تبقى المنطقة الأكبر والأخطر في العالم العربي وأعنى بها مصر، فهي بوزنها السكاني ثلث العالم العربي، ثم هي بموقعها الجغرافي قلبه، وهي بدورها الحضاري محركه التقليدي. وربما بسبب هذه المواصفات المصرية نفسها فإن الذين يهمهم أن تتباعد الأطراف العربية في الخليج والمغرب، والذين يعكفون على رسم خطوط الخرائط الجديدة في الهلال الخصيب ـ لا يريدون مصر بذاتها أو بصفاتها، ولعلهم ـ حربا أو سلاما ـ يريدون لها أن تنكفئ على نفسها، وقصارى ما يسمح لها به ضمن ترتيب جديد للمنطقة أن تتحول في مكانها لا تخرج منه ـ إلى ورشة للعمالة الرخيصة تصنع سلعا يتولى غيرها تصديرها، ثم تفتح سوقها وهي كبيرة في الحجم محدودة في قوتها الشرائية ـ لسلع قد تعرض عنها أسواق أخرى. ومن التقلصات الظاهرة الآن على سطح السياسة العربية أن مصر تستشعر محاولة "لتحجيم دورها"، وذلك يستفز صبرها خصوصا مع اعتقادها ـ وهو صحيح ـ بأنها كانت الباب إلى الحرب، والباب إلى السلام. والآن بعد انتهاء الحرب، وحتى قبل اكتمال دائرة السلام ـ فإن هناك أطرافاً إقليمية ودولية تريد من مصر أن تتلهى بمشاكلها. والمأزق أن مصر حيرى  بالفعل أمام مشاكلها وضمنها مشاكل هوية، ومشاكل تنمية اقتصادية، ومشاكل توجه سياسي واجتماعي، ومشاكل عنف تتعدد أسباب التحريض عليه.

لكنه يبقى أن هواجس تحجيم الدور المصري صحيحة، وإن غاب عن البعض في مصر أن الأدوار التأريخية ليست وظائف وإنما واجبات، وليست إرثا وإنما مسؤوليات. بمعنى أن الدور المصري له باستمرار حجم يقاس بأدائه وليس بأي مقياس آخر مهما قال التاريخ عن الماضي، ومهما قالت الكبرياء عن المستقبل!

إنني ـ على أي حال ـ وفي مناسبات سابقة تحدثت طويلا عن الأحوال والاحتمالات في مصر، وليس في نيتي أن أكرر الآن ما قلته. لكني أريد أن أتعرض لسؤال واحد يطرح نفسه على الساحة الآن، وهو هل صحيح أن "الإسلام هو الحل"؟ واعتقادي أنه في مصر وفي غير مصر من بلدان العالم العربي أن "الإسلام ليس هو الحل"، وإنما الإسلام هو النور والهداية التي يمكن أن ترشد إلى مواطن الحل.

واعتقادي أن الإسلام ـ شأنه شأن كل دين مقدس ـ ضياء يغمر هذا الكون، ومن ثم يهيئ للعقل الإنساني ممارسة حقه في اختيار الحل. أقصد أن الشريعة الإسلامية ـ وكل شريعة دينية ـ لم تفرض سلفا على المجتمعات كيف تدير علاقاتها مع غيرها؟ ولا كيف تدير مواردها الاقتصادية والاجتماعية؟ ولا كيف تحقق العدل والحرية والمساواة في الفرص لأهلها؟ ولا كيف تستطيع تحصيل العلوم وامتلاك التكنولوجيا؟ وإنما الدين ـ كل دين ـ نور يضيء طريق المؤمنين به حتى يختاروا بإرادتهم الحرة ما يرون في تلك المجالات وغيرها، ثم يكون حسابهم أمام خالقهم على استعمال عقولهم أو تعطيلها بعد أن كرمهم الله وخصّهم فوق كل مخلوقاته بامتيازها.

إنني أتذكر لقاء في بيروت مع مطلع هذه السنة مع العلامة السيد "محمد مهدي شمس الدين". وفي هذا اللقاء، أطلعني هذا الشيخ المستنير على مخطوط قديم يحوي ـ بين ما يحويه ـ نصا مأثورا عن الإمام "علي" يقول فيه: "إنما يبعث الله الأنبياء والرسل لإيقاظ دفائن العقول".

والراجح أن الشعار القائل بأن "الإسلام هو الحل" ـ وقع التجني عليه من أصحابه أولا، ومن خصومهم ثانيا، ثم تكفلت الظروف بالتشويش على ما تبقى منه ثالثا.

* أولاً ـ لأن أصحابه اكتفوا بإطلاقه عنوانا بغير تفصيل، ولم يدعموه بشرائع إلهية مستقبلية محددة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والأمن والعلاقات الدولية. وفي أحسن الأحوال فقد ألحقوا بالشعار اجتهادات إنسانية قابلة للمناقشة، لكنها في معظم الأحيان غامضة تعوّض غموضها بسيف الحق تلوّح به حتى وإن لم تستعمله!

* وثانيا ـ لأن خصوم هذا الشعار وجدوا أنفسهم أمام شحنات مجهولة لا يعرفون كيف يتعاملون معها، ومن ثم أصبح موقفهم رفضا يتصدى بالعصبية، ثم تحوّلت العصبية إلى عنف، وتحوّلت الشحنات المجهولة بدورها إلى عنف مقابل.

* وثالثا ـ فإن الظروف ـ بحركة الفعل ورد الفعل ـ جاءت معها بزوابع شديدة غطت على الأفكار والنوايا، وعلى المواقف والرجال جميعا، وخلفت في كثير من الأحيان حطاما وركاما ملطّخا ببقع دم.

وربما أنه عند هذا الحد يستحق الأمر بعض التفصيل. فحركة الإخوان المسلمين في مصر كانت الجذر الأساسي للحركة الإسلامية السياسية الحديثة، ومنها ظهرت فروع وصلت إلى أطراف كثيرة في العالم العربي والإسلامي.

وفي الثلاثينات والأربعينات بدت هذه الحركة أمام غيرها جذرا وفروعا، مركزا وأطرافا، كمّا مجهولا. وكل مجهول بالطبيعة خطر محتمل وهكذا كان.

