الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

 بدائل عرفات .. صياغة إسرائيلية للقيادة الفلسطينية

يواجه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات تحديات خطيرة تعترض استمراره في القيادة الفلسطينية ، ومستقبله السياسي كاحد رموز الكفاح الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي ، وتنبع خطورة بعض هذه التحديات في عملية البحث الإسرائيل والأمريكي عن بدائل عرفات واستجابة بعض الاتجاهات الفلسطينية ومحاولة طرح نفسها كخيارات ملائمة علي الأجندا الأمريكية والإسرائيلية .

وتكمن خطورة طرح بدائل لعرافات والإصرار علي إقصائه عن السلطة سواء بتحويله رمزاً فلسطينياً لا يملك ولا يحكم ، أو بتوفير مكان أمن له بعيداً عن فلسطين يقضي فيه ما تبقي من عمره بعيداً عن السياسة ودهاليزها ، في ان تلك أبيب لا تسعي في الأساس لإبعاد عرفات عن قيادة السلطة وإنما ترغب في تفجير الوضع الفلسطيني من الداخل وإشعال شرارة الحرب الأهلية الفلسطينية من خلال خلق تصارع محموم بين القيادات الفلسطينية للوصول إلي السلطة والتفاوض مع إسرائيل وفق الرؤية الإسرائيلية وهو ما يعني خلق مواجهة بين قيادات السلطة من الداخل ، وإيجاد مواجهة بين السلطة والشعب الفلسطيني .

وتأسيساً علي هذه الرؤية والهدف الإسرائيلي - الأمريكي تكون تصفية القضية الفلسطينية هي الهدف الأول لإسرائيل والذي لن يتأتي إلا بإجهاد المقاومة الفلسطينية وإسدال الستار على القيادات الفلسطينية الكبري ذات الثقل الدولي والداخلي ، وإشعال الحرب الأهلية الفلسطينية ، والبحث بين السياسيين الفلسطينيين عن نموذج انطوان لحد ليمارس دور الجيش الجنوبي في مواجهة المقاومة الفلسطينية ، ولن  تتم هذه الأهداف قبل إزاحة عرفات عن السلطة ، وانطلاقاً من هذه الرؤية الإسرائيلية العميقة وجهت إسرائيل غضبها الأكبر علي عرفات والسلطة الفلسطينية ، وانتهت بعد عامين من الانتفاضة إلي الانتهاء الكامل من تدمير بنية السلطة .

 ولم يتبق مقر السلطة إلا غرف قليلة وسط ركام هائل من الدمار في المقاطعة التي يقيم فيها عرفات في رام الله ، وهو ما يعني أن عرفات يتحرك بثقله الدولي والشعبي والتاريخي الأن في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة بدون أي غطاء من قوة والمناوره أو غطاء من التأييد العربي الذي لا تزيده مرور الأيام إلا انحساراً عن عرفات .

لهذا كانت عملية تحطيم عرفات ذات أهمية قصوي لإسرائيل بعد تحطيم بنية السلطة الفلسطينية تمهيداً لتصفية القضية الفلسطينية نهائياً ، ومن يتابع علاقة إسرائيل بعرفات منذ المفاوضات التي سبقت الانتفاضة الفلسطينية في القاهرة أو واي ريفر أو كامب ديفيد يلحظ وجود خيط إسرائيلي ممتد مدعوم من واشنطن مقابل بصمت عربي واضح يهدف غلي القضاء علي عرفات سياسياً ، ففي المفاوضات التي سبقت الانتفاضة مورست ضغوط شديدة علي عرافت للتنازل عن الثوابت الفلسطينية وهو ما يعني وضع عرفات أمام خيارين كلاهما يشكل انتحاراً سياسياً لعرافات إذ أن الرضوخ للمطالب الإسرائيلية فيه تحطيم لرمزيته وشعبيته والتصدي والوقوف في وجه إسرائيل والولايات المتحدة غير أن عرفات اختار أن يصمد امام الضغوط الأمريكية والإسرائيلية .

ومع اشتعال الانتفاضة بدأت عملية تحطيم عرفات فعلياً من خلال إجباره علي إدانة عمليات المقاومة ثم منعه من السفر والتنقل في الخارج ، والتهديد الإسرائيلي بعدم عودته ثانية في حال خروجه ، وهو ما أضعف من مركز عرفات الدولي ، وقيد حركته وقدرته التي برع فيها علي المناورة ، ومع مرور الوقت أصبح عرفات غائباً عربياً ودولياً ، ثم جاءت عملية حصاره التي امتدت عدة أشهر في رام الله وهو الأمر الذى أدى إلى رفع شعبية عرفات، وأدى بفريق من المراقبين السياسيين للقول بأن الضغوط المتواصلة على عرفات لها هدف آخر .. فهى وإن أدت إلى رفع شعبيته فى وقت ما ، فقد يكون مقصودا منها دفعه للتوقيع على ما هو مطروح أمريكيا وإسرائيليا .

