الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

 

الموقف الروسي والفرنسي من المسألة العراقية .. نغمات متقاربة في مقطوعة أمريكية

ماتزال طبول الحرب الأمريكية ضد العراق تدق بقوة وإصرار في محاولة لإقناع الجميع بضرورة وحتمية هذه الحرب ، ومع الإصرار الأمريكي بضرورة اتخاذ موقف دولي حاسم ضد العراق بدأ الموقف الدولي الرافض للحرب يهتز ويتجه نحو الاقتراب من الموقف الأمريكي خاصة مع مواصلة أمريكا لضغوطها وتلويحها بسلاح المصالح المتبادلة وظهر ذلك جلياً في الموقفين الروسي والفرنسي اللذين تعرضا لاهتزاز شديد ، أبدت فيه الأولي تنصلاً واضحاً من مساندة العراق ، مع مطالبة بغداد بضرورة استئناف عمليات التفتيش الدولي علي أسلحة الدمار الشامل العراقية ، أما فرنسا التي ابتعدت عن العراق كثيراً فقد أرادت أن تكون خطوتها السريعه نحو واشنطن بثمن عراقي فأعلن وزير الخارجية دوفيلبان لنظيره العراقي  أنه لا توجد إلا رسالة واحده هى"لا وقت للمراوغه والمناقشه " .

ومع نجاح واشنطن في إقناع روسيا وفرنسا بتغيير موقفهما وصمت الصين واتجاه أغلب الدول الأعضاء غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي للتصويت علي قرار جديد يمنح واشنطن استخدام القوة ضد العراق تلقائياً في حال رفض العراق للتفتيش يمكن القول أن الحرب الثالثه في الخيج تقترب من الاشتعال لذلك كان من الضروري قراءة التغيير في الموقفين الروسي والفرنسي وعلاقة ذلك بالضغوط الأمريكية التي تمارسها علي مجلس الأمن ومنظمة الأمم المتحدة للحصول علي تفويض باستخدام القوة بعدما فشلت واشنطن في جر العالم خلفها بعيداً عن المنظمة الدولية لمواجهة العراق .

إن الحرب الأمريكية علي العراق لم تتوقف منذ اشتعالها في بداية التسعينات فلم تتوقف الطائرات الأمريكية والبريطانية في قصفها الأهداف العراقية وفرض حصار اقتصادي صارم علي بغداد وفرض حماية علي بعض الأقليات في العراق وحظر تخليق الطيران العراقي فوقها ، كذلك لم تتوقف السياسات الأمريكية ضد بغداد علي مدي اثنتي عشرة عاماً من الأحتواء والاحتواء المزدوج والعقوبات الذكيه والنفط مقابل الغذاء ، غير أن واشنطن في هذه المرحلة صعدت من العداء للنظام العراقي مستغلة أحداث سبتمبر لزرع أنظمة جديدة تدين بالولاء التام لها مثلما فعلت في أفغانستان .

وقد شهدت السياسة الأمريكية السابقة ضد العراق موجات من الرفض الدولي جسدتها موسكو في إعلانها حق الفيتو في مجلس الأمن ضد فرض العقوبات الذكيه علي العراق ، وظهرت في الأفق بوادر جديدة للتقارب بين موسكو وبغداد ، عززها لوبي بغداد في روسيا والذي يجمع بعض شركات إنتاج النفط الروسية العاملة في العراق أو التي تسعي في الحصول علي عقود وامتيازات فضلا عن ارتفاع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلي نحو 2.5 مليار دولار عام 2001 صادرات روسيه ، كذلك راهنت موسكو أن يؤدي تقاربها مع العراق إلي إفشال الحصار علي العراق مما يتيح لبغداد تسديد عشرة مليارات من الديون المستحقه لموسكو .

ودفعت هذه الخطوات المتقاربة بين موسكو وبغداد نحو تحقيق المصالح الاستراتيجيه والاقتصاديه إلي توقيع بغداد عقود مبدئيه مع روسيا بقيمه 40 مليار دولار في مجال إعادة الإعمار ، والتنقيب وهي عقود كان يتوقف تنفيذها علي إنهاء العقوبات المفروضه علي العراق ، واشار بعض الخبراء أن شركات النفط العراقية كانت تتوقع تحقيق أرباح تبلغ قيمتها نحو عشرين مليار دولار من تنفيذ عقود استثمار النفط والغاز في منطقة غرب القرنة العراقية وحدها .