ووقع أول صدام بين الإخوان المسلمين في المركز وبين الدولة المصرية في القاهرة في أواخر الأربعينات أيام العصر الملكي. وعندما استحكم هذا الصدام صدر القرار بحل الإخوان المسلمين. وقام رئيس الوزراء المصري ("النقراشي" باشا) بحل الجماعة وتحريم نشاطها. وفي الرد عليه قامت الجماعة باغتياله، ورد القصر الملكي بقتل زعيم الجماعة (الأستاذ "حسن البنا") جهارا نهارا في أحد شوارع القاهرة الرئيسية. ومن يومها بدأت دورة القتل، والقتل المضاد.

وفي العصر الجمهوري تكررت الظاهرة. وأثبتت التجربة في المرتين أن الدولة كانت الطرف الأقوى، ومن أثر ذلك أن المركز الرئيسي للحركة في مصر ارتبك دوره واضطرب تأثيره، وفي غيابه فإن الأطراف البعيدة عن الضغط المباشر ظلت تمارس نشاطها. وبدرس واستيعاب ما حدث في القاهرة فإن الفروع كانت على استعداد أكثر من المركز للتلاؤم مع الظروف المحلية في كل وطن عربي أو إسلامي. وعندما خفّ الضغط في مرحلة من المراحل (سنة 1972) عن المركز وعاد إلى استئناف نشاطه ـ وإن بتصريح غير رسمي ـ فإن الأطراف كانت قد اكتسبت لنفسها خصائص محلية، ثم إنها أعطت نفسها حرية في الحركة بحيث أصبحت تؤثر في المركز أكثر مما تتأثر به.

هكذا ظهرت حركة إسلامية ذات خصائص معينة في السودان مثلا، ونفس الشيء في تونس، وفي سوريا، وفي الأردن، وحتى في باكستان.

 وزاد على ذلك أن ما وقع للمركز في القاهرة تكرر مع الأطراف في فروع أخرى مختلفة من إسلام أباد إلى الدار البيضاء. فقد تعرضت الفروع لضغوط شديدة من الحكومات في أوطانها، وفي بعض الأحيان وصلت قوة الضغط إلى حد الشرخ والكسر.

وبالتالي، فلم يبق حل إسلامي واحد ـ على فرض أنه كان هناك من الأصل حل ـ وإنما أصبحت الحلول الإسلامية طرزاً وأشكالا مختلفة متعددة، وأحيانا طرزاً وأشكالا متنافرة ومتخاصمة.

ثم استجد أن الثورة الإسلامية في إيران وقد نجحت في إسقاط النظام الشاهاني السابق عليها، عرضت نفسها على الجميع.

وربما كانت الأمور تختلف لو أن الثورة الإسلامية نجحت في إيران إلى درجة تجعلها نموذجا قابلا للانتشار ولتأكيد دعوة أن "الإسلام هو الحل"، لكن الثورة الإسلامية ـ وربما دون قصد منها ـ حملت منذ اليوم الأول أثقال الخلافات التأريخية بين المذاهب الإسلامية، ثم غاصت إلى الركب في مشاكل الدولة الإيرانية. ومع أني لست بصدد إجراء تقييم للثورة في إيران، إلاّ أن واقع الحال يظهر لنا أن إيران ليست دليلا غير قابل للشك على صحة الشعار القائل بأن "الإسلام هو الحل"!

وأحسبني ما زلت عند الرأي الذي قلته في ضاحية من ضواحي باريس لـ "آية الله الخميني" حين لقيته والثورة ضد النظام الشاهاني في أوجها. وقتها قلت له: "إنني أستطيع أن أسمع هدير مدافعك تدك النظام القديم بقوة الإيمان، ولكني أنتظر رؤية المشاة من جنودك يحققون النصر ويبنون دولة قوية جديدة بدلا من الأنقاض والأطلال الباقية بعد سقوط الشاه". وأضفت: "إن المشاة القادرين على تأكيد النصر وبناء الدولة هم كتائب المثقفين والمتعلمين والمتخصصين في كافة المجالات من أبناء الشعب الإيراني". وكان رده: أن "الثورة الإسلامية لن يعجزها أن تجد بين أبنائها مثل هؤلاء".

والذي حدث هو أن المدافع كانت شديدة الكفاءة، ولكن المشاة بعدها وكما يبدو لي ـ حتى هذه اللحظة على الأقل ـ ليسوا على نفس كفاءة المدافع. هذا مع أني أعترف للثورة الإيرانية بصرف النظر عن كل شيء بفضل أنها حتى هذه اللحظة ما تزال مرابطة عند أسوار القدس.

وفي النتيجة فإنه يظهر أن مقولة "الإسلام هو الحل " ـ سواء بأخطاء أصحابها، أو برفض خصومها، أو بالظروف التي تعرضت لها، لم تعد حلا. بل لعل سياق الحوادث دفعها لأن تصبح جزءاً من الأزمة أكثر مما هي جزء من حلها!

أقول ذلك وأضيف إليه اعتقادي الراسخ بأنه لا يمكن تصوّر مستقبل عربي في عزلة عن الفكر الإسلامي وتراثه الإنساني والحضاري!

والمجتمع المصري بطبيعته متدين، ونعرف أن تلك طبيعة غيره من المجتمعات في الوطن العربي، لكن الإسلام يظل قضية أكبر وأشمل من كل ظواهر ومشروعات الإسلام السياسي.

إن الفكر الإسلامي السياسي إسهام خلاق وغني لمفكرين إسلاميين عظام مارسوا بقدر ما أتيح لهم من نور وعقل حقهم في الاجتهاد. لكنه في حين أن شريعة الله مقدسة فإن ضرورات التشريع الإنساني تتحوّل وتتطوّر مع تقدم العصور، وازدياد رقعة العمران، واتساع مساحة النور المتاح أمام العقل الإنساني.

ولقد كانت هناك ذروة وقع معها الظن بأن ما يعرف بوصف "الإسلام السياسي" موجة غالبة، وكان ذلك سنة 1980 بما تبدى من انتصار الثورة الإسلامية وسقوط الشاه في إيران، وبما تلا ذلك سنة 1981 أثناء خريف الغضب في مصر واغتيال الرئيس "السادات". لكن هذه الذروة مضت وظهر أن ضرورات وتحديات العصر أعتى من أي موجة سياسية، كما أن الإسلام عقيدة أبقى وأخلد من أي شحنات عاطفية ونفسية، أو أي أزمات اقتصادية واجتماعية، أو أي اكتفاء بالتراث يعفي نفسه من الإضافة إليه!

أزيد على ذلك أن الإسلام سوف يظل حصنا ودرعا للمقاومة الوطنية والقومية في الأزمات لأنه هويتها الأساسية. وهو إلهام لهذه المقاومة حين تمارس حق الاختيار الإنساني الذي أعطته الحكمة الإلهية للبشر حتى يكون أساس لحسابهم يوم الحساب!

