في مدريد، وعلى مسرح مهيب شارك التاريخ والفن في تهيئة وإعداد أرضيته وخلفيته، وتولى الإعلام الدولي مهمة تلوينه وإضاءته، وتكفلت الولايات المتحدة بعملية تنظيمه وإدارته ـ كان المعنى يواصل انتحاره.

* لقد توجه العرب إلى مؤتمر مدريد في كنف راعيين. ومن الإفتتاحية الأولى تأكد أن للمؤتمر راعيا واحداً هي الولايات المتحدة الأمريكية. وأما الراعي الثاني فلم يظهر له دور أو لعل ما ظهر من وجوده جعله قطعة من خلفية أو أرضية المسرح أو ربما أثاثه.

وكان هذا هو المشهد الإفتتاحي بعد رفع الستار.

* وكان المشهد الثاني أن كل العرب شاركوا في الظهور على المسرح، وسواء وقفوا في الصف الأول أو في الصف الأخير فقد جمعهم مع إسرائيل إطار واحد في صورة واحدة تعطي للعالم كله انطباع حلول سلام لم يتبق منه إلاّ توقيعات وأختام.

* وكان المشهد الثالث أنه طُلب من المشاركين أن يفرقوا بين نوعين من السلام:

ـ سلام سياسي له علاقة بالتأريخ ومخلفاته، ورفع هذه المخلفات يحتاج إلى وقت.

ـ وسلام اقتصادي له علاقة بالمستقبل ومتطلباته، والحصول على جوائزه متاع وسريع.

وبالتالي، فإنه بعد مدريد لا بد لمجري السلام أن ينفصل إلى فرعين نتيجة للتفرقة بين نوعين.

ومع أن البعض حاول أن يعترض على هذه التفرقة التعسفية باستحالة الفصل بين السياسة والاقتصاد، فإن منطق الفصل جرى اعتماده في مدريد قفزا فوق الحقائق والضرورات، وحتى طبائع الأمور.

* وكان المشهد الرابع هو ضخ سحابات من الدخان تنعكس عليها أنوار المسرح توحي بظهور شيء وُصف بأنه "نظام جديد للشرق الأوسط".

وقد استعملت تشبيه الدخان عامدا لأن قيام نظام للشرق الأوسط مطلب يصعب الإمساك به، فقيام "نظام" ـ بالمعنى الذي يفترضه هذا التعبير ـ لا بد أن تتوافر له عناصر ضرورية: عنصر مصالح على الأقل لا تتعارض. وعنصر أمن على الأقل لا يتصادم. وعنصر ثقافة إذا لم تكن مشتركة فعلى الأقل متصلة.

بمعنى أن أي تجمع، فضلاً عن أي نظام، يحتاج إلى طرق اقتراب قابلة للتلاقي عند ما هو أعمق من مجرد مبادلات السلع والخدمات في مجالات "السوق".

ومن الغريب، أنه حتى في "السوق" ذاته يشترط الأطراف والمنظمون ألاّ يكون التعامل مجرد تبادل للسلع والخدمات، وإنما تصل شروطهم إلى أبعد. والدليل حالة تركيا مع السوق الأوروبية المشتركة. فدول أوروبا المسيحية لا تريد في سوقها شريكا كاملا ينتمي إلى جذر ثقافي إسلامي، مع أن فرع هذا الجذر خرج من وقت طويل يمد أغصانه في اتجاه النجم القطبي في الشمال مبتعدا عن شمس الجنوب، مصمما على أن مستقبله في أوروبا حتى وإن كان تاريخه في آسيا وفي الشرق.

برغم ذلك، كان العرب على استعداد للاندفاع على طرق ما بعد مدريد، وبدوا قابلين لمنطق الفصل بين السلام الاقتصادي المسرع والسلام السياسي المتمهل. ثم أحاطهم دخان النظام الشرق أوسطي دون وعي بأن الأساس المطلوب لقيام "نظام" ليست له على الطبيعة قواعد يعلو فوقها بناؤه، وأن ما هم بصدده ليس سلاما بالتأكيد بسبب احتكار طرف واحد للسلاح النووي، وليس سوقاً على الأغلب بسبب الغياب الواضح للعناصر المطلوبة للثقة في السوق، وإنما هي ترتيبات جديدة تستدعيها أوضاع متغيرة.

ثم زادت مأساوية "انتحار المعنى" عندما انتقلت القضية الفلسطينية التي كان يقال عنها وبحق إنها قضية العرب المركزية، من مشهد الانتفاضة الجليل في غزة ومدن الضفة الغربية إلى المشهد المتواضع للإعلان الأول في أوسلو والاتفاق التالي على أساسه في واشنطن.

مع ملاحظة أن هذا الانتقال المفاجئ أو السري من غزة إلى أوسلو ـ بصرف النظر عن الانهيارات التي أدت إليه ـ حقق لإسرائيل شرعية قانونية لوجودها لم تكن لها في أي وقت منذ إنشائها بالسلاح سنة 1948. فالسلاح يستطيع أن ينتزع حقا ـ أو شيئاً ـ من أصحابه، لكن انتزاع هذا الحق ـ أو الشيء ـ وحيازته مهما طال الزمن تظل شرعية مشكوكا فيها حتى يجيء اعتراف أصحاب الحق ـ أو الشيء ـ الأصليين بانتقال ملكيته إلى حائزيه. وبذلك وحده يتحوّل الاغتصاب إلى اتفاق له حصانة القانون إلى جانب ضمانة السلاح!

