حضرات السيدات والسادة

اسمحوا لي أن أقدم احترامي لاهتمامكم بمناقشة أحوال العالم العربي في ظروف هنا قد تغرى بالنسيان، وأحوال هناك قد تشفى من الحنين للأوطان. وتلك في حد ذاتها إشارة  تومئ إلى أمل.

من هنا، رجائي أن تقبلوا مني ـ وفي هذه اللحظة المبكرة ـ اعترافي بأنني لم أجئ إلى هذا اللقاء لأتكلم، وإنما جئت لأسمع وأتعلم، أحاور وأتفهم.

وبدون مجاملة لكم أو تواضع من جانبي فاعتقادي أنكم، في هذه المدينة الباهرة، لستم في حاجة إلى زائر من جنوب البحر الأبيض يفض أمامكم سرا استعصى عليكم أمره في شأن أزمة العرب ومستقبلهم. فأنتم هنا في قلب عالم من المعرفة والفكر تعودنا أن نطل عليه ونصغي إليه منذ تلك الرحلة المدهشة التي قام بها ذلك الأزهري العظيم الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" وعاد منها بكتابه الشهير "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". وكان الكتاب دعوة شبه صريحة إلى شرط تحتاج إليه الأمم والشعوب في يقظتها وهو شجاعة الشك والجسارة على مراجعة المنقول والمحفوظ، مما عطل العقل العربي وحبس حركته وفعله!

أنتم في هذه المدينة الباهرة ـ أيضاً ـ قرب ذاكرة حية تحكي لكم عن تجارب قريبة الشبه بما يشغلنا هذه الليلة وهو مجال "الأزمة والمستقبل". فقد كانت باريس تحتفل أخيراً ـ وبعد مرور خمسين سنة على إنتهاء الحرب العالمية الثانية ـ باستعادة تجربة تحمل بعض الملامح من الأزمة العربية الراهنة.

في يوم من الأيام سنة 1940 شقت جحافل النازي طريقها إلى هذه المدينة ومشت أرتالهم المدرعة نشوانة تحت قوس النصر القريب من هنا، وكان صوت دعاة الرضوخ للقوة الغالبة من إيقاع تتردد أصداء له في العالم العربي الآن:

مثل: "إن العدو كان أسبق منا في تقدمه العلمي وفي تنظيمه الصناعي وفي سلاحه العسكري".

ومثل: "إن العالم تركنا وحدنا لمصيرنا، ولم يكن أمامنا حل آخر".

ومثل "إن الحلفاء الذين كانوا معنا تخلّوا عنا، ولهذا جرى اختراق خطوطنا وتطويقها".

ومثل: "إن الأحداث داهمتنا ولم تترك لنا بدائل أو خيارات متاحة".

ومثل: "إن الواقع يفرض أحكامه، ومن ثم فإن الواقعية أدعى للسلامة من المكابرة".

ومثل: "إن أعداءنا شركاء في تحالف دولي مهيمن، وما دمنا لا نستطيع مقاومتهم، فالأفضل أن نلتحق بهم".

ومثل: " إن شعوبنا سئمت طول الحروب وتكاليفها الباهظة في الدم والموارد".

وهكذا، فإنه بين انبهار بالعدو مبالغ في غلوه، وضياع بالثقة في النفس مبالغ في رخصه، كان الجو مهيأ، وساعده ـ كما حدث عندنا ـ أن بعض الذين كانوا ضمن الأبطال في يوم سابق كالماريشال "بيتان"، تقدموا مبشرين بالرضوخ في يوم لاحق.

على أن ذاكرة باريس تحكي لنا أن فرنسا وجدت لحظة الأزمة رجلا استطاع أن يجعل من إرادته رمزاً لإرادة الوطن، ومن حضوره بديلا عن غياب شعبه، ومن تمسكه وإصراره ـ غير المعقول أحيانا ـ إنشاء جديداً لسلطة دولة غير تلك التي رضيت بالهزيمة وتعايشت معها في "فيشي"! .

وإذن ، فهذا البلد الذي اختاركم واخترتموه ـ فيه الكفاية، بموارده وتجاربه، عن زائر من جنوب البحر الأبيض يتحدث أمامكم عن الأزمة والمستقبل.

وبالطبع، فكلنا يدرك أن عجلة الزمن دارت دورة كاملة.

* من ناحية، فإن عصر البراءة الذي أطلق فيه الشيخ "رفاعة" نداءه إلى شجاعة الشك مضى عليه أكثر من قرن ونصف قرن. وفي هذه المساحة من الزمن لم تصل شجاعة الشك إلى مشارف الحقيقة، ولعلها اقتربت مرات ثم اختلطت عليها المسالك، وربما أن النور ومض في نهاية نفق ثم ظهر أن مخرج النفق وراء هذه الومضة وليس أمامها!

وبعد قرن ونصف قرن من الزمان فالظاهر أن "الإبريز" الذي استخلصه الشيخ "رفاعة" من تلخيص "باريس"، ضاع في رمال الصحراء أو طمى الأنهار أو أمواج الخلجان والبحار المبسوطة على رقعة الخريطة العربية!

