الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

 2 -قانون السلام في السودان .. صياغة جديد للضغوط الأمريكية

أثار قانون السلام في السودان الذي أقره الكونجرس الأمريكي بغالبية 358 عضواً مقابل 8 كثير من الجدل والشكوك في مضمونه وتوقيته ، وانعكاساته علي مستقبل السودان لتضمنه بنوداً تدفع إلي استمرار الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب والتي سقط فيها ما يقرب من مليوني قتيل خلال ثمانية عشر عاماً من الصراع .

فقد اتخذ الكونجرس الأمريكي عشية استئناف المفاوضات السلام بين الحكومة السودانية وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان التي يتزعمها جون جارانج ، قراراً يتضمن التحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبت في السودان ومحاكمة المسؤولين عنها ، وتضمن أيضاً منح المعارضة السودانية مبلغ 300 مليون دولار في شكل مساعدات للمناطق التي تسيطر عليها ، كما نص القرار علي خفض مستوي العلاقات الدبلوماسية مع حكومة الخرطوم واتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع وصول هذه الحكومة إلي عائداتها النفطية ، ومطالبة الأمم المتحدة بفرض حظر للأسلحة علي السودان .

واتهم الكونجرس الأمريكي الحكومة السودانية بممارسة عمليات تطهير عرقي وانطلق الكونجرس من ذلك إلي مطالبة البيت الأبيض ورئيسه جورج بوش بفرض عقوبات علي السودان في حال عدم عودته سريعا إلي السلام ، ودعاه إلي خفض التمثيل الدبلوماسي الأمريكي مع السودان ، أو حتى تعليقه ، وضرورة إصدار بوش لأوامر للمؤسسات المالية بمعارضة منح أي قروض أو كفالة قروض للحكومة السودانية .

واتهم الكونجرس الحكومة السودانية باستخدامها سلاح الغذاء في حربها ضد الجنوب من خلال لجؤها إلي عصابات السلب والنهب والاستبعاد كوسيلة لإيجاد نقص في الغذاء والقضاء علي قبائل الدينكا والنوير والنوبة وإلغاء ثقافاتهم وضرب اقتصادهم في إطار سياسة تطهير إثني علي نطاق محدود .

وجاء قرار الكونجرس مع صدور تقرير الحرية الدينية الذي تعده وزارة الخارجية الأمريكية وذكر فيه السودان فى موضعين الأول في قائمة سوداء من ست دول تمثل مصدراً للقلق علي مستوي الحريات الدينية فيها ، والثاني في قائمة من سبع دول تنتهك فيها حقوق الأقليات الدينية تحديدا وأشار التقرير إلي أن السودان ونيجيريا هما أكبر دولتين تشكلان مصدر قلق في أفريقيا في مجال حرية الأديان ن كما تعرضت السودان لحملة شديدة من جماعة دولية اتهمت حكومة الخرطوم بأنها لا تزال تمارس العبودية في السودان ودعا التقرير إلي تحرير العبيد في السودان ، واتهمت المنظمة الدولية لمناهضة العبودية السودان بعدم التحرك لإنهاء العبودية .

التحرك الأمريكي تجاه السودان :

ويكشف هذا التحرك الأمريكي تجاه السودان والمتذرع بحقوق الإنسان ومحاربة الرق واتاحة حرية لمعتنقي الأديان عن ضغوط أمريكية قادمة وشديدة علي السودان للتجاوب مع الأجنده الأمريكية ، ذات الابعاد الاقتصادية والسياسية والاستراتيجيةليس في السودان وحدها ولكن في القارة الأقريقية .

ويبدو أن واشنطن تعمل علي تطبيق رؤية البروفسور استيفن مرستن مدير البرنامج الأفريفي بمركز الدراسات الاستراتيجية بواشنطن في الشهادة التي أدلي بها أمام الكونجرس في مارس 2001 تحت عنوان " السودان اتجاه جديد " والتي أكد فيها أن الولايات المتحدة ستتحمل تكاليف باهظة في حال تدخلها لتعزيز القدارت العسكرية في الجنوب السوداني ، لذلك كان نصيحته عدم اللجوء إلي هذا الخيار غير العملي من الناحية السياسية ، وأكد ان الشئ القابل للتنفيذ هو اعتماد استراتيجية تقوم علي خليط من الضغوط والترغيب والترهيب والمبادرات المتعددة الأطراف .