لكني أضيف إلى ذلك أنه حين تتبدى الحالة الإسلامية عنفا سياسيا، وحين تطول مدة هذا العنف لسنين، وحين يصل عدد ضحاياه إلى الألف، وحين تشارك فيه مع هذه الاعتبارات جموع واسعة من الناس، وحين يتركز هذا العنف في أكثر مناطق الوطن حاجة وفقرا ـ إذن فمن الضروري على كل سلطة أن تتوقف لتراجع نفسها أولاً وتسائلها عن طبيعة ما هو جار، ثم تجد له تكييفاً أكثر دقة من مجرد تهمة الإرهاب.

يتصل بذلك أنه حين تتبدى الحالة الإسلامية ممارسة سياسية مفتوحة على الساحة ووفق القواعد والأصول، فإن الفرصة لابد أن تتاح لهذه الممارسة حتى تلتزم هذا المنهج، ولا يكون الحوار معها بواسطة المحاكم العسكرية.

هكذا، فإنه ـ لا "الإسلام هو الحل"، ولا عنف الحالة الإسلامية أو العنف ضدها، يفتح ولو ثقب إبرة إلى مثل هذا الحل.

ومعنى ذلك أن البدائل المطروحة على الأمة العربية مجتمعة، أو على أقاليمها مختلفة أو متفرقة، لا تقدم حلا وسهلا أو سريعاً أو قريباً كما سبق وعرضت!

* * *

تتشابك الطرق وتتعقد أكثر إذا ما تذكرنا أن حل الأزمة العربية الراهنة معلق على نحو أو آخر بأزمة عالمية ـ في الفكر وفي الواقع ـ تعكس آثارها على الجميع وتصيبهم بمضاعفاتها.

وصميم الأزمة العالمية أن المجتمعات شرقا وغربا لم تعد في عصمة عقائد أساسية يمكن استلهامها في السياسات، ويكون القياس عليها في التصرفات، ويقع الاحتكام إليها في حل الأزمات ضمن بناء منطقي متكامل له فضاؤه ومرتكزاته.

ونذكر أنه ظهرت في القرن التاسع عشر ـ ومشت منه إلى القرن العشرين ـ عقيدتان أساسيتان ... "أمهات أفكار" ـ إذا جازت استعارة ذلك التعبير الذي شاع أخيرا ـ وقفت كل واحدة منهما مقابل الأخرى وطرحت نسقا متكاملا في الفكر والفعل، بل واستطاعت أن تنشئ "دولة نموذج" حسب مواصفاتها.

* كانت "أم الأفكار" الأولى تصورا يرى أن المجتمعات قادرة على تنظيم نفسها بنفسها بواسطة المبادرة الذاتية وبآلية السوق. وتلك هي العقيدة الرأسمالية أو الليبرالية. وكانت دولتها النموذج في البداية بريطانيا، ثم أصبحت الولايات المتحدة هذه الدولة النموذج.

* وكانت "أم الأفكار" الثانية تصورا يرى أن المجتمعات لا تستطيع أن تنظم نفسها بنفسها وإنما تلك مسؤولية الإنسان وبآلية التخطيط المركزي، وهذه هي العقيدة الماركسية أو الشيوعية، وكانت دولتها النموذج في البداية هي الاتحاد السوفيتي. ويبدو أن الصين ـ بعد مراجعات عميقة وواسعة ـ تطمح إلى هذا الدور.

لكن الذي شهدناه في أواخر القرن العشرين أن كلا من "أم الأفكار" راحت تفقد سطوتها، كما أن دولتها انزلقت إلى أزمة تأخذ منها ـ على الأقل ـ حقها في تجسيد النموذج.

لقد تبدي من ناحية أن المجتمعات لا تستطيع أن تنظم نفسها بنفسها، وهذه أزمة الولايات المتحدة، ذلك أن المجتمعات في طلبها للتفوق وللعدل والمساواة تحتاج إلى تنظيم.

ثم إنه تبدى من ناحية أخرى أن المجتمعات لا تستطيع أن تعيش على صرامة التخطيط المركزي، وهذه هي الأزمة التي أدت إلى سقوط الاتحاد السوفيتي، ذلك أن المجتمعات في طلبها للحرية والتجديد لا تنمو داخل أوعية من حديد.

ثم إن المجتمعات في الحالتين ـ سيطرة السوق أو سيطرة التخطيط المركزي ـ تحتاج إلى زاد روحي لا تستطيع السلع وحدها أن توفره!

ومع سقوط الاتحاد السوفيتي راحت الولايات المتحدة تهنئ نفسها وتطرح مقولات نظام عالمي جديد، وتنشر اجتهادات عن نهاية التأريخ وصراع الحضارات، إلى آخره.

ومع الأزمة الأمريكية الشديدة راحت الصين ـ بعد اختفاء الاتحاد السوفيتي ـ تهيئ نفسها لاحتمال أن القرن الواحد والعشرين سوف يكون قرنا آسيويا، وأن مركز الثقل فيه سوف يكون محيط الصين.

لكنه في الفراغ الناشئ بعد أزمة العقيدتين الأساسيتين "أمهات الأفكار"، فإن بوادر القرن الجديد تشير إلى بروز ظاهرة أشد تأثيراً وقوة، وعلى نحو يعطيها الفرصة لكي تكون سلطانا حاكما يرث العقائد المتعثرة في أزماتها، وهذا السلطان هو ما يطلق عليه الآن وصف "العالمية" أو "الكوكبة" globalization.

تفترض "الكوكبة" أو "العالمية" الجديدة حركة متدفقة لا يحق لأحد أن يظل خارج مجالها المغناطيسي وقوانينه متمثلة في ثلاث ظواهر:

* رأسمال يتحرك بدون قيود.

* وبشر ينتقلون بغير حدود.

* ثم معلومات تتدفق بدون سدود.

لكنه لا يغيب عنا أن هذا كله معلق بمشيئة بيروقراطية عالمية ليست لها هوية أو جنسية أو خرائط، وليست مثقلة بولاءات وطنية أو عقائدية أو اجتماعية، وليست متحملة بمسؤولية تجاه أمة أو دولة أو جنس أو دين.

