الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     
الانتفاضة الفلسطينية بين دعوات المراجعة والتراجع

تدخل الانتفاضة الفلسطينية عامها الثالث وسط زخم كبير من الاهتمام في الوسط الثقافي والفكري والإعلامي العربي ، طرحت خلاله دعوات مختلفة ورؤي متعددة حول ضرورة إجراء مراجعة حقيقية لحصاد الانتفاضة في عاميها السابقين ، والخروج باستراتيجية فلسطينية موحدة لمواجهة إسرائيل ، وإن كان جانب من هذه الرؤى والقراءات قد طالب بوقف العمل العسكري الفلسطيني والاتجاه إلي أساليب أخري من المقاومة المدنية ، وإعادة بناء ما هدمته الألة العسكرية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية ، وإجادة مخاطبة الرأي العام العالمي .

ورغم أننا لا نشكك في صدقية هذه الأقلام وأهداف تحليلها وخلوصها إلى ضرورة المراجعة الصادقة للانتفاضة وهي علي اعتاب عامها الثالث ، إلا أننا ندرك أن الحقيقة ينظر إليها من أكثر من زاوية ، وأن التفسيرات المتعددة للظاهرة والحدث لا تعني المسارعة فى الاتهام وإنما يقصد بها في الاساس الاجتهاد في القراءة والتعمق في التحليل ، إضافة إلي أن الشأن الفلسطيني يحتل مساحة كبيرة وهامة في عقل وفكر كل عربي ومسلم ، وبالتالي فلا مجال للمزايدة وتسفيه الأراء ما دامت تصب جميعها في البحث عن مخرج للازمة الحالية التي تشهدها القضية الفلسطينية .

المراجعة والتراجع :

احتلت مسألة مراجعة الانتفاضة الفلسطينية لذاتها وأحداثها حيزاً كبيراً في الخطاب الفكري والثقافي العربي في بدء دخولها عامها الثالث ، وطرحت أفكاراً متعددة منها ضرورة المراجعة قبل التراجع " وضرورة الخروج من الشرنقه " ، وضرورة بناء سياسة فلسطينية جديدة " و مبادرة فلسطينية بأفق جديد " بل إن بعض المراجعات تطرق إلى اعتبار أن الانتفاضة تحولت إلى عمل عسكرى متبادل بين الكسان الصهيونى والمقاومة الفلسطينية فى ظل فقدان لتوازن القوى بين الجانبين ، ومن ثم فالانتفاضة هى التى تتحمل العبء الأكبر فى الخسائر ، وتمادى البعض فعرض فكرة إعلان الهدنة من جانب واحد هو الجانب الفلسطينى .. وإرجاء العمليات العسكرية إلى مرحلة تالية حفاظا على الإمكانيات لدى المقاومة خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وأجوائها المعروفة .

وطرحت مستهدفات عديدة طالب البعض بالسعى لتحقيقها منها :

-       ما طرحه زياد أبو عمر رئيس الدائرة السياسية فى المجلس التشريعى الفلسطينى خاصا بضرورة إخضاع المنظمات الفلسطينية جميعها للمحاسبة مثل السلطة الفلسطينية .

-       ضرورة التفاهم بين جميع الفصائل لتفويض السلطة الدخول فى مفاوضات مع إسرائيل للوصول إلى اتفاق مرحلى جديد ، وقبول بدء التفاوض بشكل فورى وقبل انسحاب القوات اليهودية المحتلة من مدن وقرى الضفة وغزة .

-       ضرورة أن يلعب عرب 1948 دورا جديدا فى التحرك السياسى داخل الأحزاب الإسرائيلية المنتمين إليها كخطوة لاختراق الستار الحديدى الذى تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين فى أراضى 1967 .

-       ضرورة أن تركز المقاومة على عمليات إعادة بناء ما هدمته إسرائيل والسعى لإيجاد نموذج ديمقراطى فلسطينى يقطع الطريق على المزايدة الإسرائيلية .