وهذا الطرح الذي ذكر استيفن تأخذ به واشنطن في تحركها الحالي في السودان فهي تتبني استراتيجية تقوم علي تهديد للحكومة السودانية باللجوء إلى  فتح ملف حقوق الإنسان والأقليات الدينية إذا لم تنصاع لما تريده واشنطن ومن الناحية الأخري تتبني اليات بها الكثير من الترغيب خاصة للجنوبيين والمعارضة السودانية ، إذا قدمت حوالي عشرة ملايين دولار ، للتجمع الوطني المعارض ، قبيل انطلاق اتفاق مشاكوس ، ثم استبعدت التجمع من مفاوضات مشاكوس حتى ترسي قاعدة أن ما يحدث في السودان هو صراع بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي ، كذلك اعتمد الكونجرس خطة بـ 300 مليون دولار علي ثلاث سنوات لمساعدة الجنوب وهو ما يعني في حقيقة الأمر مساعدة الجبهة الشعبية لتحرير السودان لتقوية موقفها أمام الحكومة ، أما بخصوص استخدام المبادرات المتعددة الأطراف فإن واشنطن تعتمد علي منظمة الإيجاد ورؤيتها في التحرك في السودان ، حيث أعلن الأمريكيون أن أفضل حل للنزاع في السودان هو إعلان مبادئ الإيجاد التي تم التوصل إليها في نيروبي في يوليو 1994 والتي كان السودان قد رفضها لأنها تنص علي فصل الدين عن الدولة وإعطاء سكان الجنوب حق تقرير المصير والمعروف أن الولايات المتحدة تتولي الانفاق المالي علي سكرتارية لجنة الإيجاد في السودان .

قانون السلام .. سوابق جديدة في العلاقات الدولية

والواقع أن قانون السلام في السودان والذي اقره الكونجرس وينتظر موافقة الرئيس الأمريكي بوش يتضمن مبادئ جديدة وخطيرة في العلاقات الدولية لا تشكل خطراً علي السودان وحده وإنما علي الدول التي تعترض طريق المصالح الاستراتيجية والأمريكية عموماً ،وينذر بعواقب خطيرة في حال تطبيقه علي السودان ، إذ يجعل الشرعية الدولية في يد الدولة الكبري في العالم وليس في يد الأمم المتحدة ، وهو ما يعني أن ما يهدد المصالح الأمريكية من الضروري أن يهدد العالم ويستوجب وقوف العالم خلف واشنطن لمواجهته وبالتالي تصبح الشرعية في العالم ليست شرعية القانون وإنما شرعية القوة .

فالولايات المتحدة قامت كدولة منفرده بسن قانون يفرض السلام في دولة أخري هي السودان ، وربما يمهد لقيام دولة أخري كما أنه يلغي دور الأمم المتحدة في مشكلة الحرب الأهلية في السودان .

كذلك فإن قراءة قانون السلام الأمريكي تكشف عن رؤية أمريكية خطيرة بخصوص السودان وهي أنه يتعامل مع السودان علي اعتبار أن السودان دولتين وحكومتين ، ولا شك أن هذه رؤية غير واقعية حتى من وجهة نظر الجنوبيين أنفسهم الذين مازالوا يريدون دولة واحدة بنظامين ، أضف إلي ذلك أن قانون السلام الأمريكي يكرس عملية انفصال الجنوب من الناحبة العملية اذ ينص علي خلق ودعم مرسسات سلطة مدنية ديموقراطية في المناطق الواقعة خارج نطاق سيطرة الحكومة ، ودعمها بمائة مليون دولار سنويا .

ويلاحظ أن قانون السلام الأمريكي فرض رؤيته لحل مشكلة الجنوب في السودان قبل الجلوس للتفاوض لأن ذلك يشكل ضغطاً قوياً ومكثفاً علي الحكومة السودانية يدفعها إلي توفيق أجندتها وفق الرؤية التي تريدها واشنطن إذ أوضح القانون أن فرض العقوبات علي الحكومة السودانية جاء لحملها علي الجلوس إلي مائدة المفاوضات وفقاً للتصور الذي أعدته إيجاد ، في يوليو 1994 ، أثناء اجتماع نيروبي والذي ينص علي فصل الدين عن الدولة وإعطاء الجنوب حق تقرير المصير .