ـ بيروقراطية إدارية عابرة للقارات تدير حوالي ألف بنك وشركة صناعية وتجارية ومالية تتحكم وحدها في نصف الإنتاج العالمي تقريباً ما قيمته 12 تريليون دولار من حجم إنتاج عالمي قيمته 25 تريليون دولار سنويا).

ـ وبيروقراطية عسكرية ـ أعطت نفسها سلطات لا ترد في تطوير السلاح وإنتاجه واستعماله في بؤر توتر تراها على خرائطها ـ داعية للتدخل، وذلك يحدث في معظم الأحيان دون تفويض شرعي أو دستوري. والمدهش أن أسلحة الدول تستخدم في هذه البؤر بغير مسؤولية على أصحاب الرأي والمصلحة في استخدامها.

ـ وبيروقراطية دولية تبعث بتوجيهاتها وتعليماتها من قلاع بعيدة مسيطرة مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والوكالات المتخصصة للأمم المتحدة، والمنظمات العاملة في أوروبا من الحلف الأطنطلي إلى السوق المشتركة. وهذه البيروقراطية من قلاعها البعيدة تتحكم في الإنسان العادي حيث كان، ابتداء من قيمة النقد في جيبه إلى لقمة الخبز في فمه إلى السلاح الذي يحميه أو يهدده!

ـ وأخيراً تنضم إلى هذه البيروقراطيات كلها بيروقراطية إعلامية تسيطر على حركة المعلومات والمواد الإخبارية والترفيهية المتزاحمة في الأجواء والمتدفقة من القنوات الفضائية، وكلها تؤثر بطريقة فادحة على اهتمامات وتطلعات وأمزجة الناس، بل إن لها القدرة على إعادة صياغة وتشكيل هذه الاهتمامات والتطلعات والأمزجة، وتكاد أصواتها وألوانها أن تحل محل الثقافة وأن تعيد كتابة التاريخ.

وهكذا، فإن العرب الذين يتطلعون إلى العالم الخارجي ينتظرون منه حلا، يجدون أن العالم يلقي على أكتافهم ولا يحمل عنها، ويزيد من عللهم ولا يشفي منها.

* * *

ولقد طوفنا بالآفاق شرقا وغربا، ولم نجد حلا حتى وإن لم يكن سهلا أو قريبا.

والسبب أننا نبحث عن شيء لم يوجد بعد، ولم يولد بعد، ثم إن حالة إجهاض سابقة ما زالت تمنع بتنزيفها المستمر فرصة حمل جديد.

وتلاحظون حتى هذه اللحظة وبقرب نهاية هذا الحديث أننا لم نتجاوز بعد نطاق الأزمة إلى مجال حلها، ولم نقترب من المستقبل أو مشارفه.

لكن ذلك لسوء الحظ ما نملكه، وربما ما يملكه غيرنا.

وبرغم ذلك، أجدني على استعداد للاقتناع بأن ما نقوله عن الأزمة العربية عرضا واستعادة وتكرارا ليس جهدا ضائعا أو منقطع الصلة بطرق الحل ومسالكه.

ولعلنا نطمئن أكثر إذا تأملنا النقلات الطبيعية التي ينتقل بها الفكر إلى الفعل مع أي معضلة تواجهه في أي مجال من المجالات، سواء كان هذا المجال نظريا أو علميا أو اجتماعيا.

فالحلقات المنطقية في السلسلة الواصلة من الفكر إلى الفعل ثلاثة في الغالب:

الحلقة الأولى: أننا نلاحظ ونبحث وندقق في ظواهر وأعراض وأسباب معضلة تواجهنا.

الحلقة الثانية: أننا نربط علاقة الظواهر والأعراض والأسباب ونستوثق ونستوعب، ويصل ذلك بنا إلى درجة التشبع والامتلاء.

والحلقة الثالثة: أنه نتيجة للتشبع والامتلاء مع زيادة الضغوط الملحة في طلب حل، يقع في لحظة من اللحظات ما تسميه مدارس الصوفية ـ ومدارس العلم أيضاً ـ بـ "الفيض والجلاء"، ومن ثم ينبثق ضوء قد يكشف عن بداية طريق.

إن لحظة "الفيض والجلاء" في هذه الحالة ليست إلهاما من وراء الطبيعة، ولكنها عملية تحوّل حقيقي ونقلات تتوالي وتتراكم من خلال حركة الفكر وتداعياتها وبالاحتكاك مع الضرورات والظروف ـ وحينئذ قد يلمع شعاع.

إننا شهدنا هذه التجربة تقع بالفعل في مجالات العلوم الطبيعية.

ثم إن شيئاً قريبا من ذلك يحدث في مجال العلوم الإنسانية وإن بمنهج مختلف. وإذا كانت الطبيعة تنتظمها في النهاية قوانين تستطيع لحظة "الفيض والجلاء" أن تكشف عنها، فإنه بالنسبة للمجالات الإنسانية توجد في النهاية علاقات وصلات، تنبه وتوجه.

أريد أن أجمل القول:

1 ـ نحن في العالم العربي نعيش أزمة عنيفة ومركبة من صنعنا ومن صنع غيرنا ومن صنع عالمنا وعصرنا.

2 ـ نحن بجهد جهيد نبحث عن مخرج ونتلمس حلا وسط ضغوط هائلة، ولكن هذا الحل لم يجيء حتى الآن.

3 ـ ثم إن الحل ليس معلقا برأي أحد ولا برؤيته، فحلول المعضلات تحتاج إلى استمرار الاحتكاك بين الحقائق والظروف، وبين الواقع والمطلوب، حتى تظهر بارقة.

إن ما أجملته الآن ليس استسلاما لما كانوا يسمونه بالحتمية التأريخية، وإنما هو روح التجربة الإنسانية في حيويتها وتدفقها، في خلقها وإنشائها.

وربما أريد أن أتفاءل وأقول إن طول الأزمة، بغير أن يتبدى سبيل إلى حلها، يرجع إلى عدة مجموعات من الملابسات المحيطة: عملية، ونفسية، وغريزية.

* وبالنسبة للمجموعة العملية فأمامنا حواجز كثيفة من الغموض: خبايا داخل خفايا، وألغاز داخل أسرار. وعلى سبيل المثال:

ـ ما هو موقعنا على خريطة العالم؟ وما هو نوع علاقاتنا مع القوى الفاعلة فيه؟ وإلى أي مدى وبأي ثمن تظل علاقتنا بهذه القوى مركزة بالدرجة الأولى في قوة واحدة هي الولايات المتحدة؟ وهذه القوة في الزمن الراهن تتولى مشاكل العالم، لكنها تمارس هذه الولاية بأسلوب عجيب. أسلوب لا يعترف بالتاريخ ولا بالقانون، وإنما يتعامل مع الواقع أو ما يظنه واقعا، وهو يفعل ذلك بالإملاء وليس بالتفاوض. والإملاء في كثير من الأحيان وحي المصالح الانتخابية لساكن البيت الأبيض أو حزبه.

