الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

 محاور علاج مشكلة الزيادة السكانية

ناقش مؤتمر الشباب والتنمية السكانية الذي عقد مؤخراً في القاهرة ، مشكلة الزيادة السكانية باعتبارها مشكلة مصر الكبري ، على اعتبار أنها تهدد التنمية بسبب عدم التناسب مع الموارد الطبيعية والقدرات الإنتاجية لمصر ، كما يصاحبها عدد ضخم من المشكلات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية.

ومن ذلك الزحام الخانق في الشوارع والمواصلات ، وتلوث الهواء ، وجيش البطالة المتزايد  من الشباب ، وأطفال الشوارع ، وتهديد الأمن العام ، وانتشار العشوائيات التي تصل إلي 1034 منطقة عشوائية يعيش فيها نحو 12 مليون نسمة يمثلون خمس سكان مصر ، هذا بالإضافة إلي الصراع الرهيب علي مكان في المدرسة والجامعة والمستشفي وكل الخدمات ووسائل العيش .

 وكذلك الانخفاض المتزايد لقيمة العملة الوطنية نتيجة الارتفاع الصاعد الرهيب في أرقام الواردات اللازمة لمواكبة الزيادة في أعداد السكان ، بما أوصلها إلي ثلاثة أضعاف قيمة الصادرات ، أي أننا نستهلك ثلاثة أضعاف ما نستطيع إنتاجه ، وننفق ثلاثة أضعاف دخلنا ، والباقي بالدين والاقتراض وطبع البنكنوت ...الخ، مما يزيد من التخلف ويعوق عملية التنمية.

ولم تتحرك الدولة بالشكل الكافي لدفع أو التخفيف من خطر هذه المشكلات  خلال السنوات الماضية ، فبعدما أفرزت مع جهازها التنفيذي وزارة خاصة بالسكان ، فإنها لم تعمر طويلاً وتحولت إلي هيئة خاصة لها جهاز إداري وإمكانات محدوده ، ثم ألغت الدولة هذا التشكيل وألحقت المشكلة السكانية بوزارة الصحة ، هذا التردد بين وزارة ثم هيئة ثم ملحقيه ، يوضح لنا عدم الاستقرار في اتباع خطي ثابته لحل هذه المشكلة الخطيره والتي تنبني عليها سياسات كثيرة في الصحة والتعليم وميادين العمل والتنميه بصفة عامة .

ومما لا شك فيه أن إلحاق السكان بوزارة الصحة أساسه أن النظره إلي المشكلة السكانية هي نظره مقصوره علي مجرد التعداد والنمو السكاني ، أي نظرة بيولوجيه للإنسان من أجل الحد من تكاثره ، إلا أنها نظره من جانب واحد ، تهمل الجوانب الاجتماعيه والدينية والاقتصاديه .

فهناك قصور النظرة الاجتماعية والاقتصادية التقليدية علي أن كثرة(العيال)عزوه عددية أو طاقات انتاجيه بالنسبة للملاك وأصحاب الأعمال ، أو طاقات عمل زراعي أجير يدر دخل بالنسبة للأسر الفقيره .والأن تحولت الأهداف إلي أن تكون العيال طاقات عمل إداري ومكتبي يتقاضون رواتب شهريه مؤكده ومضمونه ، مما أدي إلي تناقص الأيدي العاملة الزراعية ، رغم زيادة عدد السكان في الريف .

ونتيجة الاقتصار علي النظرة البيولوجيه لهذه المشكلة ، فقد تركز العلاج علي التوعية الإعلامية من خلال أجهزة الإعلام المختلفة لاتباع أسلوب التنظيم ، وتم إنشاء أجهزة لتنظيم الأسرة بوزارة الصحة ، ولكن أسلوب التنظيم لم يحقق الأهداف المرجوه بالدرجة المطلوبه ، حيث زاد تعداد السكان خلال عشرين عاماً أكثر من 24 مليون نسمه ، أي أكثر من مليون طفل كل عام بواقع طفل كل 27 ثانية والعدد في تزايد وتضاعف مستمر ، هذا بالرغم من انفاق عشرات الملايين من الجنيهات وعقد المؤتمرات العديدة بهذا الشأن .