تراجع روسى مستمر

وهذا ما يدفع إلي التساؤل عن أسباب التضحيه الروسيه بمصالحها الاقتصاديه الضخمه في العراق إضافة إلي مصالحها الاستراتيجية من أهم منطقه في الخليج لها فيها نفوذ لصالح الولايات المتحدة ؟والإجابة علي هذا التساؤل الهام تفتح ملف التراجع الروسي من أغلب مناطق نفوذها في العالم تاركة المجال للنفوذ الأمريكي بعد انتهاء الحرب البارده ، فروسيا تدرك أنها عاجزة عن التعامل مع واشنطن من موقع النديه التي كانت طاغية علي علاقة البلدين إبان وجود الاتحاد السوفيتي ، وتدرك أيضاً أنها ستقف عاجزة عن أية مواجهة سياسية مع السياسة الأمريكية التي تسعي لفرض هيمنتها علي العالم ودفع روسيا للملمة ما تبقي لها من نفوذ ومصالح خارج أراضيها ، والبقاء خلف حدودها الملتهبة تنتظر المساعدات والمعونات الغربية ، وأدي هذا الإدراك الروسي إلي محاولة موسكو إلي أن تعمل علي كسب بغداد دون أن تخسر واشنطن وتعاملت في بعض مراحل الأزمة بمنطق الرفض المتزن ، أي رفض الموقف العراقي في عدم سماحة بالتفتيش الدولي علي أسلحته ، وفي المقابل رفض منطق الحرب الذي تسعي الولايات المتحدة لفرضه علي الجميع .

غير أن هذا الرفض المتزن اتجه بقوه نحو الاقتراب من الموقف الأمريكي بل وكانت مواقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تبدو وكأنها تدفع واشنطن من الخلف إلي تبني خيارات متشددة ضد العراق ، وحصر العراق في خيارات مغلقه إما السماح بالتفتيش دون قيد أو شرط أو استخدام القوة تحت ستار من الشرعيه الدولية .

فقبل وصول الأزمة العراقية إلي النقطة الحرجة الحالية رفض الرئيس بوتين استقبال طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقي طالما أنه لم يأت إلي موسكو بموافقة بغداد علي عودة المفتشين الدوليين ثم توالت التصريحات من جانب المسؤولين الروس من بينهم وزير الخارجية إيفانوف التي تطالب بغداد بالانصياع للمطلب الأمريكي بعودة المفتشين ، وأخذت الأصوات الروسية المناهضه لضرب العراق تختفي مع زخم الداعين للاقتراب من واشنطن حتى ولو علي حساب العراق ، بل إن تصريحات " بوتين " لجريدة وول ستريت جورنال " في فبراير الماضي التي قال فيها " إن استعمال القوة ضد العراق يجب أن يكون مبرراً كما كانت الحال بالنسبة لطالبان وينبغي تقديم براهين يقر بها الجميع " كافية لالتقاط واشنطن هذا الخيط وتوسيع هذا الثقب في الموقف الروسي ليتسع الخرق ونصبح أمام موقف روسي جديد يتحدث بلغة جديدة .

وقد عمق من التغيير في الموقف الروسي تجاه العراق ضعف قيادة الكرملين في مواجهة التحديات التي فرضتها واشنطن علي موسكو بعد 11 سبتمبر واستطاعت الولايات المتحدة أن تفقز بعدها قفزة كبيرة وتقيم قواعد عسكريه لها في بعض جمهوريات آسيا الوسطي وتقترب من المناطق المحرمة روسياً ، وتقيم واشنطن قواعد لها فيها ، والعراق ـ أقل نسبياً من الناحية الاستراتيجيه ـ لروسيا من هذه المناطق ، ومع ذلك صمتت روسيا طمعاً في الوعود الأمريكية بالمساعدات التي لم تقدم حتى الأن لذا فلا داعي من الانزعاج علي العراق ، مادام أن ذلك يحفظ الدفء في العلاقات الروسيه ـ الأمريكية .

توجه نحو واشنطن

وتاسيساً علي ذلك بدأ الاتجاه اروسي نحو البيت الأبيض الأمريكي ، فالتقي وزير الدفاع " سيرغي إيفانوف " ووزير الخارجية " إيجور إيفانوف " بالرئيس الأمريكي بوش ووزير الخارجية والدفاع الأمريكيين وكان العراق هو الملف الساخن في اللقاء ، بعد مكاشفة بين الجانبين عن حدود ما تريده واشنطن من موسكو والمقابل الذي ستحصل عليه روسيا مقابل السكوت أو التأييد لأن ميزان المصالح هو الذي يحكم العلاقة بين الدول الكبري .