ـ كيف ينعكس تأثير علاقتنا بطرف واحد في العالم مستقبلا على قرارنا خصوصا مع نشوء مراكز تأثير، ومراكز ضغط، وبؤر توتر قريبة أو مجاورة؟

وعلى سبيل المثال، فإنه من الممكن تصور ضغوط أوروبية على كل الأقاليم العربية هدفها تحديد حرية انتقال البشر (طبقا لقوانين "الكوكبة" أو "العالمية") بحيث تصبح حركتها في اتجاه واحد من الشمال إلى الجنوب وليس العكس.

إن ظواهر صد حركة الجنوب إلى الشمال تعكس نفسها أمامكم في أوروبا كلها على شكل قوانين للهجرة. وأظن أن عملية تثبيت الجنوب في مكانه ـ إلى جانب الترتيب لعلاقة أوروبية في شمال البحر الأبيض مضبوطة مع منطقة في جنوب هذا البحر مفلوتة ـ تبين من أهم مطالب اجتماعات "برشلونة" أخيرا، مهما كانت براعة المساحيق ورقة العطور التي تتوسّل بها هذه المطالب.

وعلى سبيل المثال، فإنه من الممكن تصور توترات في منطقة شبه القارة الهندية تصب في اتجاه منطقة الخليج العربي بما لا يخطر لأحد الآن على بال، مع ملاحظة أن منطقة  الخليج الآن ملأى برؤوس جسور آسيوية.

وعلى سبيل المثال أيضاً، فإنه يمكن توقع ضغوط وتوترات نازلة من الشمال شرقا وغربا وراء إيران أو وراء تركيا، أو وراء الاثنتين معا، تحمل عواصف من شبه جزيرة القوة معبأة بمخاطر يصعب تقديرها على الأرض والبشر والموارد، بما في ذلك خطوط  الحدود، واعتبارات الأمن، وحتى مياه الأنهار.

إلى جانب ذلك، فإن الأراضي الإفريقية الواقعة إلى الجنوب من أقاليم عربية ممتدة، مكشوفة لأنواع من الفوضى. وربما تذكرنا أن المرض مُعد وأن الصحة غير معدية!

وأين في ذلك كله تصورن للأمن القومي العربي؟ وكيف نفكر فيه؟ وكيف نتصرف إزاء احتمالاته؟!

ـ ما هي أحوالنا الاقتصادية؟ وما هي نتيجة سلسلة عقود من التنمية؟ وما هو التركيب الطبقي لمجتمعاتنا؟ ثم ما هو بالضبط حجم ما تراكم ـ أو ما تبدد ـ من ثرواتنا وأموالنا؟

ـ ما هي فكرة العرب عن حقول الألغام النائمة ـ كالفتنة ـ في تنويعاتهم العرقية والدينية والطائفية في ظروف يظهر فيها محرضون كثر على إيقاظ هذه الألغام بالفتنة تؤثر في وحدة الشعوب وتماسك بنيان الأمة؟

ـ ما هي الصور المحتملة لشكل المستقبل، خصوصا وأن هذا الشكل متصل على نحو ما بعنصرين مختلفين بينهما علاقة ملتبسة؟

وهنا، فإنني أتحدث عن الجيوش وعن الشباب.

وعلى نحو ما، فإنه يبدو أن بعض الجيوش العربية مُستنفر بأكثر من اللازم نحو مشاكل الداخل ـ بعيدا عن الأمن الوطني والقومي ـ وهو صميم اختصاصه.

وعلى نحو ما، فإنه يبدو ـ في الوقت نفسه ـ أن كتلا كبيرة من الشباب العربي مُستغرق بأكثر من اللازم فيما لا علاقة له بالمستقبل وهو بالتأكيد حياته ومجال فعله.

ـ ما هي طبائع السلطة الحاكمة في كل بلد عربي؟ وما هي قواعدها؟ وما هي ولاءات النخب المحيطة بقمة السلطة والمؤثرة أو الضاغطة بالتالي على قرارها؟

ـ إلى أين تصل بنا مسيرة السلام الجارية الآن، خصوصا وأن كل ما حدث في هذه المسيرة حتى هذه اللحظة يظهر أننا وصلنا بالكاد إلى الساحة الخارجية للمعابد التي تسكنها الآلهة الغاضبة، لكننا لم نعبر فوق العتبات الفاصلة بعد؟

ننسى أحياناً أن إسرائيل في الأصل والأساس ادعاء توراتي يؤمن به ويعمل على أساسه كل سكان إسرائيل: المعتدلون العلمانيون والمتطرفون الدينيون سواء بسواء.

وصحيح أننا نرصد بينهم خلافات، لكن هذه الخلافات تفاصيل، فإذا هي تجاوزت التفاصيل ـ وهو أمر وارد ـ إذن فنحن أمام احتمالين كلاهما متفجر:

* إذا ساد المعتدلون العلمانيون لم يعد هناك أساس لقيام الدولة.

* وإذا ساد المتطرفون الدينيون لم يعد هناك أساس لقيام السلام.

إن "الحل الفلسطيني العراقي الأردني" الذي أشرت إليه فيما قبل قد يعطي مخرجا من هذه المعضلة يوفق بين الديني والعلماني في إسرائيل، ويعطي أساسا مختلفاً للدولة اليهودية يقوم على وحدة التراب الإقليمي. وبقيامه فإن هذه الدولة تستطيع أن تسترضي الأسطورة وتستبقي الضرورة اللازمة لتوسعها وازدهارها!

وفي مثل هذه الأحوال فإلى أين من هنا بالنسبة للعرب؟

وكيف تتصرف النظم العربية حينئذ على المستويين الإقليمي والدولي، وحتى في ممارسة سياساتها الداخلية؟!

ـ ما هي حدود الارتباطات والتعهدات والترتيبات التي قامت وتقوم بين قمم السلطة والنخب المحيطة بها ـ مع أطراف غير عربية، إقليمية أو دولية؟ وعلى سبيل المثال فقد أزعم أنني أعرف يقينا ما جرى في عدد من العواصم العربية عندما وقع ذلك المنحنى على الطريق أواخر سنة 1973، وحتى الآن حين أصبح المنحنى انقلابا كاملا في كل شيء.