* * *

إن "انتحار المعنى". على طول الطريق من مدريد إلى أوسلو أظهر تغييراً كبيراً في الموقف الأمريكي من الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وبمقتضاه، فإن الولايات المتحدة التي كانت راعية إسرائيل وسندها أصبحت راعية العرب أيضاً في مدريد، وسند الفلسطينيين كذلك في أوسلو.

وكان ذلك ـ بالقطع ـ تغييرا يحتاج إلى تفسير. وجنح بعض العرب إلى تفسيره بأن الولايات المتحدة رأت وجه الحق في قضيتهم وإن كانت الرؤية اكتشافا بغير مقدمات. والحقيقة أنه كانت هناك مقدمات، لكنها مقدمات لا تخص العرب، وإنما تخص الانتقال من عصر الحرب الباردة إلى عصر آخر بعدها، ثم إنها تتعلق بدور إسرائيل في المنطقة مع هذا الانتقال من عصر إلى عصر.

وعندما راح المعنى ينتحر في العالم العربي لم يكن غير العرب أكثر حرصا على عالمهم من أصحابه، وقد راحوا يساعدونه فيما شرع فيه وهمّ به. واتخذت مساعدتهم أحد أسلوبين:

ـ أسلوب يعتمد "التدليس" يزوّق ويزيّن ويثير الصخب والضجيج حول ما يراد الترويج له من سياسات.

ـ وأسلوب يعتمد "الاجتراء" يمشي نحو مقاصده مباشرة واثقا أن الآخرين "يعرفون أنه يعرف" ما يكفيه لضمان قبولهم.

وتلك إحدى عواقب الانكشاف والاختراق والتعرض للابتزاز.

وكان بعض العرب قد ساورتهم الشكوك بعد مؤتمر مدريد. ذلك، أن سرعة التدفق على الفرع الاقتصادي مع تعطل الحركة على الفرع السياسي للسلام، استدعت حالة تخوّف وقلق وصلت آثارها ـ برغم التحوّط والحذر ـ إلى دوائر الرأي العام حتى في البلاد العربية التي مشت بعيدا على شوط السلام السياسي، وبدأت بعض النظم تستشعر الحرج وتحس ضغط جماهيرها عليها، وأصبح مطلوبا تخليص هذه النظم من حجم الضغوط.

وجرى التوصل إلى اختراع أطلق عليه وصف "مؤتمرات القمة الاقتصادية": أولها في الرباط أواخر سنة 1994 . والثاني في عمان أواخر سنة 1995. والثالث موعده القاهرة أواخر سنة 1996.

لم تكن تلك أصلا وأساسا " مؤتمرات قمة" بالمعنى المألوف لهذا الوصف، وإنما كانت هذه اجتماعات موسعة ترتبها وتنظمها وتشرف عليها شركات علاقات عامة دولية، والهدف منها تحرير التطبيع من موانع وقيود السياسة، وتأكيد الفصل بين نوعين من السلام عند مواقع التطبيق بصرف النظر عن مواقع القرار.

وساد الساحة العربية التباس شديد شمل كل الأطراف بغير استثناء:

* فريق يعارض التطبيع ويحذر ـ بإخلاص ـ من الهيمنة الإسرائيلية على الشرق الأوسط، ويجيء الرد عليه ـ وبقدر من المعقولية ـ أن الحديث عن هيمنة إسرائيلية فيه الكثير من المبالغة، فإسرائيل كمّا وكيفا لا تستطيع أن تهيمن لأن ذلك فوق طاقتها.

[والراجح أن الحقيقة الموضوعية في هذا الشأن ـ كما هي في غيره ـ مزيج ألوان أكثر تعقيداً من الأبيض والأسود، بمعنى أنه إذا كان فصل الاقتصاد عن السياسة منزلق وعر وخطر، فإن الحديث عن هيمنة إسرائيلية على الشرق الأوسط تسرع ومبالغة. والأقرب ـ ربما ـ إلى الحقيقة أن الدور الإسرائيلي ليس دور "المهيمن " ولكنه دور "المتعهد".

وذلك دور قامت إسرائيل به من قبل في زمن الحرب، وبمقتضاه ظلت لسنوات طويلة وكيل الأمن وحارسه من مفاجآت الإقليم وعصبيته.

وهي الآن جاهزة لبقية الدور في زمن السلام، وتستطيع لسنوات طويلة أن تتولى تدوير عجلة المصالح وتسريع حركتها.]

* كان الفريق الثاني على الساحة العربية هو مؤيدي التطبيع بلا قيد أو شرط، على اعتبار أن الزمن الحاضر هو عصر المصالح القائمة، وأما مشاكل السياسة فهي تركة عصر فات.

وكان "شيمون بيريز" هو الأوضح والأصرح حين شرح لبعض الزعماء العرب تقسيم الاختصاص بينه وبين خصمه وسلفه "إسحاق رابين".

قال "بيريز" بالحرف تقريبا، وقوله مسجل في محاضر رسمية:

"رابين في اختصاصه المسائل السياسية وهي معلقات من التاريخ.

وأما أنا، فاختصاصي هو التطبيع الاقتصادي وهو أمل المستقبل".