* من ناحية أخرى، فإن ذاكرة "باريس" فيما تحكيه لنا عن دور رجل واحد ليست مرشداً كافيا بالنسبة لحالة الأزمة العربية. وسبب ذلك اختلاف الظروف، وبينها أن "شارل ديجول" رغم البعد عن الأرض والشعب ـ لاجئا في لندن أو في الجزائر ـ اعتمد على حقيقة أن فرنسا ـ حتى بهزيمة يونيو 1940 ـ كانت بلدا اجتاز المراحل الحرجة من تجربة التنوير الفكري والتقدم الاقتصادي والتوازن الاجتماعي والرشد السياسي، وبالتالي فأزمته يمكن أن تكون عارضة، في حين أن أزمة العرب معقدة تتداخل وتتشابك وتتفاعل فيها الأسباب موروثة ومحدثة، ظاهرة وخفية، خارجية وداخلية.

إن هذه الإشارة إلى الخارج والداخل تقود إلى زاوية أقترح أن نتمهل عندها، ذلك أنه يصعب الحديث عن أزمة العرب ومستقبلهم دون فحص لدور العامل الخارجي في صنعها، ووضعه جنبا إلى جنب مع العامل الداخلي.

لأن كلا العاملين فاعل فيها، وكلا العاملين واصل إلى العمق من تراكماتها:

كلاهما: الخارج والداخل، بطل في القصة. ولكل قصة إنسانية بطلان على الأقل، والأسطورة وحدها تحتمل بطلا واحدا.

أعني أن هناك باستمرار وفي كل تجربة إنسانية جانبين للحقيقة على الأقل. وفي تجربة العرب الحديثة تتجلى هذه الثنائية في:

* جانب أن العرب عاشوا ويعيشون في موقع جغرافي ومحيط حضاري أرادت القوى الغالبة باستمرار أن تسيطر عليهما، ثم استجد عنصر الموارد الاقتصادية مما استوجب الإلحاح على السيطرة وإلى درجة القتل إذا كان لازما.

* وجانب ثان، هو أن العرب تعاملوا مع أقدارهم على مستوى أدنى بكثير مما كان في قدرتهم. والنتيجة أنهم بما فعلوه وبما لم يفعلوه وصلوا بأنفسهم إلى حالة وحافة الانتحار، وأحيانا بدون لزوم.

وإذا نحن تغافلنا عن مجيء الآخرين ـ مرات ـ إلينا مستعدين للقتل فنحن نتهرب من الحق ... ومن الجغرافيا.

وإذا نحن تغافلنا عن وصولنا ـ مرات ـ بأقدامنا إلى حافة الانتحار فنحن نهرب من المسؤولية ... ومن التاريخ.

ونسمع بعض الأحيان رأيا يتهم أي تنبيه إلى دور العامل الخارجي في الأزمة العربية بأنه "غرام" بنظرية المؤامرة. وهذا اتهام يمكن تفهمه، ويمكن رده ـ بالنسبة لبعض القائلين به ـ إلى غيرة وحمية تلح على حساب النفس قبل حساب الآخرين.

لكن الوقائع التاريخية المشهودة يستحيل إنكارها. وقد نريح أنفسنا ـ وغيرنا ـ بالاستغناء عن وصف المؤامرة في تشخيصنا لدور العامل الخارجي، ومن ثم نسميه بوصفه المباشر كصراع مصالح، وصراع إرادات، وصراع قُوى لها مطالبها، وهي تعتمد الغزو وسيلة للتسلط وقد زحفت إليه ابتداء من جيوش "الإسكندر" إلى جيوش "نابليون"، وجيوش أخرى بعد "الإسكندر" وبعد "نابليون"!

* * *

وأستأذنكم أن نتوقف أمام أربعة مشاهد ـ ظهر فيها فعل العامل الخارجي ـ وهي مشاهد أحسبها فارقة في التاريخ العربي الحديث وباعتبار أن حملة "نابليون" على مصر هي البداية المتفق عليها لهذا التاريخ الحديث. وإذا ظهر من الانطباع الأول أن المشاهد الأربعة مصرية، فقد يرجح من نظرة ثانية ـ متأنية ـ أنها في صميمها عربية:

1 ـ المشهد الأول، هو مشروع "محمد علي" لبناء دولة عصرية في مصر والشام. وقد ضُرب مشروع "محمد علي" بواسطة تحالف بين القوى الأوروبية الكبرى المعارضة لقيام دولة عربية قادرة تحكم في مصر والشام أو تجدد شباب الخلافة في إستانبول، وهكذا جرى تحطيم أسطول "محمد علي" وتمزيق جيشه، مما اضطره إلى توقيع معاهدة لندن 1840 .

أي أن الضربة كانت بقوة السلاح.

2 ـ المشهد الثاني، هو المشروع التنويري لعصر "إسماعيل" في مصر. وكان ذلك هو العصر الذي تبدت فيه بشائر التعليم، وبشائر العمران، وبشائر الاهتمام بالفنون، وبشائر إنشاء صحافة عربية. وقد انتهى هذا المشروع التنويري بالغزو البريطاني سنة 1882 .

أي أن الضربة كانت بقوة السلاح مرة ثانية.

3 ـ المشهد الثالث، هو التجربة شبه الليبرالية التي أعقبت ثورة سنة 1919 في مصر، وبصرف النظر عن الظروف والملابسات فإن هذه التجربة بدأ ضربها بكتيبة دبابات بريطانية أحاطت بقصر عابدين وأرغمت ملك مصر يوم 4 فبراير 1942 على تكليف رئيس وزراء معين بتشكيل الوزارة. ومع أن هذا الرئيس كان بالفعل زعيم الأغلبية المحرومة معظم الوقت من حقها في الحكم ـ فإن أحداً لا يستطيع تجاهل أن التكليف الوزاري صدر بإملاء مدفع دبابة!