وبالرغم من هذه النتائج فإن أسلوب علاج هذه المشكلة لم يتغير ، حيث خلت توصيات مؤتمر السكان الأخير من أي إجابه متكاملة عن السياسة السكانية المناسبة لمصر ، وكيفية تفعيلها ، حيث اقتصرت التوصيات على مطالبة المجتمع بالحاح عقيم بالتحديد أو التنظيم ، فهما وجهان لسياسة واحدة لا تناسب المجتمع المصري الفقير الذي يؤمن بعضه بزيادة عدد أفراد الأسرة لأسباب كثيرة مصيرية واقتصادية واجتماعية.

وتبنى المؤتمر رؤية العالم الإقتصادى مالتس قبل أكثر من قرنين ، حيث افترض أن النمو السكاني من أهم الضغوط المتراكمه علي موارد الانتاج ، ومن ثم انصبت حلوله حول الحد من زيادة السكان، وضرورة خفض عدد أفراد الأسرة ، لكن الثورة الصناعية سرعان ما برهنت علي فساد رؤيته المتشائمه ، كما طرحت البديل الواقعي بما حققته من طفرات انتاجيه مكنت أوروبا من تجاوز الأزمه ومن ثم استيعاب النمو السكاني مرات عديده ، والوصول إلي درجات الرفاهية .

وبقدر ما تراجعت المالتسيه في العالم المتقدم بقيت تغلف الرؤي السكانيه في العالم الفقير ، ليس فقط لأنها تبرر قصور برامج التنميه، وإنما أيضاً باعتبارها الإجابة الجاهزة للحكومات والمؤكد أنها لا تحقق نجاحاً في المجتمعات الفقيره ، تدل علي ذلك تجربة الهند والصين ، وبذلك ينبغي لهذه النظرية ألا تتصدر بنود علاج الأزمة ، حيث أن بعض المجتمعات يتجه إليها تلقائياً في مرحلة معينة ترتبط بتحسن نوعية الحياة .ومن ثم فإن التحديد أو التنظيم ليس هو الحل الأمثل أو الأولي لعلاج مشكلة الزيادة السكانية وإنما العمل والإنتاج لتحقيق التنميه التي تستوعب الزيادة السكانية العالية .

اعتبارات مطلوبة

وقبل سرد أهم محاور علاج المشكلة بصورة أوسع وأشمل ، هناك مجموعة من الاعتبارات الخاصة بذلك : الاعتبار الأول يتعلق بصعوبة اللحاق إنتاجيا بالنمو السكاني المرتفع من أجل تحقيق التوازن بين حجم السكان وحجم الناتج القومي ،ويمكن القول أن تحقيق هذا التوازن قد يتوقف إلي حد بعيد علي المسؤولين عن السياسات السكانية أكثر مما يتوقف علي الإنتاج والاستثمار المادي في المجتمع .

والاعتبار الثاني : أنه في ظل عالم يتناقص فيه مستوي متوسط دخل الفرد فإنه تبرز الحاجة إلي إعادة التفكير في السياسة السكانية وإدخال متغيرت جديدة في التعامل معها ، والشباب هم أكثر فئات المجتمع التي يجب أن تسهم في صياغة هذه السياسة بمفردات تتفق ومتغيرات الواقع الذي نعيشه .

أما الاعتبار الثالث : ففي ضوء محدودية طاقة استيعاب موارد الأرض والمياه في كل دولة فإنه يتعين عليها أن تكون لها سياسة سكانية تفصيلية موضحة بدقة ، سياسة تراعي طاقة استيعاب الدولة وفق معدلات الاستهلاك التي يقررها مواطنوها .