وكان مؤيدو التطبيع على استعداد لمجاراة "بيريز" وغض الطرف عن كل قضية سياسية حتى وإن كانت القدس. ومن المفارقات أن قرار الكونجرس بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس صدر قبل ساعات من قمة عمان، وكان يلقي بظلاله عليها ـ لكن مؤيدي التطبيع أزاحوا الظلال جانبا بقولهم: إن الرئيس كلينتون "كان منصفا للعرب" ولم يضع توقيعه على قرار الكونجرس. وفات هؤلاء حتى لو اكتفوا بمتابعة الصحافة الأمريكية أن يعرفوا أن القرار صدر بتنسيق بين البيت الأبيض والكونجرس، وكان رجاء "كلينتون" ألاّ يقيده الكونجرس بموقف حدّى يسد أمامه طرق المناورة، ووقع التراضي على صيغة تترك للرئيس خيار تأجيل التنفيذ ستة شهور قابلة للتجديد إذا وجد ذلك في صالح الأمن القومي الأمريكي.

ولم يكن "كلينتون" في حالة إلى تعرية أصدقائه العرب بوضع توقيعه على قرار الكونجرس، فالقرار قانون نافذ بمقتضى الدستور الأمريكي إذا لم يعترض عليه الرئيس في ظرف ثلاثين يوما، وقد مضت هذه الفترة بغير اعتراض.

* وكان هناك فريق ثالث على الساحة العربية عاودته الحيرة فيما يريد ولا يريد، وفيما يستطيع ولا يستطيع. فذلك الفريق سار على طريق السلام السياسي لكنه يتخوف من سرعة الجرى على طريق السلام الاقتصادي.

وقد شارك في "مؤتمرات القمة الاقتصادية" ـ كما يسمونها ـ وارتأى أن يطرح عليها ـ ولو خارج جدول الأعمال ـ أسبابا للقلق ساورته.

ومن هذا القلق طرح هذا الفريق الثالث في الرباط قضية انفراد إسرائيل في المنطقة بالأسلحة النووية، وكان الرد عليه أنها بالفعل خارج جدول الأعمال!

وفي عمان، عاد هذا الفريق الثالث إلى إبداء قلقه خصوصا وأن القدس ألقت بظلها بعد صدور قرار الكونجرس بنقل السفارة الأمريكية إليها من تل أبيب. ولم يكن الرد على هذا الفريق الثالث بإخراج الموضوع من جدول الأعمال فقط، وإنما جاء الرد صراحة من رئيس الوزراء وقتها" إسحاق رابين" الذي وقف يقول: "إنني قادم إلى هنا من القدس عاصمة إسرائيل الموحدة والأبدية". ثم أعقبه "شيمون بيريز" ـ رئيس الوزراء الحالي ـ الذي أضاف مستفزا للتاريخ وللمستقبل: " إن القدس ليست مسألة مفتوحة لأي نقاش لا اليوم ولا غدا"، ثم خرج يتمشى في شوارع عمان ويجلس على أحد مقاهيها ويدخن "النارجيلة".

وتدخل وزير خارجية مصر يلفت النظر إلى مخاطر ما سمى بـ : "الهرولة" نحو التطبيع، وكان ملك الأردن هو الذي تولى الرد عليه مذكرا "أن مصر سبقت كل العرب إلى السلام مع إسرائيل قبل سبعة عشر عاما، وأن على الآخرين أن يركضوا ـ لا أن يهرولوا فقط حتى يعوضوا الوقت الضائع!

ومن المفارقات أن وزير خارجية مصر لم يكن متجاوزا في ملاحظته، وفي الوقت نفسه، فإن ملك الأردن لم يكن مخطئا.

وذلك التناقض في تقييم العبارات المختلفة أثناء موقف واحد يصلح أن يكون تصويرا حيا لمأساة "انتحار المعنى"!

* * *

أما عن الأسلوب الثاني الذي جرى اعتماده وهو أسلوب "الاجتراء" فبين نماذجه أن الولايات المتحدة الأمريكية أعطت نفسها دور المسؤول العالمي عن حقوق الإنسان. وهذه قضية نبيلة، لكن نبلها يفرض على القائم بمسؤوليتها أن يتجرد من أهوائه، وأن يشهد حين يشهد وينطق حين ينطق بالحق ولا شيء غيره، بصرف النظر عن الموضع الذي ينزل عليه سيف هذا الحق.

لكن ما يحدث هو أن التقارير الأمريكية عن حقوق الإنسان تُستعمل كما تُستعمل السياط. تجلد المخالفين، أو ترهب المترددين، وتسوق الجميع أمامها إلى حيث يُطلب منهم أن ينساقوا. وأما الموالين والمتعاونين فإن السياط لا تمسهم، وإن ظلت فرقعة ألسنتها في الهواء تنبههم وتذكرهم.

وقد لا أكون متجنيا إذا قلت إن الولايات المتحدة تستعمل القضية النبيلة لحقوق الإنسان في التسعينات بنفس الطريقة التي استعمل بها الاتحاد السوفيتي قضية السلام في الخمسينات والستينات.

مبادئ نبيلة في خدمة سياسات يصعب وصفها بالنبل.

إن "انتحار المعنى" وجد طريقه حتى إلى قواميس اللغة يعيد كتابة مداخلها ويعطيها مفردات يتناقض فيها اللفظ مع المعنى. ولكن أن تراجعوا تعبيرات من نوع: "السلام العادل والشامل" (بغير سلام أو عدل أو شمول) ـ و"الشرعية الدولية" (وهي إشارة إلى القوة دون اعتبار لقانون أو مبدأ) ـ و" التسوية السلمية" (بمعنى الاتصال والتفاوض طبقا لحقائق فرضها السلاح). ولم يقتصر الأمر في هذا التناقض على ما يخص العلاقة مع الآخرين، وإنما انسحب على مفردات خطابنا مع أنفسنا بتعبيرات من نوع "إعادة جدولة الديون" (بدلا من إشهار الإفلاس) ـ و"تحريك الأسعار" (بدلا من رفعها) ـ و"الثوابت الوطنية والقومية" (دون ثبات على أي مبدأ).