ثم جاءت الضربة القاضية لهذه التجربة شبه الليبرالية عندما أقيمت دولة إسرائيل، ومن ثم، أصبح التهديد الخارجي خطراً مستوطناً ومقيما وسط العالم العربي، وليس مجرد أساطيل تظهر في البحر أو جيوشاً تغزو من البر.

وكانت الضربة بقوة السلاح مرة ثالثة.

4 ـ أما المشهد الرابع، فهو المشروع القومي لـ "جمال عبد الناصر" بعد ثورة يوليو 1952. وكان هذا المشروع محاولة طموحة لوضع مصر وبقية الأمة العربية على مداخل عصر جديد أعقب الحرب العالمية الثانية، واستجابة في الوقت نفسه، لدواعي وضرورات أمن مكشوف ومعرض أمام تهديد ومستوطن ومقيم. لكن هذه المحاولة تعرضت لسبق الإصرار والترصد ثلاث مرات: في السويس سنة 1956 ، وفي دمشق سنة 1961 ، وتكرر سبق الإصرار والترصد مرة ثالثة وبنجاح سنة 1967 . وكان الجرح غائرا.

أي أنها للمرة الرابعة ضربة بقوة السلاح.

ولنقل إن هذه كلها لم تكن مؤامرات بالمعنى الدارج والشائع، لكننا لا نستطيع أن ننكر أنها كانت مصالح وإرادات وقوى تدخلت مباشرة، وبالسلاح.

كذلك، فلابد أن نقر بأن هذه كلها لم تكن مصادفات، لأن العقل يعلمنا ـ حين تتكرر الظواهر ـ أن في الأمر ما هو أكثر من المصادفة.

وقد يدور في هواجسنا ـ أو في هواجس بعضنا على الأقل ـ أنه من العسير أن نرد إلى المصادفات وحدها واقع أن هناك تسوية وجردا للحسابات القديمة والمستجدة تتم الآن في المنطقة العربية، بينما كل دولها تقريبا من مصر إلى سوريا، ومن العراق إلى الجزائر، ومن السودان إلى لبنان، ومن ليبيا إلى اليمن، ومن تونس إلى الأردن، ومن الخليج إلى فلسطين ـ غائبة، فيها الضعيف أو الخائف، وفيها المضروب أو المحاصر، وفيها المفتوح المكشوف للتهديد أو للابتزاز.

وإذا أصر بعضنا على رد الواقع العربي الراهن إلى المصادفات، إذن فإن قانون الصدفة خُلق على مقاس العرب وعلى حجمهم رغم اختلاف الظروف والعصور والرجال، وذلك تعسف يظلم المنطق، كما يظلم العرب!

* * *

وهنا نعود بالتفصيل إلى الجانب الآخر للحقيقة وهو فعل العامل الذاتي في الأزمة العربية الراهنة:

1 ـ إن مشروع "محمد علي" مشى بقدميه إلى الحافة الخطرة حين عجز عن التنبه إلى أن الدولة العصرية ليست مجرد جيش، ذلك أن الدولة تستطيع أن تقيم جيشا ولكن الجيش لا يستطيع أن يقيم دولة عصرية. والشاهد أن الدولة العصرية والجيش العصري، محصلة موارد وقدرات شعب، وشرعية حكم، واستنارة فكر، وتوازن طبقات، وإدراك عميق لفكرة أن المجتمعات تعيد صياغة مستقبلها جيلا بعد جيل بوسيلتين أساسيتين هما: التعليم والتشريع.

2 ـ وعصر "إسماعيل" مشى بقدميه إلى الحافة الخطرة حين غاب عنه أن الحضارة لا تجيء بالاستعارة، وأن التجديد لا يتأتى بالتقليد، كما أن الرقى لا تدل عليه باقة ورد محكوم عليها بالذبول صباح اليوم التالي، وإنما دورة الرقى تربة وبذرة وريّ. ومن المفارقات أن "هوسمان" وهو المهندس الفرنسي الشهير الذي خطط شارع ريفولي وما حوله في باريس كان نفس المهندس الذي بنى شارع محمد علي في القاهرة وعلى نفس الطراز. وفي حين بقى شارع ريفولي وما حوله واجهة حضارية مضيئة، فإن الأنوار انطفأت في شارع محمد علي، وألسنة النيران التهمت دار الأوبرا القريبة منه وتحوّل موقعها الآن إلى كتلة صماء من الأسمنت على شكل مبنى لانتظار السيارات!

3 ـ والتجربة الليبرالية في مصر مشت بقدميها إلى الحافة الخطرة حين أصبح الاستقلال الوطني فراغا والديمقراطية تجويفا، ونسى الكل أن ضمانة الاستقلال كفاءة في الإدارة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن الديمقراطية تفاعل مع درجات النمو، وأن حمايتها الحقيقية ليست في دستور يجيء منحة من سلطان، كما أن العمل السياسي ليس جائزة إلى الغنى.