إن عدداً من الحكام العرب وهم يدركون بحواسهم مخاطر ما هم مقبلون عليه طلبوا ـ وحصلوا ـ من الولايات المتحدة الأمريكية على ضمانات متعددة المستويات:

(أ) مسؤولية أمريكية عن الأمن الشخصي حتى يمكن إعادة تدريب مختصين محليين على أحداث أساليب الحماية الشخصية.

(ب) مساعدة أمريكية على تأمين الحكم ضد أي جهات عربية قد تعترض أو تعارض ـ بل إنه في بعض الحالات جرى تحديد هذه الجهات المحتملة للمعارضة بالاسم.

(ج) كفالة أمريكية بصد أي محاولات دولية تقوم بها أطراف كبرى لا تعجبها أو لا تناسبها تقاطيع وملامح السياسات الجديدة.

إن مثل هذه الطلبات العربية والاستجابات الأمريكية لم تحدث من رجل واحد ولا من نظام واحد في العالم العربي، وإنما شارك فيها كثيرون. وفي حالة بعضهم فإن الإثبات كان ممكنا. وفي حالة آخرين، فإن الإثبات كان صعبا مع أن الظلال كانت كافية، فظل أي جسم يثبت وجوده حتى إذا لم يكن الجسم نفسه مرئيا للأبصار.

وبصفة عامة، فإن مجتمعات المدن العربية أتاحت الفرصة لظهور الحقائق، بعكس مجتمعات العشائر والقبائل المغلقة على نفسها والتي يحتكر الحكمة شيوخها!

ـ وهناك سؤال آخر قد يكون الأكثر خطرا على حرية العرب في حل أزمتهم والعثور على مستقبلهم، وهو سؤال يتصل بعامل مستجد لم يكن قائما في مراحل سابقة. بل إن التحسب له في ظروف سابقة كان من ضروب المستحيل. وذلك هو السؤال عن نوعية قواعد التدخل والاشتباك لدى القوات العسكرية الأمريكية المرابطة الآن في المنطقة؟ ذلك أنه على السواحل العربية، وفي العمق العربي، تتمركز الآن مجموعة ست فرق كاملة منتشرة ما بين الخليج والمحيط، وهذه الفرق الست تعززها في الأحوال العادية قوة طيران تصل إلى خمسة عشر سربا، إلى جانب 180 قطعة بحرية.

وذلك حشد يزيد حجمه وقوة نيرانه عن القوة الأمريكية العاملة في إطار حلف الأطلنطي، سواء في زمن المواجهة مع حلف وارسو أو بعد نهاية الحرب الباردة.

وهذا الحشد ليس مجهزا لعدو دولي منافس ـ لأن الموازين الدولية الآن مسترخية. ثم إن هذا الحشد ليس مجهزا لعدو من الإقليم طامع، لأن الأعداء في الإقليم ـ وإلى مستقبل منظور ـ أسرى ضعف أو نزف لا يسمح بالمغامرة.

ومعنى ذلك أن هذا الحشد مجهز لعدو أو أعداء مجهولين، في الداخل على الأرجح.

والخطر القائم هو أن وجود هذا الحشد ـ مهما كان المجهول الذي يجهز نفسه لملاقاته ـ يخلق في حد ذاته نوعا من الاستفزاز للمشاعر الوطنية والقومية، وهو بذاته أيضاً يستدعي مقاومة قد لا تجد سبيلا إلى المقاومة المباشرة، ومن ثم تلجأ إلى وسائل غير مباشرة.

وتتسع المواجهات وتتشابك الصراعات، وتمتزج الهموم مع المخاطر!

* وأنتقل إلى المجموعة الثانية من الملابسات، وهي النفسية. وعلى سبيل المثال:

ـ فإن الأجواء التي سادت في العالم العربي خلال السبعينات والثمانينات أحدثت خلطاً تداخلت معه المراحل، ولم يعد في مقدور أحد أن يضع لهذه المراحل سياقاً زمنيا له فواصله، بحيث يتضح ما هو القديم في الأزمة العربية؟ وما هو المستجد؟ ما هو المرض الأصلي؟ وما هي المضاعفات الطارئة عليه؟ ونعرف جميعاً أن من أولى ضرورات التشخيص السليم لأي علة أن يكون هناك نوع من السجل الكامل  لما أصاب أي جسم واعتراه من لحظة الميلاد، بل ومن قبلها، مما هو موروث وكامن في الخلايا.

من نتائج ذلك ـ إلى جانب صعوبة التقييم السليم للمراحل لتحديد مواضع العلل ـ أن أزمة مصداقية تحكمت في الأمة وأفقدتها الثقة في أي شيء. وفي كل شيء، وذلك شعور موحش ومقبض.

إن عمليات التغطية على الحقائق بالأوهام المخدرة المغيبة وبالأحلام الهائمة العائمة وبالتدليس المستتر والجريء ألقت حمولاتها على الأزمة.

وأنتم تذكرون في تجربة الأزمة الفرنسية سنة 1940 أن الأزمة كانت في جوهرها تناقضا بين الواقعية السياسية داخل حدود، وبين الحلم مسلحا بالإرادة الإنسانية والتاريخية بغير حدود. ولم يكن هناك دور للكذب أو الوهم أو التدليس.

بمعنى أن "بيتان" وقف يرسم صورة دقيقة لما يراه من أحوال الأمة الفرنسية، ووجد من يصدقه. لكن "ديجول" وقف يعبر عن موقف مسقبلي بإمكانياته لأزمة واقعة، ووجد من يصدقه.

لكن كلا منهما إلتزم بما رأى: أولهما بما رآه بصره، وثانيهما بما رأته بصيرته.

وفي الحالتين، فقد كانت الأمة الفرنسية تعرف ما يمكن أن ينتظرها مع "بيتان" أو مع "ديجول"، ومن هذه المعرفة فقد كان في استطاعتها أن تملك روحها على الأقل.

ـ إن صورة الحالة النفسية للأمة دخل عليها خلل أفقدها التوازن في تقدير ما حل بها، وأعترف أني أقترب من هذه المسألة على حرج واستحياء. ومؤدى هذه المسألة أن مصر فتحت أوراقها ولعلها في بعض الأحيان مزقتها، وبالتالي فإن حجم مسؤوليتها عن الأزمة لم يظهر فقط، لكنه تعرض أيضاً لعملية تركيز عليه أساءت له إلى حد التشويه، في حين أن بقية المسؤوليات العربية الأخرى عن الأزمة وضعت أوراقها جميعا في خزائن الصمت.