* * *

حضرات السيدات والسادة

تلاحظون أنني أطلت الحديث عن الأزمة جذورها ومضاعفاتها، أعراضها وظواهرها، ولكني لم أتناول بعد حديث المستقبل ـ أعني كيف يمكن حل الأزمة العربية الراهنة؟

وأخشى أن أصدم السامعين، والقارئين، إذا قلت صراحة إنني:

أولا ـ لا أرى حلا سهلا أو قريبا أو طبيعيا للأزمة لأن تعقيداتها تجاوزت بكثير ما قد يطرح نفسه من بدائل يصح الاختيار بينها.

وثانيا ـ لا أرى حلا عربيا شاملا لهذه الأزمة لأن العالم العربي لم يعد منطقة أزمة عامة، وإنما أصبح منطقة أزمات مختلفة، متعددة وربما متباعدة!

سوف أستأذنكم في أن أبدأ بتناول ما قلته ـ أولا ـ من أنني لا أرى حلا سهلا أو قريبا أو طبيعياً للأزمة العربية.

وأستدرك مشيراً إلى ثلاث ملاحظات:

* إنني لا أتصور أن نتصدى للمستقبل بلغة إصدار الأوامر إليه واستعمال تعبيرات من نوع "إنه من الواجب" و"إنه من الضروري" و"إنه من الحتمي" أن نفعل كذا وكذا، فنحن نستطيع أن نذكر ونكرر مثل هذه التعبيرات إلى آخر الزمان دون أن يغير ذلك من الواقع شيئا.

* إنني لا أعتقد مناسبا فيما يشغلنا الآن بجدوى الإشارة إلى الآماني التي تخطر على البال من نوع: أن الحل موصول باتجاهنا إلى الديمقراطية، وتمسكنا بحقوق الإنسان، وانطلاقنا نحو التنمية الشاملة للبشر والموارد، واهتمامنا بتنظيم الأسرة والتعليم والصحة، إلى آخره.

فهذه جميعا شروط مرغوب فيها ومطلوبة، لكن الإلحاح عليها تحصيل حاصل.

* إننا في الحديث عن المستقبل مطالبون ـ فيما أحسب ـ بتجنب تقليد القصص العلمي وعوالم السفر بين النجوم بالصواريخ وفي أعماق المحيطات بالغواصات، وما شابه ذلك، لأن الخيال المطلوب للسياسة ليس خيال الفضاء والأعماق، ولكنه الخيال على الأرض ملازما للناس باحثا عن أمن الأوطان والأمم ورفاهية شعوبها.

* * *

على أني سوف أفترض ـ برغم كل ما وقع وكان ـ أن طريق الحل ما زال مفتوحا، ثم أتساءل في ظل هذا الافتراض: كيف التوجه نحوه؟ كيف التقدم إلى المستقبل؟

وهنا يكون أمامنا أن نفحص مجموعة الاحتمالات الواردة أو التي يمكن أن ترد من محيط معارفنا وتجاربنا.

* هناك احتمال أعرضه بسرعة لأن التوقف أمامه طويلا نوع من التنازل المسبق عن الفعل الإرادي. وذلك احتمال يظن أصحابه أن مسيرة العصر في حد ذاتها قادرة على شد كل الأطراف وراءها. وبما أن هذه المسيرة متحركة بأقصى سرعة إلى أمام، فليس هناك مفر من أن تسحبنا معها خصوصا وأننا هناك جنوب البحر الأبيض على مقربة من كل محركات العصر نرى صروحها ونسمع هديرها.

وأسمح لنفسي بأن أقول إن جذب العصر يؤثر على العرب في حالة واحدة، هي أن يكونوا مستعدين للحاق به وإن متعبين، لكنه إذا زادت قوة اندفاع العصر إلى أمام ولم يكن العرب على استعداد، فإن العصر لن يشدهم للتقدم معه أو وراءه، وإنما الأرجح أن يتحوّل الشد إلى سحل!

* هل يمكن أن يجيء الحل من التصور الطبيعي للأوضاع الراهنة في أي بلد عربي؟ ـ وأكاد أقول إن ذلك فوق ما تحتمله الحقائق، بل إنه من الصعب عليّ أن أرى مستقبلاً يولد من الواقع العربي الراهن أو ينشأ على اتصال به. ولولا أنني أدرك أنه لا يمكن للمستقبل أن يولد أو ينشأ في حالة قطيعة مع الحاضر، لقلت إن هذه القطيعة مع الحاضر شرط ضروري لسلامة وصحة أي مستقبل. لكن ذلك مستحيل من ناحية عملية وحتى من ناحية فلسفية.

فالواضح أننا في معظم بلدان العالم العربي أمام نظم أضاعت سندها الشرعي ولم تعثر على مشروعاتها المستقبلية، وقصارى ما فعلته معظم هذه النظم ـ وما زالت تفعله بعض مجاراة العصر ـ قيامها بخصخصة بعض الشركات في مقابل تأميم كل السلطات.