مراجعة المراجعة :

بداية لابد من التذكير أن الفلسطينيين والعرب امام مشروع صهيوني يسعي لإقامة دولة يهودية نقيه علي أرض فلسطين ، وهذا المشروع الصهيوني يصطدم بالواقع الفلسطيني اصطداماً شديداً ، ومن يقرأت بعناية الأحداث التي سبقت الانتفاضة ، والمناقشات الإسرائيلية عند بداية الانتفاضة سيلحظ عدة أمور منها أن الإسرائيليين وعلي رأسهم حزب العمل والليكود هم الذين اشعلوا الانتفاضة ، وأوجدوا ذريعة قوية بزيارة شارون للأقصي بصحبة ثلاثة ألاف جندي إسرائيلي في تحد سافر للفلسطينيين لا يمكن السكوت عليه ، وفي حال صمت الفلسطينيين فإن إسرائيل لم تكن لتعييها الحيل الاستفزازية لإثارة الفلسطينيين حتى ينتفضوا وبالتالي تتخلص من اتفاقات أوسلو ، إضافة إلي أن ما عرضته إسرائيل علي الفلسطينيين وما حدث في كامب ديفيد الثانية يؤكد أن إسرائيل لم تكن ترغب في المضي في طريق أوسلو ثانية  لأن إقامة الدولة الفلسطينية إلي جوار الدولة اليهودية يحجم هذاالمشروع الصهيوني الذي لم ينجح حتى الأن وبعد مرور أكثر من مائة علي تحقيق حلمه في إسرائيل الكبري .

لذلك لم يكن غريباً أن يناقش أكثر من مائة من كبار السياسيين والعسكريين والأكاديميين الإسرائيليين عند بدء الانتفاضة مقترحات بترحيل الفلسطينيين من أراضيهم وإجبارهم علي مغادرة الوطن والعيش في الشتات ، وترافق ذلك مع احاديث إسرائيلية عن تهجير اليهود من أنحاء العالم إلي إسرائيل في ظل انتعاش اقتصادي أغري الكثيرين بالهجرة إلي إسرائيل ,

وبالتالي فإن مواجهة الفلسطينيين لهذا المشروع الصهيوني ، والخطط الصهيونية لتهجيرهم  كانت حتمية ، والقراءة المنصفة لما يجري علي أرض فلسطين تشير الى أن المشروع الصهيوني هو الذي أصابه التراجع وليست الانتفاضة ، فالتقارير الإسرائيلية تشير إلي التراجع الحاد في معدلات الهجرة اليهودية إلي إسرائيل ، وظهور الهجرة العكسية لليهود من إسرائيل إلي الخارج ، إضافة إلي أن بدء إسرائيل في بناء الجدار الواقي أصاب المشروع الصهيوني بضمور حقيقي كشفت عنه حجم الانتقادات والاعتراضات الإسرائيلية علي بنائه ، حقيقة أن حجم الدمار والشهداء والتخريب في الأراضي الفلسطينية كان كبيراً ومخيفاً في ذات الوقت إلا أن الانصاف في القراءة يفرض النظر الي حجم النجاح الذي حققته الانتفاضة في زعزعة الأمن الإسرائيلي ، وإصابة الاقتصاد الإسرائيلي بأزمة خانقة امتدت إلي السياسة والمجتمع وانعكست علي الحكومة والمزاج الإسرائيلي العام الذي أصيب بنوع من التناقض بين الرغبة في تحقيق الأمن والهدوء وبين الرغبة في انزال أكبر قدر من الضربات بالفلسطينيين ، وهذا ما تسبب في التذبذب في استطلاعات الراي الإسرائيلية حول تأييد سياسات شارون .

ولهذا فإن من الخطأ تصور أن العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين كانت ردود أفعال علي ما تقوم به المقاومةالفلسطينية من أعمال فدائية ضد إسرائيل ، فقرار إعادة الاحتلال الإسرائيلي للضفة وتعليق السلطة الفلسطينية هو في الأساس قرار استراتيجي إسرائيلي كما أنه قرار أمنى تأخذه الحكومة الإسرائيلية نتيجة لعملية ما .

 صحيح أن العملية قد توفر الذريعة لإسرائيل للعدوان ، إلا أن الحقائق تؤكد أن إسرائيل كانت عازمة علي التخلص من سلطة أوسلو ، إضافة إلي حدوث تحول مجتمعي في إسرائيل ينسجم مع هذه الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية ، فالإسرائيليون اختاروا شارون، والذي صعد إلي الوزارة ببرنامج انتخابي كان الأمن وسحق الانتفاضة الفلسطينية أبرز بنوده .