4 ـ ومشروع "جمال عبد الناصر" مشى بقدميه إلى الحافة الخطرة حين قادة الطموح إلى تصور أن مراحل التطور يمكن اختصارها والقفز فوقها. وبسبب الرغبة في الاختصار والقفز على مراحل التطور زاد الاعتماد على سلطة الدولة في الداخل وعلى عروض القوة في الخارج، وانكشف المشروع القومي لمخاطر جعلت محاصرته وإصابته ممكنة في صحراء سيناء سنة 1967 !

* * *

لعلي لا أتجاوز الوقائع إذا قلت أمامكم إن المشروع القومي لم يقتله الأعداء ولم ينتحر بالأخطاء نتيجة لما حدث سنة 1967، وإنما اقترب هذا المشروع كثيرا ـ وربما كثيرا جداً ـ من حافة الخطر، لكنه حدث عند اللحظة الحرجة أن شعوب الأمة ـ قبل قياداتها ـ استجمعت كل المخزون لديها من طاقة، وقررت أن تقف.

على نحو ما كانت الأمة تشعر رغم جراحها أن المستقبل يولد في قلوب الناس، ومن قلوبهم إلى عقولهم، ومن عقولهم إلى إراداتهم. ومن ثم، فإن إرادة الحياة يمكن ان تتصدى لنزعات القتل، وتتخطى مزالق الانتحار.

ولم يكن ذلك مجرد شعور نبيل ألهم ـ أو ألهب ـ أمة في وقت محنة، وإنما أضيفت إلى الشعور تعزيزات مدد لا يستهان به:

* بينها أن الأمة في كل ما عاشته من تجارب في العصر الحديث من مشروع "محمد علي" إلى مشروع "جمال عبد الناصر" حصّلت وراكمت مكتسبات مهمة في مجالات التعليم والنمو الاقتصادي والاجتماعي والفكري، والاتصال بالعالم والعصر، وذلك أضاف إلى مواردها الإنسانية، وساند إرادتها في اختبارها مع الخطر.

* وبينها أن الأمة استطاعت أمام تحدي المصائر أن تعلو فوق خلافاتها، وأن تستعمل ترسانتها، من براميل البارود إلى براميل البترول.

* وبينها أن الأمة تمكنت أن تحشد معها ووراءها تحالفا دولياً وعالمياً عريضا، حوّل قتالها من حرب بالسلاح إلى حق يستحيل تجاهله.

وهكذا جاء أكتوبر سنة 1973 وأثبتت الأمة في الأيام الأولى على ضفتي قناة السويس وعلى سفوح الجولان وعند منابع النفط أنها تملك جسارة وكفاءة الفعل، وكانت تلك رسالة من الحاضر إلى المستقبل مؤداها أن العرب قادرون على الحرب دفاعا عن مصائرهم .. قادرون هذا اليوم، وأكثر قدرة في أيام بعده.

وبدت تلك فرصة جديدة تعطي أملاً مبرراً لاقتراب ممكن من علاج الأزمة العربية وتعقيداتها الشديدة.

وكان الأمل ـ أنه وقد أثبتت الأمة كفاءتها في ميادين القتال، فإن هذه الكفاءة بما تعنيه من ثقة بالنفس يمكن سحبها من مواجهة العدو إلى مواجهة الذات والتصالح مع الماضي ومع المستقبل. لكن الأمل تعرض لعملية إجهاض لم يتنبه إليها أحد وسط مشهد أكتوبر الجليل، وبينما الأبصار والأعصاب مشدودة مأخوذة بصدام الجيوش ودوي المدافع وهدير الدبابات وأزيز الطائرات:

* على ركن من الصورة ، دخلت قوى عالمية نافذة، وألقت بثقلها مصممة على تغيير الموازين لتعود إلى ما كانت عليه قبل المعركة وقبل اختبار النار.

* وعلى ركن آخر من هذه الصورة، فإن الإدارة السياسية العربية لميادين الحرب آثرت تجنب المخاطر، بظن أنها تستطيع الخروج ببعض ما حققته جيوشها. وكان ذلك ممكنا، لكن ذلك الممكن لم يتحقق، لأسباب كثيرة: بينها الرغبة في تثبيت سلطة الأنظمة قبل عودة المقاتلين، وبينها تقديم المصالح الطبقية على المصالح القومية، وبينها أن القوى الغالبة اعتمدت أسلوب الغواية مساعداً لأسلوب التخويف، وبينها أسباب أخرى عديدة ليس الآن مجالها. وفي المحصلة النهائية فإن السياسة اختارت أن تريح نفسها بالإذعان للأمر الواقع، والنزول عند ما رأت من مقتضياته.

هكذا وقعت عملية الإجهاض، وكان ذلك محزنا. لكن الأكثر منه مدعاة للحزن أن العملية أريد إخفاؤها عن كل هؤلاء الذين كان لهم الحق أن ينتظروا موعد الميلاد ووعده!

* * *

أظن أنه يجوز القول، دون تجن أو تعسف على الوقائع، أن التحوّل الذي شهدته فترة النصف الثاني من أكتوبر 1973 وحتى ربيع سنة 1974 ـ كان منحنى واسعاً على الطريق.

قبل هذا المنحنى، كان تطور المراحل المتعاقبة في حياة الأمة خطا يتعرج ثم يستقيم، يرتفع ثم يهبط، لكن الخط بقى مرئياً طول الوقت، ظاهرا حتى وإن غطى الزحام أحيانا على مساره.