وأفصحت لقاءات وزير الخارجية والدفاع الروسي عن تطور خطير في الموقف الروسي ، إذ ربط وزير الدفاع الروسي موقف بلاده بالمعطيات التي ستقدمها لها الإدارة الأمريكية .والتقت وجهتا النظر الأمريكية والروسية علي ضرورة عودة عمل المفتشين الدوليين في العراق وقال إيجور إيفانوف وزير الخارجية الروسي في تصريحات له في واشنطن عقب لقاء بوش " إن موسكو وواشنطن متفقتان علي ضرورة تطبيق العراق حرفياً لقرارات مجلس الأمن " وبدأت تتوالي التصريحات الروسيه فأعلنت موسكو أن موقفها من الخطط الأمريكية ضد العراق سيعتمد علي أدلة مقنعة تقدمها الولايات المتحدة وأعلنت الخارجية الروسيه أن المرجعيه الوحيدة بالنسبه للمسألة العراقيه يجب أن تكون التقرير الشامل الذي سيقدمه المراقبون الدوليون بعد انتهاء عمليات التفتيش .

وكانت الولايات المتحدة أصرت علي استصدار قرار من مجلس الأمن بعودة المفتشين الدوليين للعراق وتحديد عودتهم بمدة محدده ، ونجحت في ذلك ، حيث وافق جميع أعضاء مجلس الأمن علي جدول زمني لأعمال لجنة الرصد والتحقيق والتفتيش في العراق " انموفيك " قدمها رئيس اللجنة هانز بليكس " تتضمن بدء اعمال أنموفيك داخل العراق في منتصف أكتوبر القادم .

وعكست موافقة مجلس الأمن ، تمايزا بين الموقف الروسي والأمريكي حيث يصر المسؤولون الأمريكيون علي عدم الاستعداد للسماح للمفتشين الدوليين باستئناف أعمالهم في العراق ما لم يصدر قرار جديد ، فتشير مصادر غربية أن واشنطن تري في القرار الجديد أنه سيشدد علي ان عودة المفتشين ليست هي الأهم وبالتالي تقويم ما تقوم به " أنموفيك " لن يكون مستنداً فقط علي بليكس وحده ولكن يتعداه ، ومعني هذا أن قرار مجلس الأمن سيشمل طريقين للتقويم احدهما تقوم به أنموفيك والأخر تقويم ما تقوم به أنموفيك ، وهو يعطي صلاحيات أكبر لواشنطن ضد العراق.

إلا أن الروس أبدوا تفهماً لحاجة الولايات المتحدة إلي استصدار مثل هذا القرار من مجلس الأمن ويدركون ـ أيضاً ـ أن أعضاء المجلس لن يعارضوا الموافقه عليه غير أن موسكو ربما  تختلف مع واشنطن علي المضمون الذي سيصدر به هذا القرار ، فالروس قلقون من أن يتضمن القرار لغة تحذر وتتوعد بإجراء ضد العراق مما يقرب المنطقه من شبح الحرب ، أما الأمر الأخر فتوجد مخاوف روسيه من ألا ينحصر القرار في مسائل نزع السلاح فقط ويتطرق إلي عناصر إضافيه وشروط أخري تدعو العراق إلي رفضه  وتؤدي إلى تطورات ربما حالت دون موسكو وضمان مصالحها أو قبض ثمن موقفها.

غير أن هذه التحولاات التي تتوالي علي الموقف الروسي تجاه العراق تؤكد فشل الرهانات العراقية علي الموقف الروسي التي اعتمدت علي المصالح الجغرافيه والسياسيه لروسيا والعراق ، وقللت مصادر غربية من شأن هذه المراهنة العراقية علي اعتبار أن التطور الحاصل في العلاقات الثنائيه بين واشنطن وموسكو ، ومواقف بوتين التي تتحاشي الاعتراض علي الرغبات الأمريكية ، واحتمالات بدء تقاسم المصالح العراقيه بين الدول الخمس دائمة العضويه في مجلس الأمن .

ويبدو أن ذلك كان دافعاً لموسكو أن تعلن أنها ستتوقع اتفاقاً اقتصادياً تقدر قيمته باربعين مليار دولار مع العراق، في حالة عودة المفتشين الدوليين إلي بغداد فقط ، وحسبما صرح أحد كبار المسؤولين الروس فإنه علي الرغم من معارضة روسيا لمطلب أمريكا إصدار قرار جديد من مجلس الأمن فإنها ستناقش هذا القرار ، وقال أحد المسؤولين: " نحن نفهم أن أمريكا ستحصل علي كل شئ علي أي حال " والواضح أن هذه الكلمه توضح حالة العجز الروسي الذي تغلغل إلي إدراك قيادة الكرملين وجعلها تتراجع في أغلب المواقف الدولية أمام واشنطن حتى ولو جاء ذلك علي حساب مصالح اقتصاديه واستراتيجيه حيويه لها ، وهو ما يؤسس لنمط جديد في العلاقة بين موسكو وواشنطن .