البحث عن بديل :

لم تكل إسرائيل وواشنطن منذ بدء الانتفاضة في البحث عن بديل لعرفات ، فجرت عمليات فرز للقيادات الفلسطينية التي تصلح أن تحل مكان عرفات غير أن هذا التكتيك الإسرائيلي لم يؤدى حتى الآن إزاحة عرفات ، وقالت بعض التقارير الإسرائيلية أن عمليات البحث الإسرائيلي عن بدائل لإضعاف عرفات تنتهي بقوته وخروجه منتصراً منها وتأكيد لشعبيته ، لذلك اتبعت إسرائيل خطة منهجية تري أنها ستقود في النهاية إلي التخلص من عرفات وترتكز هذه الخطة استمرار الضغط الإسرائيلي علي عرفات من خلال حصاره وتهديد أغلب مقرات حكمه وإقامته ، مع إشاعة خطط إسرائيل إلي الصحافة بأن شارون اتخذا قراراً نهائياً بالتخلص من عرفات وطرده وأن عقبة الكيان الصهيونى الوحيدة هي التقارير الأمنية المحذرة من مغبة هذه الخطوة والضغوط الأمريكية ، وعلي الجانب الأخر تقوم الولايات المتحدة بنقل تحذيرات إلي العرب بأن الكيان الصهيونى قد يعمل على الخلاص من عرفات أو تطرده وان علي هؤلاء القادة العرب الاتفاق علي بديل لعرفات حتى لا يسود الاضطراب والقلق في الأراضي الفلسطينية وينتقل منه إلي باقي المنطقة ويهدد الأنظمة العربية ، ويتوازي مع هذين التحركين تحرك ثالث أمريكي إسرائيلي في البحث عن بديل فعلي لعرفات يأتي علي الدبابة الإسرائيلية ووفق الرؤية الأمريكية .

وتشير الدلائل إلى أن إسرائيل والولايات المتحدة بحثتا فعلياً عن بديل لعرفات منذ بداية العام الحالي وعولتا علي القيادات الأمنية الفلسطينية للقيام بهذه المهمة رغم إدراكها حجم التنافر والتعارض والتنافس بينها وكان أهم قيادتين هما العقيد جبريل الرجوب ـ قائد الأمن الوقائي في الضفة الغربية ـ والعقيد محمد دحلان ـ قائد الأمن الوقائي في غزة ـ واستغرقت واشنطن وتل أبيب وقتاً طويلاً في تسويق هاتين الشخصيتين داخلياً وعربيا ، عبر تسريبات إعلامية وصحفية وثناء من القيادات الأمريكية ، غير أن عملية التسويق هذه اصطدمت بالواقع الداخلي والعربي ، كما اصطدم عرفات بالرجوب أكثر من مرة أثبتت قوة عرفات.

 أضف إلي ذلك وجود حجم كبير من الامتعاض في حماس والجهاد ضد شخصية الرجوب وتسليمه لعدد من كوادر حماس والجهاد لإسرائيل للحفاظ علي مقر الأمن الوقائي في بيتونيا ، ووجود شكوك مصرية في تعاون الرجوب مع إسرائيل وتصريح الرئيس مبارك عن الرجوب بأنه جاسوس إسرائيلي ، وأدي تفاعل هذه الأمور إلي تحطيم الرجوب كبديل ، أما دحلان فكان إعجاب الأمريكيين به كفيلاً بإضعاف احتمالية صعودة كبديل لعرافت ، إضافة إلي أن الجهزة الأمنية في السلطة تخضع لأشخاص قياداتها الذين يرتبطون رأساً بعرفات ، ويصعب التعاون فيما بينهم ، وبالتالي فإن رفض الرجوب كبديل إنما هو من داخل بنية السلطة قبل الشعب الفلسطيني .