وتزداد صعوبة المشكلة عندما نجد أنه لا يوجد أمام أي نظام عربي داخل وطنه منافس له مشروعه البديل، سواء كان ذلك المنافس حزباً أو جماعة أو تنظيما من أي نوع. والأصعب، أنه لم تظهر حتى الآن في أي مجتمع عربي فكرة لها جاذبية النفاذ إلى الناس والربط بينهم بجامع مشترك ولو في الفكر.

كذلك فإنه لا يوجد لمعظم الأنظمة وريث معتمد يملك شرعية الاستمرار في حد ذاته، على فرض أن هناك شرعية للاستمرار في حد ذاته.

والحاصل أن الأوضاع العربية الراهنة باقية في مكانها متمسكة بموقعها، متمترسة وراء قواتها المسلحة تتخذ منها ـ جيشا أو بوليسا ـ جدارا يحمي ويصد أي تهديد محتمل من الناس أو من الأفكار.

* هل يمكن أن يجيء الحل من الدعوة التي تعلو أحيانا مستجيرة بما يسمى "العمل العربي المشترك"؟ وأكاد أقول إن التنادي إلى مثل ذلك ـ وفي أحسن الأحوال ـ أشبه ما يكون بـ "التأوّه" أو بـ "الدعاء" يصدر عن مريض أو متألم يخفف به عن نفسه أو يعزيها، لكنه يعرف أن "آهته" أو "ضراعته" ليست تشخيصا وليست علاجاً.

وإذا كانت الجامعة العربية هي مجال العمل العربي المشترك، فالمشهود أمامنا أن بيت العرب أصبح من نوع تلك القصور العتيقة المسكونة، يدخل إليه الناس بالخطأ ويخرجون منه بالهرب.

وتحاول بعض النوايا الحسنة أن تعلل أسباب القصور بمستوى اللقاءات العربية في السنوات الأخيرة، وظنها أن اللقاء على مستوى القمة يستطيع وحده إنقاذ الموقف. والواضح أن القمم العربية ليست قادرة على إنقاذ أي شيء، بل إن اجتماعها في يوم قريب من شبه المستحيلات. وسبب الاستحالة ليس خلافا في المبادئ أو تباينا في الرؤى، وإنما سببه الحقيقي أن الكل يعرف عن الكل أكثر مما ينبغي. ثم إن هناك ـ كما يقول التعبير الإنجليزي الشائع ـ "هياكل عظيمة مخبأة في الدواليب"!

* هل يمكن أن يجيء الحل من رجل تبعث به المقادير منقذا ومخلّصا في ساعة أزمة، من طراز "ديجول" مثلا؟

واعتقادي أن أوان الرجل المخلّص ـ فات. ثم إن الظروف اللازمة لإظهار دوره وإنضاجه ليست قائمة. فـ "ديجول" ـ بصرف النظر عن مزاياه ـ ظهر ونضج في إطار تحالف دولي كبير خاض حربا شبه مقدسة، وقد وجد صديقا بريطانيا من نوع "تشرشل" على استعداد لأن يتجاهل الحقائق الموضوعية في سبيل العثور على رمز فرنسي يقف إلى جانبه بعد نجاح الجيوش النازية في اجتياح أوروبا الغربية كلها تقريبا.

يضاف إلى ذلك ـ ما أشرت له سابقا، من أن "ديجول" أدى دوره على مسرح كانت فرنسا أرضيته وخلفيته. وبرغم ذلك فإن "ديجول" في ظهوره الأول لم يكن مقبولا من الفرنسيين، ولم يمهد له قبولهم إلاّ طول بقائه ـ من سنة 1940 إلى 1944 ـ رمزا للإرادة الفرنسية حتى جاء يوم التحرير واستطاع "ديجول" بإصرار غير عادي أن يحوّل الرمز إلى إرادة فعل. ومع ذلك فإنه في ظرف شهور معدودة كانت فرنسا قد أرغمت رمز إرادتها السابق على الاعتزال ثماني سنوات، نافرة من احتمال أن يتحوّل إلى ظاهرة "بونابرتية".

وقد نتذكر أن "ديجول" مارس دوره قبل عصر الثورة التكنولوجية وما أحدثته في وسائل الإعلام. ولو أن "ديجول" عاصر سطوة القنوات الفضائية لاستطاع الإعلام الأمريكي ـ مع كراهية الرئيس الأمريكي "فرانكلين ديلانو روزفلت" الشديدة للزعيم الفرنسي ـ أن يجعله مادة للسخرية أو هدفاً للكراهية.

وفي العالم العربي كما هو الآن، فإنه من الصعب تصور ظهور مفاجئ لرجل واحد إلاّ من داخل إطار الجيوش. ومؤدى ذلك أن الظاهرة "البونابرتية" المحتملة: عسكري لم تلده الثورة الفرنسية ولم تقم بتربيته حضانات الرقى الفكري والحضاري في أوروبا بعد عصور التنوير والنهضة.

* وأخيرا: هل يمكن أن يجيء الحل من إعادة ضخ فكرة القومية العربية إلى الدورة الدموية للجسم العربي مرة أخرى؟ وظني أن الإلحاح على الفكرة القومية الآن تزيّد في غير موضعه لأن ظاهر الأمور ـ بصرف النظر عن حقائقها ـ يفسح المجال لشكوك لا تبددها كثرة الإلحاح.