إن الأمة كانت تحتاج إلى محاسبة نفسها بالفعل. ولما كان الحساب في حاجة إلى وقائع أو شهادات، ولما كانت الوقائع والشهادات من غير مصر غائبة، فإن أحدا سواها لم يوضع موضع المساءلة، وذلك أضعف تأثيرها وأخذ من دورها في ظرف لم تظهر فيه أدوار بديلة تملأ الفراغ أو تعوّض عن جزء منه.

واعتقادي أن مصر ظلمت نفسها بكل ما قيل فيها حقا وباطلا عن مسؤوليات وتبعات الأزمة. وكان أغرب ما حدث أن الآخرين تلقفوا ما قيل في مصر بالحق والباطل واعتبروه كل حساب الأزمة، وأعفوا أنفسهم. وبالطبع فقد ساعدت على ذلك حماقة الأهواء في السياسة المصرية، كذلك ساعدت عليه أزمة الإعلام العربي في مراكزه التقليدية في القاهرة وبيروت وغيرهما، ثم ما ترتب على ذلك من ظاهرة هجرة الإعلام العربي إلى مواقع بعيدة عن أوطانه. ذلك مع اعترافي بأن هذا الإعلام المهاجر والذي يحتاج في هجرته إلى سند الأغنياء، أدى بعضه ـ وما زال يؤدي ـ جهدا يستحق الإشادة. ولعله بهذا الجهد يدفع ضريبة الظروف التي تكتنف عمله في منفاه الاضطراري!

نتيجة ذلك نفسيا أن العالم العربي فريقان: فريق يعيش مع عقدة الذنب بأكثر من اللازم، وفريق يعيش مع عقدة الإنكار يواصل بها هربه الدائم من المسؤولية.

* أصل إلى المجموعة الثالثة من الملابسات وقد وصفتها بأنها غريزية. ومقتضاها أن الأمة في حالة تخوف وقلق وحذر بالغريزة تأخذها جميعا إلى موقف حيرة شديدة.

فهي تبحث عن حلول لأزمتها عن طريق العمل السلمي، وليس عن طريق الانقلاب المسلح. وهي تتلمس الطرق إلى ذلك، وتجد الأفق ظلاما، أو غياما إذا شئنا التفاؤل.

إنها تعرف طبائع الحكم في أوطانها، وهي غير راضية عما تراه، لكنها تدرك بالغريزة أن الحكم مدجج بالسلاح، وهي لا تريد أن تقاتله. ثم تجد نفسها في حرب معه. وهي تريد ولكنها لا تعرف كيف تحاوره أو تحاسبه.

وهي في حاجة إلى قيادات تعبر وتوجه وتقدم، لكن القيادات التي تعرض نفسها ليست أفضل بكثير مما هو مسلط عليها بالفعل.

إن تجربة هذا البلد الذي تعيشون فيه والذي نلتقي الآن في عاصمته الباهرة، ما زالت قادرة على العطاء والإلهام.

سنة 1968 كما تذكرون كانت فرنسا تحت قيادة "ديجول" قد مشت على الطريق الطويل من الهزيمة العسكرية أمام الألمان إلى العودة الكاملة كشريك في إدارة العالم.

ومع ذلك، فإن هذا البلد ـ حتى مع بطل وطني كبير من طراز "ديجول" ـ أحس بالحاجة إلى التغيير والتجديد. وتذكرون افتتاحية شهيرة نشرتها جريدة "الموند" سنة 1968 وكان عنوانها "فرنسا تشعر بالملل". وكانت هذه المقالة إشارة ضمن إشارات.

إن "ديجول" كما تعرفون ـ رغم جرح كبريائه ـ تلقى الإشارات وردّ بمرارة: " إن فرنسا لم تعد تريدني".

وكان في ذلك مدركا لحقائق الحياة، خصوصا ومظاهرات الشباب حوله تنادي بأن "عشر سنوات من حكمه فيها الكفاية".

وقرر "ديجول" أن ينسحب إلى العزلة في قريته بعيدا عن السلطة وعن الأضواء وعن باريس.

في الأحوال العربية شيء مشابه وشيء مختلف.

الأمة ليست في "حالة ملل" مثلما كانت فرنسا سنة 1968، ولكنها ـ أسوأ من ذلك ـ في حالة اكتئاب جماعي.

ولكن السلطة التي استدعت هذه الحالة في العالم العربي لا تملك حساسية "ديجول" أو كبرياءه. والمزعج أن هذه السلطة لم تمسك بالحكم عشر سنوات فقط كما كان الحال مع "ديجول"، وإنما تقول الأرقام إن متوسط عمر الأنظمة الحاكمة في العالم العربي وبنفس الأشخاص والوجوه ـ هو تسعة عشر عاما، وبدون أسطورة الجنرال الكبير أو سجله.

برغم ذلك، فإن الأمة العربية ليست مبالغة فيما تطلبه أو متجاوزة، فهي فيما أحسب ورغم إحساسها بما هو أكثر من الملل لا تريد أن تقفز إلى تغييرات أو تجديدات غير مأمونة أو غير واضحة.

إنها ـ فيما أظن ـ لا تريد من أحد أن ينسحب أو يعتزل. وقصارى ما تريده أن تعرف حقائق أمورها وأن تفهم واقع أحوالها.

وهي لا تريد أن تحاسب أو تحاكم، ولا تطلب المستحيل، ولا تتصور أن ما حدث كله يمكن إنكار عواقبه أو إلغاؤه، فهي متيقنة من أن مكان عيونها في مقدمة رأسها وليس خلفها، وتلك خاصية الخلق الإنساني.

أي أن الأمة لا تبحث عن شيء في الماضي، وإنما هي تبحث عن شيء في المستقبل، وهي تتمنى الذهاب إلى هذا المستقبل بطريقة سلمية خالية من العنف برغم ظهور بوادر على نفاد الصبر. ومن واجب الجميع بغير استثناء أن يساعدوا على فتح هذا الطريق السلمي إلى المستقبل.

* * *

وقد يقول بعض الأصدقاء هنا، إنني لم أفعل الآن إلاّ ما فعلناه جميعا من قبل حين دخلنا إلى توصيف الأزمة وأحوالها.

وإلى حد ما، فإنني أعترف بذلك، لكني أزعم بعده أنه بالضبط ما نحتاج إليه وما نملكه الآن.