وأدركت واشنطن وإسرائيل صعوبة وضع بديل لعرفات بصورة مباشرة فاتجهت إلي الأسلوب التدريجي فأصرت واشنطن علي لسان رئيسها بوش علي ضرورة قيام السلطة الفلسطينية بإصلاحات هامة ديموقراطياً ومالياً تقود إلي تغيير القيادات الفلسطينية التي امتلات بالفساد ، وأصرت واشنطن علي الإصلاح الديموقراطي والمالي وكان المقصود به اضعاف مركز عرفات داخل السلطة من خلال تفتيت صلاحياته وتقليص سلطاته المالية ، فتم تشكيل وزارة فلسطينية لتدير الشأن الفلسطيني وعين عرفات فيها وزيراً للداخلية وأخر للمالية كما أن عرفات استطاع الالتفاف علي هذا الاتجاه الأمريكي والإسرائيلي مؤكداً تمسكه بموقعه ورئاسته للسلطة الفلسطينية ورافق ذلك في تدعيم المنظمات الفلسطينية له وخاصة حماس رغم عدم موافقتها علي خطه السياسي وإصراراها علي اعتبار عرفات والرئاسة ذات رمزية معنوية ، والقلق الذي ابدته بعض الأطراف العربية خاصة مصر عندما أحست باتجاه إسرائيل لاقتلاع عرفات فأرسلت مدير مخابراتها عمر سليمان ليثنى إسرائيل عن تنفيذ هذا السيناريو ورفض القاهرة اقناع عرفات باعتزال العمل السياسي وترشيح الدول العربية لشخصيه بديلة لعرفات .

ورغم أن الرفض المصري لإحلال بديل مكان عرفات تأكل نسبياً أمام الإصرار الأمريكي علي ضرورة اعتزال عرفات العمل السياسي وهو ما تجلي في محاولات الرئيس مبارك أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن الحصول لعرفات علي سنة في رئاسة فلسطين تكون تتويجاً لحياته النضالية ، إلا أن القاهرة ما زالت فى قلق من الرهان الأمريكي علي بعض الشخصيات الفلسطينية ذات الميول الأمريكية لتكون بديلاً لعرفات وتصف هذه الشخصيات بأنها ضعيفة ولا تتمتع بشعبية .

ازمة عرفات الحالية :

تدرك إسرائيل والولايات المتحدة أن عرفات يواجه مأزقاً شعبياً وفلسطينياً لإخفاقه في إقناع الشارع الفلسطيني بقدرته علي التفاوض أو قدرته علي القتال وتدرك أنه يواجه مأزقاً أخر داخل السلطة الفلسطينية وحركة فتح لتزايد حدة الانتقادات الموجهة إليه وانقلاب بعض الموالين له لمواجهته وتصعيد مواجهتهم السياسية معه ، وهو ما استغلته إسرائيل لتوسيع هذه الثوب لتصبح خروقاً يصعب ترقيعها أو ترميمها .

وتحركت إسرائيل سياسياً وإعلامياً لتقوية الاتجاه الفلسطيني المتوزع بين السلطة والمجلس التشريعي بصفة رئيسية والقابل للاستجابة للضغوط الإسرائيلية والأمريكية ، والذي يسعي في بعض الأحيان لتأييد السلام مع إسرائيل وفق الرؤية الإسرائيلية التي تري إقامة تدريجية للدولة الفلسطينية دون التمسك بحدود 1967 ، أو القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن الدولي خاصة القرارين 242 ، 338 ، ويهدف هذا الاتجاه إلي إيجاد كيان مؤسسي فلسطيني مع إعطاءه شرعية أمريكية إسرائيلية للتفاوض مع إسرائيل حول السلام .

هذا الاتجاه الفلسطيني الذي تسعي واشنطن وتل أبيب لتأهيله بديلاً لعرفات يطرح ما تطرحه إسرائيل مع اختلاف ظاهري فقط ، فالإدارة الأمريكية تطرح مثلاً ضرورة تعيين رئيس وزراء يتمتع بصلاحيات فعلية بدلاً من عرفات ، ويطرح هذا الاتجاه الفلسطيني ضرورة تعيين رئيس وزراء يساعد عرفات علي أداء مهامة !!

وتطرح واشنطن ضرورة ضرب البنية التحتية للمنظمات الإرهابية الفلسطينية وتتهم عرفات بالتواطؤ معها ، ويري هذا الاتجاه الفلسطيني أن عرفات أخفق في الالتزام بمنهج سياسي محدد ضد المنظمات المتشددة وبالتالي يجب بناء جهاز امني جديد يفكك هذه المنظمات حماية للسلطة الفلسطينية ، وهذا ما يشير إلي استغلال بعض الشخصيات الفلسطينية موضوع الإصلاح كعنوان للتغيير وليس بهدف الإصلاح الداخلي أو مقاومة الاحتلال أو الديموقراطية أو التعددية ، وإنما للبحث عن اتجاه توفيقي يرضي واشنطن وتل أبيب ويطيح بعرفات .