ومن هنا فإن الحديث عن تراجع الانتفاضة يجب ألا يقابل بالتسليم، إذ أن الفلسطينيين واجهوا أهدافاً كبري لا تستهدف فقط وقف مقاومتهم أو منعهم من إقامة دولتهم ، وإنما تستهدف وجودهم علي ارضهم لذلك فإن التمسك بالبقاء كان هوالسبيل لمواجهة هذه الهجمة الإسرائيلية الشرسة والتمسك والإصرار علي الأهداف الواضحة القريبة كان العامل الأول في شحن المجتمع الفلسطيني خلف المقاومة وبالتالي يصبح الحديث عن تراجع الانتفاضة حديثاً في غير موضعه ، ويكون الفلسطينيون هم الذين حققوا نجاحاً ملموساً بأهداف الوضع قبل 28/9/2000 أو 29/3/2002 .

وتصدوا للأهداف الإسرائيلية الكبري الهادفة لتهويد الأرض وطرد سكانها وتهجير اليهود إلي فلسطين ويلاحظ أن إسرائيل لم تعد راغبة في القيادة الفلسطينية التي تتمسك ببعض الأهداف الوطنية وتصر عليها وترفض التنازل عنها فهي تريد قيادة فسلطينية المظهر إسرائيلية تتقابل عن كل شئ . لذلك فإن ما تفعله إسرائيل من تدمير للسلطة وحصار لعرفات يصبح أمراً طبيعياً ومنسجماً مع الأهداف الإسرائيلية . وتصبح المقاومة بريئة مما لحق بالسلطة من دمار وحصار أما الدعوة لإعلان الهدنة الفلسطينية من جانب واحد فتبدو دعوة غريبة إذ أنها نظرت إلي المقاومة علي أنها جيش لابد من أن يوقف إطلاق النار ، إضافة إلي أن إسرائيل هي التي توغلت فى مدن وقرى الضفة وغزة وعادت لاحتلال وتدمير أراضي الضفة وأجزاء من غزة .

 ويبدو أن طرح وقف إطلاق النار من جانب الفلسطينيين قد تأثر دعاته بالخطاب الإعلامي الإسرائيلى والأمريكي فالتقارير تشير إلي أن إسرائيل تسقط العشرات من القتلي وعلي رأسهم الشيخ صلاح شحاده قائد كتائب عز الدين القسام ، ورائد الكرمي قائد كتائب شهداء الأقصي وغيرهم ، إضافة إلي عملية تدمير خان يونس الأخيرة وقد جاءت في ظل سكون فلسطيني وبدون أي مبرر أوذريعه ، لذا فإن استمرار الانتفاضة المسلحة يشكل ضغطاً عسكرياً واقتصادياً علي إسرائيل ، وباعتبارها كيان صغير وذات اقتصاد يعتمد في الأساس علي الخدمات والسياحة والمعونات ومن ثم لابد أن تقود عمليات المقاومة إلي إنهاكة وإضعافة .

أما الحديث عن عسكرة الانتفاضة ودخولها الشرنقه وخضوعها لمبدأ الثأر والانتقام وليس للمنطق السياسي فإن هذا الحديث مردود علي أصحابه لأن حجم الجراحات التي تتركها إسرائيل بين الفلسطينيين تفوق مايتحمله أي شعب ومن يعاين الواقع الفلسطيني يعتصر قلبه الألم والحزن علي ما يجري ، كما أن الخطوات الأولي في أى انتفاضة شعبية كبري تهدف للتحرير والاستقلال تبدأ من الثأر والانتقام ومن يقرأ الثورة الجزائرية سيجد أن عنف الفرنسيين كان المتسبب الأول في اندلاع الثورة .

أما الحديث عن الرأي العام الدولي واختراق الأحزاب الإسرائيلية واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة فإنه يصبح حديثاً أكاديمياً كتبه أصحابه في مكاتبهم واعتمدوا علي مقدمات نظرية ليخرجوا منها بنتائج معينة بعيداً عن الواقع فالولايات المتحدة لا تقيم أي شأن للفلسطينيين ماداموا لا يخدمون مصالحها ، والمصالح الأمريكية الاستراتيجية مرتبطة بإسرائيل ، إضافة إلي أن السياسة الخارجية لا يصنعها الرأي العام كما يروج الكثيرون .

 

 

الصفحة الرئيسية