منهج فرنسى

أما فرنسا التي وصفها بعض المسؤولين العراقيين " باللعوب " إبان مناقشة مشروع العقوبات الذكيه التي كانت الولايات المتحدة تسعي لتطبيقه علي بغداد ، فإنها في هذه المرة سعت إلي الاقتراب من واشنطن بتقديم مواقف تصب في خانة الولايات المتحدة ضد العراق ، فاعتبر الناطق باسم الخارجية الفرنسيه السيد ريفاسو أن طلب بوش التفويض من الكونجرس لاستخدام القوة ضد العراق شأن سياسي داخلي أمريكي ، ويندرج هذا الموقف الفرنسي في سياق المنهج الحالي الذي يحكم السياسة الفرنسية تجاه الأزمة العراقية منذ بدايتها ، ويقضي بتجنب أي نقد أو تباين مع الولايات المتحدة والتركيز علي النقاط الإيجابية سعياً لتطويرها لهذا قررت فرنسا ضرورة تولي مجلس الأمن القضية العراقية لضمان إبقاء العراق بالتزاماته ، وأعلنت باريس أن هدفها في هذه المرحلة هو ضمان فاعلية التفتيش وصدقيتة وصون وحدة مجلس الأمن وتجانسه وإيفاء الضغط الدولي علي العراق ، حتى ولو اقتضي ذلك تعزيز القرار 1284 بقرار جديد يذكر بغداد بحزم بالتزاماتها في مجال نزع الأسلحة المحظورة .

ورفض ريفاسو الحديث عن وجود تمايز بين الموقف الأمريكي والفرنسي إزاء إصدار قرار جديد لمجلس الأمن مشيراً أن واشنطن تريد تقوية مضمون القرار ، وأعلنت باريس عن رغبتها أن يتضمن القرار تذكيراً حازماً .

وكان العراق رفض طلباً فرنسيا لقبول عودة المفتشين الدوليين من دون شروط ، وأصرت بغداد علي أن يسير ذلك مع وقف العقوبات ، لا وزير الخارجية دوفيلبان فقال لنظيره العراقي " إن علي بغداد الامتثال لإرادة المجتمع الدولي والأمم المتحده ، وأوضح دوفيلبان أنه لا وقت للمراوغه ولا المناقشه " .

وأعلنت فرنسا أنها لا تعارض استصدار قرار جديد من مجلس الأمن شرط أن يقتصر علي نزع التسلح وتنظيم عودة المفتشين الدوليين ، وهو ما يعتبر تغييراً في الموقف الفرنسي الذي كان يري استصدار قرار جديد من مجلس الأمن ليس ضرورياً .وأعلن دوفيلبان بخصوص الضربة العسكرية المتوقعه ضد العراق أن هذا الأمر متوقف علي قرار العراق وقال إن صدام حسين لم يحترم تعهداته علي مدي سنوات ، وذكر أن موقف فرنسا من العمل العسكري ضد العراق ينبغي أن يكون في إطار جماعي .

غير أن فرنسا أكدت اعتراضها علي تضمين قرار الجديد أي بند عن اللجوء التلقائي إلي القوة ضد العراق ، ورأت أن أي قرار جديد ينبغي أن يشكل مرحلة أول تهدف إلي حشر العراق في الزاوية ، وإذا لم يصدق في مواقفه يكون اللجوء إلي القوة ممكناً بمجرد أذن من مجلس الأمن .

ونبهت فرنسا أن المناقشات المتعلقة بالقرار الجديد تثير مخاوفها في نقطتين الأولي : كيفية التشدد في صلاحيات المفتشين وظروف عمليه التفتيش نظراً لصعوبة التكهن بما ستؤول إليه المداولات في هذا الصدد الأمر الأخر ، الاحتكاكات التي قد يتسبب فيها الاختلاف في المواقف من الاستخدام التلقائي للقوة ، وتحرص فرنسا علي عدم إعطاء العراق أي ذريعه للتلاعب عبر أي ثغرة ما في الموقف الدولي قد يسعي لاستغلالها .

وعموماً نستطيع أن نؤكد أن الاعتراضات الفرنسيه الحالية قابلة للذوبان أمام اول موجه من الضغوط الأمريكية ، ففرنسا تسعي لتحقيق مصالحها اولاً مع واشنطن وأوربا ، وتريد ألا تصبح الدولة التي تواجه الولايات المحدة في قضية تعتبرها واشنطن حيوية بالنسبة لها ، لذلك فإن فرنسا قد لا تتردد في الموافقة علي قرار يقضي باللجوء التلقائي إلي استخدام القوة ضد العراق .

الصفحة الرئيسية