كانت الفكرة القومية مرفوعة على أربعة قوائم: إنها ثقافة واحدة، وإنه تاريخ واحد، وإنه أمن واحد، وهو بعد ذلك مصير واحد. والقوائم الأربعة الآن معطلة على أقل تقدير!

والظاهر ـ على السطح هذه الساعة ـ أن المصير لم يعد واحدا بعد "كامب دافيد"، وبعد الحرب الأهلية في لبنان، وبعد غزو الكويت، وبعد تدمير العراق.

والظاهر أيضاً أن الأمن لم يعد واحدا، فقد كان الأمن العربي حتى وقت قريب يواجه خطرين: السيطرة الخارجية، وإسرائيل. والآن فإن السيطرة الخارجية أصبحت منقذا حاميا. ثم إن إسرائيل انتقلت من قائمة الأعداء إلى قائمة الأصدقاء خصوصا بعد اتفاقيتي أوسلو الأولى وملحقها الثاني في واشنطن بحضور الرئيس "كلينتون". ثم تطهرت الصداقة بالدموع التي سالت دافئة أمام قبر "إسحاق رابين" في القدس.

والظاهر كذلك، أن التاريخ الواحد يمكن أن يتحوّل عن مجراه لأن اختلاف الرؤى يمكن أن يؤدي إلى اختلاف الطرق في الغد وما بعده.

والظاهر أخيرا، أن الثقافة لم تعد واحدة، لأن وسائل العصر التي تعودنا عليها وروح العصر التي لم نستوعبها ـ أخذتنا من الثقافة عموما ـ عربية أو غير عربية ـ إلى أسلوب حياة تزداد سطوته يوما بعد يوم. واساليب الحياة مسألة سوق وسعر، في حين أن الثقافة مسألة قيمة وفكر.

أي أن ظاهر الحال ـ وهو مجال الرؤية المتاح ـ ينبئ بأنه ليس هناك حل عربي للأزمة لأن الأوضاع في العالم العربي تغيّرت بشدة. ذلك أنه بعد الهزات والاهتزازات التي وقعت من منتصف السبعينات إلى بداية التسعينات ـ فإن المجرى الرئيسي العربي يتحوّل إلى فروع يشرد كل منها في اتجاه يكاد يفقد اتصاله بالمجرى الرئيسي موجة بعد موجة!

* * *

والحاصل أنه حتى سنة 1974 كان يمكن أن يقال إن هناك تيارا رئيسيا عربيا يتدفق عليه تأريخ وحركة هذه الأمة في العصر الحديث، لكنه منذ ذلك الوقت تبدلت معالم الطرق وانقلبت قواعد السير فيها، وزادت حوادث التصادم. ولم يقع التصادم في حاضر الأمة وحده، بل إن حاضر الأمة راح يتشاجر ويتعارك مع ماضيها كما لو أنه يتمنى أن يعثر على ذرائع قديمة لخطايا جديدة. ومع أن النظر إلى الماضي ونقده ضروري، فإن الشجار والعراك معه عقيم، وإنما يلحق الأذى بضمير الأمة وهو خلاصة تجربتها، وبأعصاب الأمة وهي محرك إرادتها، وذلك يؤدي إلى نوع من الغيبوبة والشلل تستحيل معه الاستجابة للدواعي المستقبلية. ومثل هذا يحدث للعالم العربي الذي تتبلد حركته ويتعطل جهازه العصبي، وتتحوّل كتلته إلى شظايا أو مساحات أرض متفرقة بين الصخر والرمل والبحر أشبه ما تكون بجزر متباعدة، أو أقاليم مختلفة:

1 ـ إقليم شبه الجزيرة العربية: وهو يضم ما يعرف الآن بمجموعة دول الخليج زائدا عليها اليمن.

2 ـ إقليم شمال أفريقيا: من تونس إلى الدار البيضاء.

3 ـ إقليم الهلال الخصيب: وفيه سوريا والعراق والأردن ولبنان وفلسطين ـ أو إسرائيل بحكم الواقع والواقعية.

4 ـ إقليم مصر ـ والسودان ـ وربما ليبيا التي تتجاذبها المصائر بين مشرق العالم العربي ومغربه.

ويظن بعض هذه الجزر ـ الأقاليم أنه يعرف طريقه إلى حل وإلى مستقبل، ويظن أنه يعرف وسائله إلى بلوغ هذا الطريق وتحقيق هذا المستقبل.

* إقليم الخليج يتصور أن الصيغة الأمثل لخروجه من الأزمة العربية ولضمان مستقبله هي استمرار فرض المقاطعة على العراق وتشديد الحصار الدولي على إيران، وذلك يتكفل بأعدائه، والباقي موكول أمره إلى الولايات المتحدة تعطي الصكوك الضامنة لأمن الأنظمة وأمن الثروة وأمن الأرض.

ونفس التصور يسري في إقليم شمال إفريقيا، يظن أن حل أزمته والطريق إلى مستقبله هناك على الشاطئ الأوروبي من البحر الأبيض.

ويظن البعض في شبه الجزيرة العربية وفي شمال إفريقيا أن التحالفات والصداقات الدولية ضمان واق من التهديدات الإقليمية والضغوط الداخلية، ومطالب الإصلاح الاجتماعي والسياسي، وعنف التيارات الأصولية، وكذلك من قوة الجذب ورابطة الاتصال بالقلب العربي.

وتتصور بعض دول الخليج كما تتصور بعض دول المغرب العربي أن موازنة قوة الجذب وتعطيل رابطة الاتصال بالقلب العربي مؤكدة بختم إسرائيلي على الصك الأمريكي!