ومع هذا المنحنى على الطريق، فإن ظاهرة مستجدة وخطرة طرأت على الساحة العربية.

كانت قوى الأمة معبأة لتصورات خيّرة ومقبولة بعد "نوع ما من النصر" (وأستعمل ذلك التعبير لأن النصر الكامل لم يكن في متناول الإمكانات العربية وقتها) ـ لكن ذلك المنحنى على الطريق راح يقود إلى مجالات أخرى بعيدة عن تلك التصورات ومتناقضة معها.

إن ذلك الـ "نوع من النصر"، الذي تحقق بالسلاح في مواجهة السلاح ـ لم يستطع تثبيت مساحته على الطبيعة. وفي الوقت نفسه، فإن ذلك الإذعان للأمر الواقع لم يكن قادراً على الإفصاح عن نفسه أمام الناس ومصارحتهم بأن الإجهاض وقع، وأن الميلاد الجديد ضاعت فرصته.

* * *

ومن سوء الحظ، أن "ديجول" لم يكن في الساحة أو بقربها. وكان على الساحة وبقربها. أكثر من "بيتان" قامت بينهم ـ عبر عواصم عربية متعددة وعلى اختلاف الدواعي ـ صحبة تحوّلت إلى عصبة. ووجد "البيتانيون" في العالم العربي عوامل مساعدة، لها أسباب كامنة في التجربة العربية، مترسبة في قاعها من فضلات مراحل سابقة، وقد انتهزت هذه الأسباب فرصتها في الأيام الأخيرة من الحرب.

وهكذا، فإنه بدلا من تصورات وآمال الصعود ـ حتى وإن كان متئد الخطى ـ راحت الأمة تنزلق إلى هبوط سريع تعلقت به أثقال الماضي والحاضر. والشاهد أن موقف "بيتان" الفرنسي كان أفضل بكثير من مواقف نظرائه العرب.

إن "بيتان" الفرنسي كان مع جموع الشعب الفرنسي أمام هزيمة حالّة، وكان بمقدوره أن يشير إليها ثم يحث الشعب الفرنسي على "الواقعية"، مضيفاً أنه "ليس لدى فرنسا بديل غير الإذعان للقوة القاهرة".

وكان "بيتان" الفرنسي يستطيع إعفاء نفسه من أي مسؤولية، فهو لم يكن هناك عندما قامت فرق "البانزر" الألمانية بتطويق خط "ماجينو" واختراق بلجيكا إلى شمال فرنسا. ثم إن أحدا لا يستطيع أن يمس سجله بشائبة، فهو ماريشال "فردان" التي أصبحت مفترق الطرق نحو النصر في الحرب العالمية الأولى. وفي هذه الحرب العالمية الثانية فإن ماريشال النصر تطوع مضطراً وتحمّل على ضميره مهمة إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

أما "البيتانيون العرب" ـ والإشارة إليهم بالجمع وليس بالمفرد لأنها الحقيقة ـ فلم تكن في يدهم مثل هذه الدعاوي، بل العكس. فقد كانت مسؤولية آخر الحروب عليهم، وكان النصر في أيديهم، حتى ولو كان "نصرا من نوع ما".

كذلك، لم يكن مقبولا من هؤلاء "البيتانيين" في ذلك الوقت، وأجواء الحرب محيطة وآمال النصر قائمة، أن يتحدثوا مثله عن "الواقعية" ـ فقد كان الواضح أن إدارتهم للمعركة هي التي خلقت واقعاً جديداً وليس العكس.

ولم يكن مقبولاً منهم أيضاً أن يتساءلوا ـ كما تساءل قبلهم ـ عن "البديل" لسبب أساسي وهو أنهم في أكتوبر 1973 م جاءوا ببديل لما وقع في يونيو 1967 .

* * *

ومع ذلك، فإن "بيتان" الفرنسي سنة 1940 واجه إشكالية الواقعية بخبرة وأعصاب:

ـ خبرة قدّر بها أن فرنسا هُزمت في الحرب، ولا حل أمامها غير الاعتراف بهذه الهزيمة ..

ـ وأعصاب أدرك معها أن الواقعية ـ حتى واقعية الإعتراف بالهزيمة ـ لها حدود وضوابط وخطوط حمراء.

وعلى هذا الأساس "الواقعي" تصرف "بيتان":

* اعترف بالاحتلال الألماني العسكري لنصف فرنسا، لكن النصف الآخر منها قامت فيه حكومة فرنسية لها سلطة القرار المدني ساريا على كل ترابها، بما فيه النصف الذي تحتله القوات الألمانية.

* أن فرنسا المهزومة سوف تخرج من الحرب، لكنها أخلاقيا وسياسياً لا تستطيع أن تنقلب ضد حلفائها البريطانيين السابقين مهما كان ضيقها بهم.

* أن القوات الفرنسية ستلقى السلاح، لكن سلاحها لا يسلّم إلى الغزاة الألمان، والأسطول الفرنسي في ذلك الوقت أكثر في عدد قطعه من الأسطول الألماني!

* أن فرنسا المهزومة لا تتخلى عن ممتلكاتها ومستعمراتها عبر البحار، وحكومتها المعترفة بالهزيمة في "فيشي" هي التي تدير هذه الإمبراطورية.

* أن فرنسا المستسلمة لها أن تمارس علاقات دبلوماسية خارجية خصوصاً مع الولايات المتحدة الأمريكية.

