الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

 خطاب مبارك في ذكري الانتصار

ألقي الرئيس مبارك خطاباً في مناسبة الذكري التاسعة والعشرين لانتصار اكتوبر في مقر الجيش الثاني الميداني ، وتضمن الخطاب حديثاً عن حرب اكتوبر وأهم نتائجها متمثلة في انطلاق مسيرة التسوية ونظراً لأن هذه التسوية تتعرض حالياً للتحديات فقد ناقش طبيعتها ورؤية القيادة المصرية لمواجهتها وحل مشكلة الشرق الأوسط والسؤال الذي يتبادر إلي الذهن هو : هل تعي مصر دورها القيادي وتتحرك بناء علي هذا الدور ؟ وهل تفكر في رؤية خاصة بها تتعلق بحل الصراع ؟ .

إجمالاً حذر الخطاب من خطورة تراجع إسرائيل عن الالتزام بمبادئ التسوية الشاملة لمشكلة الشرق الأوسط بتنصلها من الاتفاقات مع الفلسطينيين وانتهاج أسلوب القوة لفرض الحلول كما تراها الأمر الذي يهدد بالانفجار في المنطقة بدلاً من التهدئة .

وعدد مظاهر السلوك الإسرائيلي الذي ينتهك القرارات الدولية بإعادة احتلال الأراضي ومحاصرة عرفات ورفض الانصياع لنداء السلام واختيار التصعيد العسكري كسياسة لتحقيق الأمن .

 وطالب الرئيس مبارك بعدم السماح لإسرائيل بركوب الحملة الدولية ضد الإرهاب لتنفيذ مخططاتها التوسعية مؤكداً علي ضرورة أن يكون هناك خريطة لتنفيذ المبادرات العربية والأمريكية والأوروبية المطروحه للحل ، وهذا لن يتحقق سوي بتدخل أميركي يضغط علي إسرائيل من أجل قبول الحل .

موقف محايد :

ونظراً لأن الشعب الفلسطيني يتعرض حالياً لموقف شبيه بالموقف الذي تعرضت له مصر قبل حرب اكتوبر 1973 فقد قام الخطاب بتوجيه نصائح غير مباشرة للفلسطينيين أولاها قوة الإرادة والتي ظهرت جلياً في حرب اكتوبر عندما خاض الشعب المصري بنجاح باهر معركة حياة ومصير بعد أن رفض الهزيمة ورفض الرضوخ للأمر الواقع وصمد لمحاولات عديدة استهدفت تكريس اليأس وتثبيط الهمم وقاوم بعناد مخططات تواطؤ دولي واسع حاول إضعاف قدرته علي تحرير أرضه .

وقوة هذه الإرادة هي الضمانة الوحيدة للانتصار خصوصاً إذا كنا بإزاء سياسات عدوانية تعتمد القوة لتحقيق الأمن ، وأوهام التفوق العنصري ، وأوضاع دولية متواطئة فجميع ذلك أمام هذه الإرادة لن تستطيع أن تصد شعباً عن تحقيق أماله المشروعة أو تجبره علي قبول واقع يجترئ علي حقوقه المشروعه لأن إرادة الشعوب أكبر بكثير من قوي القهر والتسلط مهما تعظم .

أما الثاني : فيتمثل في تحقيق الوحدة الداخلية مثلما كان الحال وقت الحرب بين مصر وإسرائيل حيث " لم يقع الشعب المصري في مصيدة الصراعات الداخلية ووقف إلي جوار قواته المسلحة وقفة رجل واحد يشد أزرها ويدعم قدراتها ويضع مطلب تحرير الأرض فوق كل المطالب والأولويات إلي أن حطمت أسطورة القوة التي لا تقهر .

إلا أن الخطاب لم يتضمن إضافة إلي هذين الأمرين ـ أحد شروط الانتصار المكملة لهما وتتمثل في وجود رافعة عربية للشعب المعني بدرء العدوان الإسرائيلي وفي حين تلقت مصر مشاركات عربية وتسليحية وتمويلية ملموسه فإن الشعب الفلسطيني يفتقد حالياً هذه الرافعة والتي يستطيع معها أن يترجم مقاومته إلي انتصار علي غرار التجربة المصرية في حرب اكتوبر ، ولعل غياب هذه المشاركات بصور جدية وملائمة للأوضاع الراهنة يعد السبب المباشر في المفارقة الحالية التي تتمثل في التعامل الرسمي العربي والفلسطيني مع الطروحات الإسرائيلية والتلاعب الإسرائيلى فى مجال التسويات وعمليات التفاوض في الوقت الذي كبدت فيه انتفاضة الشعب الفلسطيني الكيان الصهيونى خسائر مباشرة تقدر بمئة مليار دولار ، فضلاً عن انخفاض قياسي في مستوي المعيشه وزيادة كبيرة في البطالة والتضخم وهروب 120 ألف مستوطن من المستعمرات المقامة في الأراضي المحتلة .