 والاعتبار الرابع : أن معالجة الزيادة السكانية لا تعني كبح جماح النمو السكاني ، وإنما وضع سياسة تستند إلي حل منطقي لهذه المشكلة ، ألا وهي ما هوالعدد الأمثل للسكان من وجهة نظر المواطنين بعد إدراكهم لحجم المشكلة ؟ وهناك ضرورة لأن تدمج الدولة طاقة الاستيعاب الاقتصادي في السياسة السكانية في محاولة للوصول إلي الحجم الأمثل للسكان بما في ذلك نوعية هذا الحجم .

 أما الاعتبار الخامس والأخير : فإنه حينما يصبح الموضوع هو بحث العلاقة بين حجم السكان والرفاهية علي المستوي القومي ، فإنه لابد أن يطغي الخيار المجتمعي علي الخيار الفردي ، وهو خيار لابد أن يكون على مستوى الموارد المتاحة وهي كثيرة وعديدة ومدى توفيرها لحياة هانئة للناس متى توفرت الخطة المناسبة وتوفر التنفيذ الصحيح وقام بوضع الخطة والتنفيذ متخصصون تحكمهم القيم والمثل وما بين المصالح العامة.

محاور العلاج

أما عن محاور علاج المشكلة السكانية فإن أهم محور للعلاج هو تحقيق التوازن بين النمو السكاني وتنمية الموارد ، وذلك عن طريق إلغاء المالتسيه الثنائيه بين السكان والموارد ، وإحلال سياسات التنميه محل سياسات التحديد ، سواء أكانت التنميه سكانية أم انتاجيه ، وتحقيق التنميه السكانية يتم عن طريق التوسع بلا حدود في برامج التعليم والتدريب في إطار ما يعرف بالتنميه البشريه المستمره ، التي تركز علي تأهيل الفرد في مجالات الإنتاج الحقيقية ، ومتابعته دورياً بالتطوير والتحديث ، وقياس إنتاجيته تبعأً لمؤشر التكلفة / العائد بما يضمن تجاوزه لمستوي الكفايه الشخصيه والأسريه إلي مستوي الفائض والمدخرات .

أما بالنسبة للتنمية الإنتاجية فتمثل آلياتها أهم حلول الاختلال الواضح بين النمو السكاني وتنمية الموارد ، وبالتطبيق علي إقليم جمهورية مصر العربية ، فإن آليات التنمية الإنتاجية تتمثل بصورة أولية في التركيز علي المشروعات الزراعية والرعوية والصناعية المختلفة في شبه جزيرة سيناء وغيرها من مناطق الدلتا الشمالية ، وتحقيق التنمية الإقليمية الشاملة لإقليم البحر الأحمر برامج تجمع بين الرعي والسياحه والزراعه الجافه بالإضافة إلي التعدين والبترول وتشجيع الهجره إليه من الصعيد ، والارتفاع بمستويات استثمار المدن الجديده وتوظيفها صناعياً للتصدير والاستهلاك المحلي ، واستكمال شبكاتها في الدلتا والصعيد ورعاية برامج الهجرة إليها اقتصادياً واجتماعياً ، واستكمال مشروعات مديرية التحرير والنوباريه وتوسيع نطاقاتها لتتصل بالواحات جنوباً ، وساحل البحر المتوسط شمالاً وغرباً ، مع التركيز علي الرعي الحيواني المختلط بالزراعه الصحراوية ، وتغيير نظم الري القائمة وترشيدها، وإعادة جدولة مقننات الري حسب الاحتياجات المحصولية المثلي ، وتحقيق التنميه البشريه المستمره مع التركيز علي الحرف الفنيه والأنشطه الإنتاجيه والربط بينها وبين السياسه التعليمية من جهة والقروض البنكيه من جهة اخري.

ويعد حل مشكلة الإسكان من المحاور المهمة في علاج أزمة الزيادة السكانيه ، تلك المشكلة التي تأتي نتيجة تخبط بعض القرارات وعدم تحقيقها لأهدافها ، والدليل علي ذلك تغير القوانين المنظمة للإسكان خلال فترة زمنيه محدوده ، وعدم تناسب المعروض مع المطلوب من الوحدات السكنية في ضوء ضعف دور الدولة بسبب عزوفها عن بناء الوحدات السكنيه منخفضة التكاليف وتمسكها بنظام التمليك المؤجل الذي اثبت فشله في حل أزمة الإسكان .