كان "بيتان"، المعترف بواقع الهزيمة، يعرف أنه حتى "واقعية" القبول بالهزيمة لها حدود وضوابط وخطوط حمراء. لكن "البيتانيين" العرب أخطئوا بشدة في مواجهة إشكالية الواقعية.

كانوا هم الذين تهاونوا إزاء الظروف التي طرحت عليهم واقعية القبول بما لم يكن هناك داع لوقوعه.

وعندما قرروا مواجهة هذا الواقع بالواقعية لم يجدوا لهذه الواقعية وعاء يحفظ سيولتها ويحافظ عليها من الاندلاق!

وعندما سكتت المدافع، وانقشع دخان الحريق، كانت السياسة العربية في مأزق صعب، وأصعب منه أنها راحت تتورط وتتدحرج خطوة بعد خطوة:

1 ـ لم يكن في مقدور أحد أن يجاهر أو يصارح أو يعترف بالتحولات الخطيرة التي طرأت على الوضع سواء بالتقصير أو بالغواية أو بالخوف من العواقب إذا عاد المقاتلون من ميادين الحرب وفي يدهم "نصر من نوع ما"، سائلين عن الميلاد الجديد المنتظر وعن سلامته.

وكان على الوهم أن يعوّض الفجوة بين المتوقع والواقع. لكن الأوهام زادت مثلما تزيد جرعة المخدر مع طول استعماله: فما بدا مهدئا إعلامياً ما لبث أن تحول إلى إدمان سياسي، وبدوره، تحوّل الإدمان السياسي إلى حالة من الازدواجية وصلت إلى درجة الانفصام في الشخصية. وهكذا فإن الواقع الفعلي والعملي أصبح "بيتاني" الملامح والقسمات، ولكن الخطاب الرسمي والإعلامي قرر أن يكون "ديجولي" الإيقاع والنبرات!

2 ـ ولأن الأوهام غلالات رقيقة، فقد جرت عملية تكثيف الأوهام بالأحلام، وسماء الحلم أكثر اتساعاً: تتسع للسلام، وتتسع للرخاء، يفرشهما من الأفق إلى الأفق ذلك الصديق الأمريكي الذي أقبل متكفلا بالضغط على إسرائيل ـ لأنه وحده القادر عليه ـ وواعدا بنشر الرخاء ـ لأنه وحده القادر على المساعدة ـ بمشروع "مارشال" ثان يصنع في الشرق الأوسط سنة 1975 م مثل معجزته الأولى في غرب أوروبا سنة 1945.

3 ـ ولأن استبقاء الأوهام والأحلام معا يلزمه لتحقيق أغراضه أن يحتفظ بسره (سر الإجهاض) لا يبوح به للناس، فإن السياسة العربية في ذلك الوقت أدارت معظم عملياتها من وراء ستار. فقد كان صعبا أن يحدث تغيير كامل في الأهداف، وفي مجموعات القيم، وفي التحالفات، ثم أن يحدث كله بأسلوب الانقلاب المفاجئ مهما اتسع ذلك المنحنى على الطريق. وكان أن غطس الفعل السياسي الرسمي ـ شأنه شأن العمل السري ـ إلى ما تحت الأرض يمارس من هناك إدارته. ونعرف جميعا أنه ليس أخطر على أي إدارة سياسية رسمية من أن تمارس عملها تحت الأرض وفي السر، فالخفاء في السياسة ينزل بمطالبها وبمستواها ويؤثر على هيبتها وأهدافها.

ومع وقوع ذلك المحظور فقد انحدر التعامل مع الآخرين في الظرف الحاسم من القاعات المضيئة إلى سراديب المخابرات، عربية ـ عربية، وعربية ـ دولية، وتحوّلت المطالب والحقوق إلى همسات وصفقات مشكوك في قيمتها وفي نتائجها. وبدوره، فإن ذلك جعل الإدارة السياسية العربية متوجسة داخل أوطانها، مرتهنة خارجها!

4 ـ وبما أن الحقائق كان محتملا أن تجد ثغرة تطل منها ـ مهما غطت الأوهام والأحلام ـ فقد كانت دقة الصنعة تتطلب ظهور شواهد عملية تثير الاهتمام وتوحي بأن الميلاد قادم وتلك بشائره. وظهر ما عرف بوصف "الانفتاح" يعطي أملا للكافة بأن شيئا ما واصل إليهم. وإذا كان السلام يتلكأ عن موعده، فإن الرخاء مضبوط على دقات الساعة!

ولما كانت حقائق الأشياء تفرض أن تكون للأمر الواقع عندما تظهر قوى تدافع عنه لمصلحة فيه، فإن الجماعات الأسرع حركة لأنها الأوسع نفوذاً عليها أن تتحوّل إلى قوى يمكن الاعتماد عليها، إذا ظهرت الفجوة بين ما كان ممكنا وبين ما أصبح واقعا (الحمل ثم الإجهاض). واتسعت الجسور أمام جماعات خفيفة الحركة تمكنت بسرعة من العبور إلى الفرصة. ولم يكن ظهور هذه الجماعات مطلبا للسياسة المحلية أو الإقليمية فحسب، وإنما فرضت علاقات الأشياء ـ بعد حقائقها ـ أن يصبح المطلب دوليا.