جاء التدخل الأمريكي مع دول إيجاد دعم كدعم للجبهة الشعبية لتحرير السودان في مواجهة الحكومة السودانية وليس لإحلال السلام في السودان ، فالقانون جاء لخدمة المصالح الأمريكية الاستراتيجية لذلك حمل معه بعض مصالحه إذ تحدث عن السيطرة علي عوائد النفط المستخرج من الجنوب ومنع الحكومة السودانية من الاستفاده منه ، وهذه الألية غريبة وسابقة في العلاقات الدولية إذ تفرض سيطرة الدولة علي الموارد الاقتصادية لدولة أخري ، أي ان العقوبات المفروضة في المجال الدولي انتقلت من كونها حقاً أصيلاً لمجلس الأمن لتكون سلطات مطلقه في يد الكونجرس . كما يخول هذا القانون في سابقة خطيرة دعم حركة انفصالية ضد الحكومة المركزية ، صحيح أن واشنطن تدعم كثيرا من الحركات الانفصالية لكن بطرق سرية وغير معلنة ، وليس بناء علي قانون صادر من الكونجرس ويرتبط بذلك منحها الحق في تقصي الحقائق بشأن جرائم الحرب في السودان وتقديم المسؤولين السودانيين للمحاكمة ، ويعد ذلك نوع من ممارسة الضغوط الشديدة علي القيادة السودانية نفسها علي اعتبار أن قانون السلام الأمريكي سوف يطولها بالمحاكمة والقبض عليهم كمجرمي حرب علي غرار ما حدث في صربيا بل وتقديم مسؤولين سودانيين سابقيين للمحاكمة مثل الصادق المهدي ، رئيس الوزراء السودان السابق .

واشنطن وقانون السلام في السودان :

شكلت الانتصارات السودانية النسبية علي الجبهة الشعبية لتحرير السودان في الشرق والجنوب واستعادة القوات الحكومية لمدينة توريت الاستراتيجية التي استولي عليها جون جارانج الشهر الماضي ، قلقاً لواشنطن فالحكومة السودانية والجبهة الشعبية تمارسان القتال وفتح الجبهات بهدف تحسين الوضع التفاوضي لهما في محادثات السلام القادمة بعد توقفها عدة أسابيع بعد سيطرة جارانج علي مدينة توريت ، وفي هذا المناخ الذي يزاوج بين القتال والجلوي علي مائدة المفاوضات تصبح فكرة الوصول إلي نتائج سلام ملموسه أمراً شبه مستحيل ، إذ أن كلا الطرفين يهدف لتحسين موقفه التفاوضي عبر القتال ،وبالتالي فإن تحقيق السلام يقترب من المعادلة الصفرية أي ان مكاسب طرف ما لابد أن تأتي علي حساب الطرف الأخر ، ويصبح استمرار القتال والتفاوض هما السمتان الرئيسيتان للمشكلة السودانية .

وتدرك الولايات المتحدة هذا الأمر جيداً وتدرك هذا الأمر جيداً وتدرك أيضاً أن المناطق الملتهبة والمشكلات المعقدة والأزمات تكفل لها تدخلاً مريحاً بأقل التكاليف ، لتحقيق مصالحها خاصة النفطية ، فواشنطن توجد بضغوطها وإغراءاتها حيث يوجد النفط الذي شكل لب الصمالح الأمريكية ومحورا هاما في التحرك الخارجي للسياسة الأمريكية .

كما تهدف واشنطن من تطويع السودان لرؤيتها وسياساتها ليس فتح أبوابه أمام الشركات النفطيه فقط وإنما يرتبط ذلك بهدف أوسع وهو تقديم السودان كنموذج للأنجاز الأمريكي وكيفية تدجين نظام إسلامي متهم بالتطرف ليفسح المجال أمام الأقليات الدينية والثقافية فيه التي تري واشنطن أنها مضطهدة إضافة إلي أن السودان مرشح للعب دوراً أكبر علي الساحة الأفريقية خاصة في شرق وسط القاره ، حيث للإسلام دور معروف في التشكيل الثنائي والاجتماعي ويتهيأ للعب دور سياسي في بعض الدول مثل نيجيريا .

وهذه المنطقة تنظر إليها واشنطن علي أنها مخزون امدادات نفطيه مستقبلية للولايات المتحدة ، وقد فكرت الإدارة الأمريكية جدياً في إقامة قاعدةعسكرية في دولة ساوتمي الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها 150 ألف نسمة لكنها تسبح فوق بحيرة نفطيه ، كما ن بوش اجتمع بعشرة من الرؤساء الأفارقة من هذه المنطقة الشهر الماضي ، مما يؤشر لتوجه امريكي قادم يحاول إرساء دعائم للتحرك في هذه المنطقة التي أصبحت تحتل مكانا هاماً في الاستراتيجية الأمريكية وهو ما يفرض علي واشنطن ترتيب الأوراق بما يتفق مع المصالح ، والسودان هو أول الدول التي تحتاج اوراقها إلي ترتيب من وجهة النظر الأمريكية حتى يستطيع أن يكون الأرض التي تنطلق منها واشنطن إلي أفريقيا ، وطرد نفوذ الدول الأخري المنافسة لها .

الصفحة الرئيسية