والأرجح أن مثل هذه التصورات مؤدية بهذين الإقليمين إلى أزمات إضافية وليس إلى حلول لأزمات أصلية. ثم إنها معطلة عن المستقبل أكثر مما هي موصلة إليه.

ومهما يكن فهذه السياسات على جانبي العالم العربي ـ شرقه الخليجي ـ وشماله الإفريقي ـ سوف تستكمل مشاويرها لأن التيار الرئيسي في العالم العربي كفّ ـ ولو مؤقتا ـ عن فيضانه، ولم يعد ما بقي من ماء في مجراه قادراً على الوصول والتأثير عند الشواطئ الخليجية أو المغربية!

* * *

* يجيء الدور بعد ذلك على إقليم الهلال الخصيب، وهو الإقليم الذي أشعر بالخطر الشديد عليه، وأخشى أنه الآن مفتوح لخريطة جديدة ترسم له استعداداً للقرن الواحد والعشرين، وفي الأغلب قبل انقضاء الربع الأول من ذلك القرن.

وأستأذنكم في أن أقول ـ وبقدر معقول من الاطمئنان إلى صحة القول بأن الإستراتيجية العليا في إسرائيل تطلق العنان لتصورات تحوم حول مشاريع قد يستهولها بعضنا ويحسبها عصية على التنفيذ.

ولهذه المشاريع مبتدأ وخبر.

** أما المبتدأ فهو أن إسرائيل تتوقع مشاكل مع السلطة الوطنية الفلسطينية عندما يجيء دور المرحلة النهائية من اتفاقية الحكم الذاتي، وحين تطرح القضايا الكبرى مثل القدس واللاجئين والحدود النهائية والاستيطان. وتتوقع إسرائيل أن السلطة سوف تدخل في مواجهة معها، أو تدخل في مواجهة مع شعبها. وفي الحالتين فهي على طريق صدام عنيف لأنه سوف يقع في الغالب على صخرة القدس.

** بين المبتدأ والخبر مسافة تتوقع التصورات الإسرائيلية أنها ستكون سنوات ساخنة تعيش فيها المنطقة حالة فوران يرتد العالم العربي فيها إلى الداخل، خصوصا إذا كانت دائرة التسوية قد استكملت خطها ورسمت دائرتها المقفلة.

وداخل حصار هذه الدائرة المقفلة ومناخها المعبأ بالإحباط، تنتظر التصورات الإسرائيلية أن يزداد الاحتكاك بين المجتمعات العربية والسلطات الحاكمة فيها، وبين الفقراء والأغنياء، مما يترتب عليه صعود في قوة التيارات المتمردة، سواء بالأصولية الدينية أو بالمستحقات الاجتماعية أو غيرها من مولدات الرفض.

** ثم يجيء الخبر في هذه المشاريع ويتمثل في إغراء واحد من الملوك الهاشميين (في غد قريب أو غد تال له) بعرش في العراق بعد الخلاص من النظام القائم فيه الآن.

وإذا أمكن ذلك، فإن هذا الملك ـ في ظن إسرائيل ـ قد يصبح في وضع أفضل للتعامل مع الفلسطينيين في الأردن، ومن ثم يصبح لهم ـ وهم أغلبية بين سكانه ـ كيان فيدرالي متحد في إطار مملكة هاشمية أردنية ـ عراقية. وتذكرون أن ذلك المشروع لمملكة هاشمية سبقت تجربته وبموافقة إسرائيلية سنة 1958، وكان ذلك في مواجهة وحدة مصر وسوريا في إطار الجمهورية العربية المتحدة ذلك الوقت.

وإذا تساءلنا عن الجديد الذي يعيد الطرح القديم وإن في إطار مختلف؟

فالرد أن الجديد هو حل مشكلة العراق، وحل مشكلة الطموح الفلسطيني إلى مجال أرحب.

والعودة إلى مثل هذا الطرح من جديد تفترض أنه إذا أصبح الفلسطينيون شركاء في اتحاد أكثر اتساعا، فإن عرب إسرائيل ـ وعددهم الآن يقارب المليون (وهم أكثر غدا وبعد غد) ـ لهم ان يبحثوا لأنفسهم عن موطن هناك في وديان دجلة والفرات وما حولهما، وليس في وادي الأردن وما حوله. وتذكرون أن هذه أيضاً ليست فكرة جديدة، وقد سبق أن طرحها "وايزمان" أيام المفاوضات على وعد "بلفور" سنة 1917 !

وبالنسبة للإستراتيجية الإسرائيلية العليا وتصوراتها فإن هناك اعتبارات إضافية تجمل الفكرة وتزينها:

* اعتبار أن مصادر الهجرة اليهودية المحتملة إلى إسرائيل نضبت.

* واعتبار أن نسبة المواليد بين عرب إسرائيل تزيد ثلاث مرات عن نسبة المواليد اليهود، ومعنى هذا أن عشرين سنة قادمة يمكن أن تجعل إسرائيل دولة لقوميتين: يهودية وعربية، وذلك يفسد النقاء اليهودي المطلوب للدولة العبرية!

* وأخيراً ... اعتبار ألا يظل داخل دولة إسرائيل عنصر له وزن بشري تتصل هويته بما وراءها، وقد يضعف أمام مؤثرات تصل إليه من خارج حدودها.

ووفق هذه الخريطة ـ المتصورة ـ فإنه على هذا النحو:

ـ تكون الدولة العبرية قد أخذت كامل التراب الفلسطيني.