والمفارقة الأكبر من ذلك أنه رغم عدم قبول مصر الربط بين الإرهاب والمقاومة الفلسطينية إلا أنها كثيرا ما تعلن أنها ضد العنف المتبادل ، كما أنها تنصح فصائل المقاومة بطريقة غير مباشرة بقبول قيادة سلطة عرفات والمعروف أن نهج هذه القيادة لم يفضي إلي نتائج فيها أى نفع للشعب الفلسطينى إضافة إلي وضوح الأهداف الإسرائيلية الخاصة بتشكيل هذه السلطة والتي تتمثل في ربط نجاحها بمدي وقفها لأنشطة المقاومة والانتفاضة ونهوضها بمتطلبات الأمن الإسرائيلى ..

ويمكن القول أنه لا يوجد تفسير معقول بقبول هذه المفارقات إلا عند دراسة التغيير الطارئ في رؤية القيادة المصرية لوظيفة مصر القيادية في المنطقة فبالرغم من أن القاهرة ما زالت تؤكد علي هذا الدور القيادي إلا أنها سلكت منحي واقعياً مغايرا له فإذا كان هذا الدور يتطلب منها عدم التوسط بين الإسرائيليين والفلسطينيين ، فإن المشكلة أن القاهرة انتقلت من الوساطة إلي الحياد بل والتأكيد علي موقف الحياد في الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين مما يستدعي أن يكون النشاط الدبلوماسي بالمساهمة مع الأطراف الإقليمية والدولية والاتجاه إلي الطرفين بتقديم النصائح لكليهما من أجل تسهيل الوصول إلي حل .. وليس بالمبادرة إلأى البحث والعمل من أجل حلول تتفق مع الوظيفة القيادية لمصر .

ويجىء هذا الموقف الحيادي بناء علي التوصل إلي رؤية تؤكد علي الأثار المدمرة للحرب ورفض القيام بحرب ضد إسرائيل علي اعتبار أن إرادة السلام تنتصر دائماً كما تربط بين التنمية وتجاوز اثار الصراع وبين الاستقرار والسلام مما ادي إلي أحد التصورات التي أفضت إلي ذلك الموقف ومفاده افتقاد القدرة ـ رغم إمكانية وجودها ـ علي الدعم المادي للشعب الفلسطيني والاقتصار علي تقديم الوصفات الدبلوماسية للتعامل مع إسرائيل من ناحية واستمرار التصريحات المؤكدة علي الحياد وأحياناً الناقدة لسلوك الفلسطينيين بحجة أن قضيتهم هي قضية الفرص الضائعة من أجل استمرار التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة واستقبال المساعدات منها .

تقويم الموقف الإسرائيلي :

أما بالنسبة لـ " إسرائيل " فإن الخطاب يتجاوز التوجيهات إلي النصائح رداً علي سياسة الحكومة الإسرائيلية الحالية التي تمارس سياسة وأسلوب العقاب الجماعي غير الإنساني مع الشعب الفلسطيني وترفض الانصياع لما يسمى بنداءات السلام وأصرت علي تحقيق الأمن بالسبل العسكرية والقمعية واستغلت الحملة الدولية المتصاعدة ضد الإرهاب للمطالبة بتغيير القيادة الفلسطينية المنتخبة .

وإذا كان ذلك كذلك فإن الكيان الصهيونى يرفض مبادرات الحل التي ساهمت فيها مصر بنشاط مع الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة وأيضا المبادرة العربية التي تم اعتمادها بالإجماع في قمة بيروت وأكدت فيها الدول العربية اتخاذها للسلام كخيار استراتيجي وطرحت من خلالها رؤيتها للحل ، وقد تعززت هذه المبادرة برؤية أمريكية طرحت لأول مرة إقامة دولة فلسطينية وإن كانت ذات حدود مؤقتة ، في إطار خطة تقوم علي تنفيذ عدد من الالتزامات تهدف لتهيئة المناخ لتحويل السلطة الفلسطينية إلي حكومة فلسطينية .

ويوجه الخطاب نصيحته المتكررة للإسرائيليين بالقول " تخطئ إسرائيل مرة أخري إذا ما ظنت أن هذه السياسات ستعيد لها الأمن المنشود أو ستخضع الشعب الفلسطيني حتى يذعن لمطالبها .. الحملات إذا كانت تحقق الهدوء فإنها تزيد الكراهية ليس فقط لدي الشعب الفلسطيني بل والشعوب العربية .

ويمكن القول أن التقويم المصري  للموقف الإسرائيل الحالي ينطوي علي اتهام وتحذير حيث أنه يتجاوز اتهام الفلسطينيين بتضييع الفرص إلي اتهام تل أبيب ضمنياً بعدم التعامل الجدي مع المبادرات المطروحة عربياً وأوروبياً وأمريكياً من ناحية وتحذيرها من أن استغلالها الظروف الحالية المواكبة للحملة الأمريكية علي الإرهاب للقيام بسياساتها العدوانية لن يحقق لها الأمن بل العكس سيزيد من كراهية الشعوب العربية لها بما يقضي علي معسكر السلام .

