بحيرة اميركية.

ان مغامرة صدام في الكويت وما اعقبها من حرب واثارها قد اصابت الوضع وافقدته توازنه في حالة عجيبة من الضياع التي تهدد امنه القومي على اوسع نطاق.

 

 

الصفحة الرئيسية