وأحس الشارع الفلسطيني بتحركات هذا الاتجاه الفلسطيني عندما لاحظ رفض المجلس التشريعي الفلسطيني منح الثقة لحكومة عرفات الجديدة ، وطالعه من خلال بعض الصحف الإسرائيلية ومنها صحيفة هارتيس الإسرائيلية التي ذكرت أن خطة لتفكيك المنظمات الفلسطينية تقدم بها فعلاً أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ومن معه إلي الأمريكيين طالباً مهلة ثلاثة أشهر كاختبار للقدرة علي إنجاحها ، ويلاحظ هنا مقدار التشابة بين مضمون الموقف الأمريكي والاتجاه الفلسطيني الداخلي ، وما نشرته صحيفة معاريف الإسرائيلية عن اتصالات سرية بين أبو مازن ورئيس الموساد الإسرائيلي " اقرايم هليفي " تمت في قطر  وزادت معاريف أن هيلفي يجري هذه الاتصالات بتكليف من شارون .

وفي زيارة شارون لموسكو صرح مسؤول إسرائيلي كبير أن إسرائيل تفضل تنحي عرفات ولكن إذا أراد الفلسطينيون بقاءه فلابد من وجود رئيس وزراء ليكون وسيط بين الرمز والحكومة وركز الإسرائيليون في موسكو علي ضرورة تقليص اختصاصات عرفات المالية والأمنية ، وأن تكون اجهزة الأمن مرتبطة برئيس الوزراء وطالبوا بتعيين وزير مالية لا يخضع لنفوذ عرفات تزامنت مع زيارة شارون لموسكو مع زيارة ابو مازن ايضاً .

مستقبل عرفات وبدائله :

تؤكد التقارير الإسرائيلية أن إسرائيل هي المسؤولة عن تضخيم شخصية عرفات بين الفلسطينيين سواء بحصاره أو التهديد بقتله وطرده والاتيان ببدائل له توافق عليها إسرائيل ، وهو ما أفاد عرفات فى رفع شعبيته وتأكيد زعامته ورمزيته للفلسطينيين فأعلن تصديه للحصار الإسرائيلي ورفضه تسليم قائمة بأسماء المطلوبين لإسرائيل .

ويبدو أن الشارع الفلسطيني أدرك ما تريده إسرائيل فخرج متظاهراً ومتضامناً معه رغم تحفظاته علي نهجه السياسي وذلك لتحجيم الاتجاه الفلسطيني المستجيب للضغوط الإسرائيلية والأمريكية والطامح في أن يكون بديلاً لعرفات ، وأعلنت اللجنة المركزية لحركة فتح أنها حسمت مسألة استحداث منصب رئيس الوزراء الفلسطيني  وأنها صوتت ضد مثل هذا الأمر واعتبرت فتح أن هذا المنصب يهدف إلي تحديد صلاحيات عرفات وعزله وفقاً للرؤية الأمريكية والإسرائيلية ، كذلك شاركت حماس والجهاد في مظاهرات تأييد لعرفات معلنين أن مبدأ الوحدة الوطنية فوق كل اعتبار وخرج الشيخ احمد ياسين مؤسس حماس في مظاهرة تأييد لعرفات في غزة قائلاً " صبراً يا ياسر الحقوق لا تضييع " .

هذه التحركات الفلسطينية النشطة ضد بدائل عرفات دفعت هؤلاء البدائل للتراجع السريع عن خطتهم السياسية وكرروا في احاديث صحفية وفي الفضائيات شرعية عرفات وأنهم ما كانوا يقصدون أن يكونوا بدلاء له ، ومن يتابع تصريحات أبومازن " محمود عباس " سيدرك حجم الانقلابية في التغيير في موقفه السياسي كبديل لعرفات .

وبالتالي فإن استمرار عرفات في قيادة السلطة الفلسطينية ما زال أمراً قائماً ومطروحا لفترة قادمة لضعف البدلاء والمكانة الخاصة التي تمتع بها عرفات بعد الحصار الأخير وعدم اتفاق الدول العربية علي بديل يستطيع أن يسد فراغ عرفات إضافة إلى أنه مازال فى نظر نظم عربية صاحب القرارات الصعبة.

 

الصفحة الرئيسية