دعونا نتذكر أن الكشف عن العلل العضوية والنفسية اختلفت أساليبه.

* في العلل العضوية كان الفحص في البداية بالنظر، ثم تلاه الفحص باليد.

ثم ظننا أن الكشف بلغ مدى دقته باستعمال ميزان الحرارة وجهاز قياس الضغط.

والآن، نعرف من وسائل الفحص ما لا أول له ولا آخر. فهناك التحاليل المعملية كيميائية ومناعية وجينية، وهناك الوسائل التصويرية بالأشعات تنفذ إلى كل موقع في الجسم، وهناك الدراسات الفسيولوجية والكهربية تختبر كل جزئية، وهناك المناظير الداخلية تخترق أعماق الجسم، وهناك تحاليل ودراسة الأنسجة تفك طلاسم التركيب البشري ذاته.

وكل وسيلة من هذه الوسائل تحمل معها آلاف الاختبارات، حتى لقد أصبح في مقدور الطب أن يرصد العلل المتربصة بأي إنسان قبل أن يولد.

* ونفس الشيء تقريبا ينطبق على العلل النفسية، ففي أزمة سحيقة كان دواؤها بالسحر والاستعانة بالجن، ثم تحوّل العلاج إلى الحجز والحجر، ثم أصبح الآن غوصا في أعماق النفس يستطلع مكنوناتها ليستخرج منها ما يكفيه للتحليل والمعرفة. ثم جاء الدور على العقاقير المعبأة لإعادة التوازن إلى الأعصاب التي أصابها الاضطراب.

وإذا كان يقال في الطب إن تشخيص الأمراض نصف الطريق إلى علاجها، فإن القول نفسه ينطبق على "الأمراض السياسية".

ومؤدى ذلك أنه طالما لم نتوصل إلى دواء لعللنا، فمعنى ذلك أن هناك خطأ أو نقصا في التشخيص. وتظل إعادة الفحص ضرورية خصوصا بما يستجد من وسائل قادرة على الإحاطة بكل الأبعاد والنفاذ إلى أعماق الأعماق.

كذلك، فنحن في حالة وعي وقدرة طالما أننا نبحث عن حل، ولعل تلك واحدة من الظواهر الملفتة على طول العالم العربي وعرضه. ففي كل ركن منه مناقشة، وفي كل محفل فيه حوار. ومعنى ذلك أن إرادة الشفاء لدينا، وكذلك إرادة الصحة، إذا استطعنا التوصل إلى تشخيص سليم.

على أن هناك مشكلة تنتظرنا وقد وصلنا إلى هذا الحد. وتلك المشكلة هي التساؤل عن "أي نوع من الأطباء يمكن أن يتصادف وجوده قرب الحالة العربية عندما يستوفي الفحص والتحليل والإحاطة والنفاذ أغراضه وتسنح فرصة لمباشرة تجربة العلاج؟" ـ وأحسب أن مخاوفكم ومخاوفي أن تسنح الفرصة وليس هناك طبيب مؤهل ـ وليس مشعوذا أو مغامرا ـ قرب الحالة العربية، وهنا تقع المحظورات التي يلزم توقيها بأي ثمن:

* أولها محظور ضياع الفرصة والاستسلام لعملية نحر وتآكل لا يعرف أحد إلى أين تصل؟

* والثاني محظور الاندفاع إلى الفوضى الشاملة، ولفترة قد تطول، حتى تبرز في الداخل قوة تقدر على ضبط الأمور، أو تجيء من الخارج قوة تتولى هذه المهمة!

وأضيف أن هذه الفوضى الشاملة قد تسحب معها ـ وفي الغالب أنها إذا جاءت سوف تسحب ـ زلازل عنيفة على شقوق وانفلاقات جاهزة للزلازل، وهذا هو أخطر الاحتمالات على أي مستقبل عربي وسط كل الامكانيات الهائلة الزاحفة مع القرن الواحد والعشرين.

واعتقادي أن ما يليق بتأريخ وميراث الأمة وما يقتضيه مستقبلها في الوقت نفسه، يفرض أن تتصدى الهمم لكي تتخطى الظنون. والمخرج الذي يتعلق به أملي هو أن تتنبه العناصر المستنيرة في الأمة سواء في أوطانها أو مهاجرها إلى مهمة واقعة عليها ـ وليس على غيرها ـ وأن تتقدم جميعا إلى دور الفاعل، وليس دور المراقب. وإلى دور المؤثر، وليس دور المهتم.

إن الأمة، رغم الأزمة وحمولاتها الثقيلة، ورغم النفايات المسمومة المبعثرة على تخومها، ما زالت تملك طاقات وموارد معنوية ومادية ضخمة ومؤهلة للتغيير والتجديد.

هناك ملايين من الرجال والنساء المتعلمين والعارفين بإمكانيات العصر ووسائله.

وهناك مئات ألوف من المستعدين لمسؤوليات التحضير والتخطيط، والتنفيذ والإدارة.

وهناك في قلاع الإنتاج والمدن الصناعية الجديدة همم وخبرات.

وهناك في مواقع البناء والتعمير عقول وسواعد تعطي لمحات من مستقبل تستطيع الأيدي تلمسه.

وهناك كتل عريضة من جماهير واسعة، فاهمة ومدركة، وهي لم تفقد يقينها، ولم تلق سلاحها استسلاماً لغارات الخارج والداخل على ثرواتها وعلى أحلامها في الوقت نفسه.

لكن هناك في اعتقادي ضرورة للسعي إلى خلق تيار عريض متسق متوافق ونشيط تكون له الأهلية والكفاءة على استكمال عملية درس  وتحليل واستيعاب عوامل الأزمة وتطوراتها، وتكون له مكانة وفرصة التواجد بقرب اللحظة الحرجة ـ لحظة "الفيض والجلاء" ـ علّه يستطيع التأثير والتوجيه، عندما يقع شعاع كاشف على بداية طريق الحل.

ثم أقول، لكم إن الأمة في حاجة إليكم. أنتم هنا في الغربة تستطيعون أن تفعلوا الكثير جنباً إلى جنب مع هؤلاء الذين يعيشون هناك في الاغتراب.

ثم تبقى جملة واحدة، أتمنى فيها ألا أكون قد فعلت أمامكم اليوم مثلما فعل ذلك الشيخ الفقيه الذي قيل عنه قديما إنه "فسّر الماء بعد الجهد بالماء"!

شكراً سيدي الرئيس، وشكرا لكم جميعا.