ـ ويكون السلام بالأمر الواقع قد احتوى العراق ووصل إلى حدود إيران.

ـ وربما يكون النظام الإسلامي وقتها قد انزاح عن إيران وحل محله وضع فارسي مغلق يمكن لإسرائيل أن تصادقه، كما حدث ذات يوم بالأمس القريب.

ـ وربما، أيضاً، تسمح الظروف ـ ولو في جزء من شمال العراق مؤقتا ـ بقيام دولة كردية تظن إسرائيل أنها تستطيع التعامل معها!

ـ خريطة جديدة بهذا الشكل تصبح ضغطاً محسوسا على دول الخليج يحجز جنوب شبه الجزيرة العربية عن شماله في الهلال الخصيب!

ـ وخريطة بهذه الخطوط يمكن لها أن تحتوي الكثير من حقول النفط أو تقترب منها، كما تحتوي بعضا من خطوط موانئ وأنابيب نقله أو تقترب منها.

ـ وكذلك فإن مؤدى هذه الخطوط يصل إلى تطويق سوريا وإحكام الحصار حولها، ومن ثم يصبح مستقبلها هي نفسها قضية مطروحة للبحث.

إن الذين كانوا يستهولون مشروع "شارون" الشهير عن تهجير عرب إسرائيل كلهم إلى خارج فلسطين، كان تقديرهم في ذلك الوقت: أن موازين القوة في الإقليم مضافة إلى ما تبقى من الضمير العالمي ـ لا تحتمل فكرة هذا النقل الجماعي للسكان. لكنه يفوتهم بين متغيرات الظروف أن العالم أصبح مهيأ أكثر مما كان لعمليات تطهير أو تبديل عرقي جرت في أوروبا نفسها ـ وليس فقط في إفريقيا ـ ففي يوجوسلافيا السابقة وخلال السنوات الخمس الأخيرة جرى خلع جذور أربعة ملايين من البشر، وليس مليونا واحدا أو مليونين في بدايات القرن الواحد والعشرين.

يزيد على ذلك، أن موازين القوة في الإقليم لم تعد رادعا، ولعلها أصبحت دافعا.

وربما نلاحظ أن معضلة يوجوسلافيا أصبحت شبه مهيأة لحل أمريكي هو في الواقع حل أوروبي، وهو في الأصل صربي كرواتي ـ وذلك بعد أن تم بالفعل، وبالدم والنار، عملية التطهير العرقي والتبديل السكاني على خريطة الدولة اليوجوسلافية السابقة!

وتظن مدرسة جديدة من مدارس التفكير الإستراتيجي أنه إذا أريد إيجاد نوع من الانضباط المطلوب، فإن بعض المناطق المعطوبة من سلالات القرن العشرين قد تنفعها الجراحة مرة واحدة بدلا من جرعات العقاقير التي يتكاسل مفعولها في زمن أصبحت فيه أشعة الليزر قادرة على لمس سطح القمر موجهة من سطح الأرض ـ في ثانية واحدة.

[ إن بعضنا يستطيع في هذا الصدد أن يستفيد من تقارير عدد من مراقبي الأمم المتحدة في يوجوسلافيا السابقة، فهي حافلة بروايات تحكي أن جهات أمريكية رسمية ومسؤولة رصدت وتابعت عملية قتل ثمانية آلاف رجل وصبي من مسلمي البوسنة في محمية "سربرنتسيا"، وسكتت وانتظرت لأن تصفية محميات الأمم المتحدة كانت مطلوبة لتنقية الخريطة من بقع سكانية لا لزوم لها حتى تتهيأ هذه الخريطة لحل أمريكي.

كذلك، تقول هذه التقارير إن الجيش الكرواتي سُمح له أمريكيا باحتلال منطقة "كرايينا" لإزالة محمية أخرى، وأن ذلك تم بمشورة عسكرية أمريكية قدمها الجنرال "كارل فونو" رئيس أركان الجيش الأمريكي السابق ومجموعة من مستشاريه. وكانت تلك أيضاً تهيئة جراحية لدبلوماسية الحل الأمريكي.

إن أحد مراقبي الأمم المتحدة أنهى تقريره عن ذلك كله بقوله: "إن هذه السياسات كان من شأنها أن تجعل وجه ماكيافيللي نفسه يلتهب من حمرة الخجل".]

ومع ذلك، فإنه لو تذكر بعضنا كيف تحوّل المشروع الصهيوني خلال القرن العشرين، من حلم "هرتزل" إلى وعد "بلفور"، ومن قرار التقسيم في نيويورك إلى موائد التفاوض في مدريد ـ لتنبهوا إلى أن القرن الواحد والعشرين قد يجعل المستحيل ممكنا، بقدر ما أن القرن العشرين جعل الأسطورة واقعا!

إن إسرائيل عندما يحين الوقت للتسوية النهائية لا تريد أن تجد مسلمين ومسيحيين في الأندلس العربية، ولا تريد مسلمين وصربا في البوسنة الفلسطينية، ولا تريد وطنا ثنائيا من "الفلمنك" و"الوالون" في بلجيكا الإسرائيلية ـ وإنما تريد دولة واحدة ودينا واحداً يوفر أرضية ثقافية واحدة، ويومها، وليس قبل هذا اليوم، سوف يصدر قانون بالجنسية الإسرائيلية التي لم يصدر بها قانون حتى هذه اللحظة!

* * *