5 ـ ومن المنطقي في أحوال من هذا النوع، أن تتلاقى جماعات الفرصة مع نخب الإدارة السياسية المحلية والإقليمية، ومع المطالب الدولية، وتنشأ بين الجميع رابطة للمصالح المشتركة تحسباً لهؤلاء الذين يحتمل أن يستيقظوا ذات يوم وقد تبدد الوهم وانسخط الحلم.

وكان بعض التداعيات فادحا بحيث لم يعد ممكنا أن يستمر إنكارها، أو إخفاء الضرورات والالتزامات المترتبة عليها، أو تجاهل مطالب هذه الرابطة الجامعة للمصالح المشتركة محلية وإقليمية ودولية. وفي إطار هذه التداعيات والضرورات والمطالب نزلت إجراءات بينها الاستجابة إلى تلك الوصفة للإصلاح الاقتصادي والمالي التي أشار بها البنك وصندوق النقد الدوليين، وبسببها ارتفع دعم الغذاء والكساء والتعليم عن الفقراء بدعوى التخفيف من الأعباء، وفي الوقت نفسه، وقع دعم الأغنياء بوسيلة الإعفاءات الضريبية والجمركية بدعوى تشجيع الاستثمار!

وبدأت الشكوك تثور بفعل ذلك الصدام الحاد بين الممكن والواقع (بين الميلاد المنتظر وبين الإجهاض المكتوم سره).

وشهدت مدن عربية عديدة في مصر والمغرب والأردن وغيرها احتكاكات ومصادمات تحذر وتنذر.

وحدث ـ وهو غير مستغرب في مثل تلك الأجواء المتوترة والقلقة ـ أن كثيرين من الأغنياء تركوا أموالهم تهاجر إلى النظام البنكي العالمي، وأن كثيرين من الفقراء لم يتبق لهم غير الهجرة إلى الله يبحثون عنه في المساجد والزوايا الدينية، بينما كانت الطبقة المتوسطة تنضغط وتختنق!

6 ـ إن تحالف المصالح التي قامت وتشابكت في هذه الأوضاع، كان في عجلة من أمره، يريد أن يدعم نفوذه ويوسع فرصته، وذلك أدى بدوره إلى نوع من الفساد في العالم العربي لم يسبق له مثيل، وساعد عليه أن الثروة العربية تدفقت أموالا سائلة من عوائد النفط.

وهذه قضية تعرفون عنها أكثر مما أعرف، فكثيرون منكم هنا في مواقع تسمح لهم أن يروا ويتابعوا. وأتصور أن كثيرين بينكم تضيق صدورهم لكنهم في مأزق حرج، فلا هم قادرون على الصمت ولا هم قادرون على الكلام.

7 ـ إن تحالف المصالح السياسية والمالية، الإقليمية والدولية، لا يستطيع أن يحتكم إلى غير أدوات السلطة، وبالتالي فهو قابض عليها لأنها وسيلته لاستكمال ما تبقى من مطالبه، كما هي وسيلته إلى حماية نفسه وتأمين ما حصل له بالفعل.

والسلطة التي تريد البقاء دون أن تشق على نفسها بسند الشرعية، لا سبيل أمامها غير البقاء بالقهر في مواقعها. وهكذا اتسعت وأفلتت كل هذه الصفقات التي جعلت العالم العربي في عصر السلام أكثر سلاحا مما كان في عصر الحرب. وعلى سبيل المثال، فإن نفقات العرب على الأسلحة في عشرين سنة من "عصر السلام"، زادت أربعمائة مرة عما كانت عليه في "عصر الحرب".

8 ـ وتوافق ذلك مع ثورة في تكنولوجيا الإعلام ملكت لنفسها القدرة على الوصول إلى كل ركن قصى وبعيد، وجعلت في مقدور الناس حيث كانوا أن يعرفوا شيئا عما يجري في كوكبهم وكونهم.

توافق ذلك أيضاً مع إمكانية مالية للعرب يستطيعون معها شراء تكنولوجيا الإعلام، واشتروها بالفعل حتى لا يكون اعتمادهم ـ في الداخل ـ كله على تكنولوجيا السلاح. لكن التكنولوجيا كما نعرف وسائل إلى غايات، فإذا ضاعت الغايات تواضعت الوسائل من تحقيق المطلوب إلى تزييفه. وشيء من ذلك وقع بتكلفة باهظة. ذلك أنه بمقدار ما أخذ العرب من تكنولوجيا العصر بمقدار ما زاد تنائيهم عن روح هذا العصر ووعده.

9 ـ وفي وسط هذا الزحام والتصادم بين الحقائق والأوهام، وبين الوسائل والغايات، وبين الآمال والأسلحة ـ وقع خلط شديد بين الشرعية والسلطة، وبين روح القانون وصناعة القانون، وبين الرأسمالية المنشئة والنهب المنظم، وبين الإعلام والإعلان، وبين الدين والدجل، وبين الإرهاب الطائش والعنف الذي يستمد وقوده من الإحساس بالظلم والعجز عن رده.

وكانت النهاية أن الأمة وقفت أمام خيار متعسف مؤداه أن الذين يعترضون على الأمر الواقع بما فيه السلام غير المتوازن مع إسرائيل، ليس أمامهم إلاّ أن يواجهوا المستقبل المظلم تحت حكم التطرف الديني.