ونظراً لأن هذا التقويم يظهر بصورة أو بأخرى عند كل مرة dقوم فيها الكيان الصهيونى بسياسته العدوانية ضد الشعب الفلسطيني منذ إبرام اتفاق أوسلو 1993 فإن ذلك لن يغير من الأمور شيئاً ليس من ناحية تحقيق الأمن للإسرائيليين وإنما من ناحية الحصول علي الحقوق العربية وإزالة الاحتلال الإسرائيلي ، وهذا لن يتحقق في حال اتفقنا بوجود تشابه بين التجربتين المصرية قبل حرب 1973 والفلسطينية الحالية سوي باستمرار المقاومة المسلحة الفلسطينية علي اعتبار أن الحوار المسلح مع تل أبيب يفضي إلي قبولها تقديم التنازلات علي مائدة التفاوض والسابقة الواضحة في ذلك هي حرب اكتوبر التي يتعتبرها الخطاب أنها " بلورت إرادة السلام وفتحت ابواب المصالحة علي أسس ومبادئ واضحة .

الرؤية للحل :

لكن الخطاب لم يتطرق لنقطة من هذا القبيل والتي تتعلق بالتحركات العربية المواجهة لهذا التحدي بل عزا استمرار إسرائيل في سياساتها وعدوانها إلي غياب المعارضة الدولية بل وغياب خريطة تفصيلية واضحة لتنفيذ المبادرة الأمريكية مما جعلها تستغل ذلك في فرض إصلاحات في السلطة دون تنفيذ التزام مقابل كالانسحاب لما يسمي حدود 28 سبتمبر ووقف بناء المستعمرات أو الدخول في مفاوضات .

وبناء علي ذلك طالب الخطاب القوي الدولية وعلي رأسها الولايات المتحدة بالتصدي الحازم لهذا العدوان السافر علي الشعب الفلسطيني وقيادته حفاظاً علي الأمن والاستقرار في المنطقة ، معتبراً أن نجاح الحملة علي الإرهاب تعتمد علي القدرة علي التوصل لحلول سياسية عادلة لكل المشكلات وعلي رأسها مشكلة الشرق الأوسط مختتماً بذكر أنه لا ينبغي السماح لإسرائيل بركوب موجة الحملة الدولية ضد الإرهاب لتنفيذ مخططاتها التوسعية في الأراضي الفلسطينية" وأنه علي ثقة من انتصار إرادة السلام التي هي في حقيقتها بمثابة انتصار أصيل لإرادة الشعب المصري.

وتتفق هذه الرؤية والقائمة علي عمل خريطة تفصيلية للتسوية علي المسار الأمريكي من جهة ، والتدخل الأمريكي الضاغط علي إسرائيل من جهة اخري مع التقويم للموقف الإسرائيلي الذي يذهب إلي عدم إمكانية الضغط عليه حالياً سوي بهذا التدخل الأمريكي وبذلك لا تنزع القاهرة إلي التدبر والتفكير في وسائل أخري من أجل تخفيف الحصار علي الشعب الفلسطيني والانطلاق بعد ذلك إلي إقتراح الوسائل المناسبة للحصول علي الحقوق العربية مثل تقديم تلك الخريطة التفصيلية إذا لم تكن قد قدمت بالفعل من خلال المبادرتين الأوروبية والعربية .

وتبرز بهذا الصدد إحدي المشكلات وتتمثل في مجاملة الحليفين الأمريكي والبريطاني اللذين يتعرضان لانتقادات حادة بسبب موقفهما المتشدد من العراق وتعاطفهما مع إسرائيل فقد كان الخطاب حريصاً علي القول أن بوش طرح في مبادرته رؤية أمريكية واضحة لإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة بحلول عام 2003 ، ثم قال الرئيس مبارك بعد إدلائه بالخطاب وفي معرض الإجابة علي أسئلة ضباط الجيش الثاني الميداني أن بيان بلير الأخير كان قوياً جداً لأنه يدعو إلي استئناف المفاوضات حول الوضع النهائي لدولة فلسطينية علي حدود 1967 مضيفاً أن الخطوة المتوقعة أن تتمثل فى أن تتحرك لندن وواشنطن لإقناع الحليف الإسرائيلي بالعودة للتفاوض واحترام الاتفاقيات الموقعة ووقف العدوان لكي يتم حل الصراع نهائياً .

وتكمن خطورة هذا النوع في المجاملات من أنه يتجاوز حقيقة أن بيان بلير يسير علي ذات النهج الأمريكي فيجيئ علي خلفية تحرك أمريكي وبريطاني لضرب العراق مما يستدعى تهدئة الصراع علي الجبهة الفلسطينية من أجل التسخين في العراق كما جاء هذا البيان عقب تقديم بريطانيا أدلة ووثائق علي امتلاك العراق أسلحة دمار شامل فيما المنطق يقول أن جهة الاختصاص هي فرق التفتيش فضلاً عن أن شهادات الخبراء شككت في قيمة ومصداقية هذا الملف .

والأمر الأخطر أن يفهم الحليفان الأمريكي والبريطاني أن ما جاء في الخطاب والمناقشات التالية له كان بمثابة موافقة مصرية علي مقايضة التبريد في فلسطين بالتسخين في العراق .

الصفحة الرئيسية