فلابد من وجود الأليات الفعالة لدفع وتنمية الطلب علي الوحدات السكنيه من خلال تنفيذ قانون التمويل العقاري الذي صدر منذ أكثر من عام ، وإن نفذ فعلياً فسيكون علاجاً لأزمة الإسكان ، أو تنشيط السوق العقاريه ، ولابد من أن يكون الهدف الأساسي في علاج مشكلة الإسكان هو توفير المسكن المناسب للشباب محدودي الدخل علي حساب الربح ومن ثم العمل علي حل مشكلة الزيادة السكانية المتفاقمة .

وإذا كانت التوعيه الإعلاميه أسلوب لم يجدي كثيراً في حل المشكله ، فإنه ليس معني ذلك العزوف تماماً عن اتباع هذا الأسلوب ولكن مع أساليب وسياسات أخري حيث أنه من المهم الارتفاع بوعي الإنسان المصري وذلك من خلال قطاعات كثيرة مثل الثقافه والإعلام والتعليم والأوقاف والشباب وليس الإعلام فقط ، فكل هذه القطاعات مطالبة بوضع استراتيجيه أو خطه شامله خاصة بذلك ، بحيث ينفذ كل قطاع ما يوكل له في هذه الخطه وفقاً لاختصاصه ، وذلك مع أقصي درجات التنسيق بين هذه القطاعات ، وإذا كانت إجراءات التنميةوبرامجها تكمن في حشد الموارد وتوزيعها علي قطاعات إنتاجيه وخدميه معينة وفقاً لخطة شاملة ، فإن الأمر المهم هو ضبط الهجرة وتوزيع السكان والعمالة وفقاً لمقتضيات هذه الخطه ، ولا يتعارض هذا مع الدستور أو القانون حيث أن الخطه تصبح دستوراً وجزءاً مكملاً له إذا أعطاها المشرع الأولوية والقوة التشريعية .

ومن المهم إنشاء عدة معاهد علي مستويات تعليمية متعددة لتعليم مخاطر المشكلة السكانية علي أن يكون لها ثقل برامجي تطبيقي في الريف ، من اجل تخريج عاملين أو تكوين متفهمين لمحاذير الموضوع السكاني من داخل المجتمع .

كذلك فإن إنشاء مركز مصري لدراسة موضوع السكان علي أساس قوي يساعد في تخريج خبراء علي مسوي عال يصبحون الكوادر الأساسيه في وزارة أو مفوضيه عليا للسكان ، بحيث لا تكون هناك اجتهادات جزئيه من جانب وزارة أوجهاز ما ، بل خطط شامله لكل جزئيات الموضوع بما في ذلك الجوانب الاقتصاديه والقيم الاجتماعيه.

وأخيراً فإن مواجهة الزيادة السكانية لا يعني إنكار أهمية وجود القوي البشرية ، فالقوي البشريه في أي دولة مصدر من مصادر قوتها ، لكن بشرط أن تكون هناك علاقة بين المساحة من الدولة التي يمكن استغلالها واستثمارها في شتي النشاطات الإنسانيه التي تضيف إلي الناتج القومي ، وعدد السكان الملائم للإقامة والعمل في هذه المساحة ، بالإضافة إلي مستويات ونوعيه التعليم السائده ، والمستويات المنشود الوصول إليها ، والإمكانات المتاحه التي تتحدد بناء عليها المدة الزمنيه اللازمه للوصول إلي هذه المستويات ، مع الوضع في الاعتبار مسألة الزيادة السكانية ، وإلا فسوف يظل المجتمع والدولة يلهثان للوصول إلي هذه المستويات دون جدوي .

الصفحة الرئيسية