وإذا لم يبرئوا أنفسهم بقبول كل شيء بما فيه ذلك السلام، فإنهم بالاعتراض متواطئون ـ وإن لم يقصدوا ـ مع قوى الظلام.

10 ـ وأخيرا، طرأت على هذه الصورة لمسة رمادية داكنة. ذلك، أن البحث عن مستقبل للعالم العربي تنازعته مؤسسات وهيئات معظمها مموّل من أنابيب ـ هي الأخرى ـ قريبة من السراديب. ويبقى أنه من الصعب علينا ـ في كل الظروف ـ أن نتصور مستقبلا أفضل للأمة تساعد في التفتيش عنه منح أو معونات أجنبية.

وأكثر أو أسوأ من ذلك، فإننا نجد الآن اتفاقيات معونة أمريكية مخصصة لإعادة تأهيل الإدارة العليا لوظائف الدولة. كما نجد اتفاقيات معونة أمريكية مخصصة لإعادة تدريب أعضاء مجالس نيابية عربية حتى يفهموا أكثر كيف يستطيعون القيام بمهامهم التشريعية والرقابية!

إن مجمل هذه الأوضاع أدى إلى تشوهات جعلت العالم العربي مزيجا غريبا من جمهوريات الموز (في أمريكا الوسطى)، وسلطنات النفط (في شبه الجزيرة العربية)، وإمبراطوريات "بوكاسا" و"موبوتو" و"عيدي أمين" (في قلب أفريقيا)!

وربما كانت أدق لقطة لهذه الصورة المقبضة هي ذلك التعبير الذي صاح به شاعر مبدع "محمود درويش" حين قال: إنه "انتحار المعنى" في العالم العربي!

والتعبير إلى جانب إلهام الشعر، نبض ضمير.

إن "انتحار المعنى" أدى إلى مشاهد مأساوية:

* خمسة عشر عاما مما سمى بـ : "الحرب الأهلية" في لبنان. ولم تكن هذه الحرب أهلية فقط، وإنما كانت حربا عربية ـ عربية، وعربية ـ دولية، وقعت على أرض لبنان، واقتصت ضرائبها من أرواح وثروات شعبه.

* حرب مقدسة جهاداً في سبيل الإسلام في أفغانستان ما زالت تحتدم حتى الآن. ولم تكن الحرب يقيناً في سبيل الإسلام لأن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ليست مكلفة بالجهاد لنصرته، لكنها كانت حربا بإشراف أمريكي وتمويل عربي (10 بليون دولار)، وهدفها إحراج الاتحاد السوفيتي وغرس الخنجر في ظهره. وقد كان. ولعل مكسب العرب فيها إذا جاز وصفه بالمكسب أن آلافا من الشباب العرب أرسلوا إليها جنودا للإسلام مقاتلين، ثم عادوا منها ليقفوا أمام المحاكم العسكرية في أوطانهم إرهابيين!

* حرب في الخليج بين إيران والعراق دامت ثماني سنوات. وحتى إذا كانت لهذه الحرب بذور فتنة تأريخية، فإن الفتنة التأريخية أعيد توظيفها لإحداث قطيعة نهائية بين الحالة الإسلامية والحالة القومية. وتحمس أصحاب المصلحة في التوظيف فباعوا السلاح إلى الجانبين، وقدموا المعلومات هنا وهناك لكي تستمر الحرب وبحيث لا يخرج منها منتصر ومهزوم، وإنما يخرج طرفان كلاهما مهزوم. وكانت أدوات التوظيف عربية.

* ثم تلت ذلك عملية غزو الكويت بدعوى وحدة التراب العراقي. وكانت العملية خطأ في كل القواعد، ابتداء من قواعد العرف القومي وضوابطه التي تفرضها أسباب التأريخ القريب وتجاربه، وانتهاء بقواعد الحساب الدولي ومنافعه التي ترسم خطوطها حتى على الرمال. وبصرف النظر عن كل الأخطاء التي وقعت بذلك الغزو فإن أجواءه أحدثت انفلاقاً في الكيان العربي الذي كان متصدعا من قبلها. والأسوأ في "انتحار المعنى"، أن حلا عربيا كان ممكنا لهذه الأخطاء في الحسابات وفي المضاعفات، لكن هذا الحل الممكن تحوّل إلى مستحيل لأن القوى المسيطرة كانت لديها أولوياتها وطلباتها.

* وجاءت بعد ذلك حرب الخليج الثانية ـ هدفها تحرير الكويت. ولم يكن ذلك هدفا وحيداً، وإنما الهدف قبله تدمير العراق، وبخاصة ما سمح له به وقت الحرب مع الثورة الإسلامية. وكانت تصفية القوة العراقية مطلبا إسرائيليا بالدرجة الأولى، ومن سوء الحظ أنه تحوّل مطلبا عربياً كذلك.

* وسواء أدرك العرب أو غفلوا، فإن الحرب لتحرير الكويت، أو لتدمير العراق، أنشأت تحالفا على الأرض بين العرب وإسرائيل، وأصبح مطلوباً من الطرفين تقنين هذا التحالف وإبرامه في تعاقد بينهما، سواء هرولوا أو تثاقلوا.

وذهب العرب إلى حيث دعوا وذريعتهم في الأستجابة أن الذي دعا ـ وألح ـ نظام عالمي جديد ليس في مقدور أحد أن يعصاه أو يتردد في الاستجابة له إذا نادى وأمر.

* * *