الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

علي عزت بيغوفتش

الرئيس البوسني علي عزت يودع كرسي الرئاسـة

بعد حياة حافلة بالنضال والإنجازات

سراييفو: عبدالباقي خليفة

في مقابلة تلفازية بثها التلفاز البوسني، وقف الرئيس المفكّر أمام شعبه ليبلغه قراره التاريخي، ليُضاف إلى بقية قراراته التاريخية، بدءاً بحمله قضية المسلمين في يوغسلافيا على عاتقه طيلة حياته الحافلة بالنضال، مروراً بتحقيق دولة ديمقراطية تتوافر فيها الحريات، للجميع دون استثناء، وانتهاء بإعلان الابتعاد عن المهام السياسية في 12 أكتوبر القادم لأسباب كثيرة منها تقدم سنه، حيث سيبلغ في هذا الشهر (أغسطس 2000م) 75 عاماً.

حياة حافلة : منذ فترة شبابه، انضم الرئيس علي عزت إلى جمعية الشباب المسلم، وتعرض إلى محاكمات عدة أشهرها محاكمة 1972م، ومحاكمة 1983م، مع اثني عشر شخصاً بتهمة مناهضة الشيوعية، والعمل على إقامة دولة إسلامية من خلال الأساس النظري والطرح الفكري الذي جاء في "البيان الإسلامي" الذي كتبه الرئيس علي عزت سنة 1970م، وفي 14 مارس 1984م، صدر الحكم على المناضل الإسلامي علي عزت بالسجن لمدة تسع سنوات، لم تفت في إقدام المفكّر العملاق على المضي قدماً من أجل ترسيخ قيم الإيمان والجهاد، كما جاء في "البيان" الذي توقع فيه تغير حال العالم الإسلامي نحو "الأسلمة" بعد مراحل من التبعية والإخفاقات السياسية والهزائم والنكبات، والتجارب المختلفة، متهماً القوى الدولية بالانتهازية واستغلال الوضع السائد لتحقيق أهدافها بوسائل مختلفة لتأمين هيمنتها على المسلمين، وإبقائهم في قاع التخلف والتبعية للغرب، ويقول علي عزت في "البيان": إن ما نناضل من أجله هو إخراج المسلمين من دائرة التخلف والفقر والاعتماد على الآخرين، وإن جذور الجهاد لا تزال حية، لقد مضت قوافل الشهداء وهي تقاتل الجاهلية، نريد بخطوات واثقة أن نقف على بداية طريق العودة إلى سيادة أنفسنا ومستقبلنا.

هل حقق علي عزت أهدافه؟

على المستويات الثلاثة القريبة والمتوسطة والبعيدة، حقق علي عزت الأسس الثابتة لتحقيق أهدافه الاستراتيجية التي عمل من أجلها طيلة حياته، فما من رجل واحد يمكنه أن يحقق الأهداف الموضوعية لأمة ما وحده أو في زمنه.

على المستوى القريب: خاض الرئيس علي عزت جهاداً استمر عقوداً من الزمن توج بقتال دام أربع سنوات، أفرز من جديد دولة البوسنة والهرسك، بعد قرون من الذوبان، ومحاولة حصر المسلمين في ثنائية لغوية هي "الصربوكرواتية" وثنائية جغرافية هي "كرواتيا الكبرى"، و"صربيا الكبرى"، وفرض ثقافة أحادية هي الوجودية الأوروبية بمسوحها النصرانية.

لقد استطاع علي عزت خوض معركة البقاء بجدارة وحقق أسس هذا البقاء، في دولة مستقلة بأكثرية إسلامية تتوافر فيها "الديمقراطية" والحريات الدينية.

إن الدولة التي أسسها علي عزت ليست الدولة الإسلامية التي حلم بها الروّاد بمن فيهم الرئيس علي عزت، ولكنها الدولة التي يستطيع الروّاد أن يؤسسوا فيها للقاعدة الصلبة.

المستوى المنظور: نشاهد اليوم في البوسنة قيام مدارس إسلامية متقدمة يدرس فيها جميع العلوم واللغات الحية في مقدمتها اللغة العربية مع جرعة كبيرة من التربية الإسلامية، وانتشار حركة بناء المساجد في المدن والقرى البوسنية بشكل لم يسبق له مثيل، وكلها ستؤتي أكلها رغم كل المساعي الجبارة التي تبذل من أجل إغراق البوسنة في وحل الرذيلة الغربية وجعل البوسنة نسخة طبق الأصل من مجتمعات لا خلاق لها.

وعلى المستوى السياسي نرى توسعاً في الحكومة المركزية التي أصبحت تضم 6 وزارات بدلاً من ثلاث وزارات سابقاً، وتكوين جيش موحد بدلاً من "جيش فيدرالي وجيش صربي" وسيكون قوام هذا الجيش خمسة عشر ألف جندي، 7 آلاف مسلم وخمسة آلاف صربي، وثلاثة آلاف كرواتي، وسيبسط هذا الجيش نفوذه على الحدود البوسنية وخاصة المتاخمة لكرواتيا وصربيا.

وعلى المستوى الاقتصادي: أرسى علي عزت أسس اقتصاد بديل وحر لإدارة الأزمات في ساعة العسرة، ووضع يده على أهم المؤسسات لضمان استمرارية مشروعه الحضاري بطرق شرعية لا يستطيع أحد الطعن فيها قانونياً لأن الأموال وصلت بطرق شرعية عن طريق التبرع الشخصي وليست أموال دولية أو أموال دافعي الضرائب، وليست أموال العائدات من المواد الخام أو غيرها.

ولم يترك علي عزت الحكم إلا بعد أن اطمأن على الحدود الجنوبية، فكرواتيا الفاشية قد ماتت مع "توجمان"، أما صربيا فهي كما توقع لها علي عزت أصبحت مسرحاً للفوضى والانحطاط السياسي والاقتصادي، فالجبل الأسود سيكون الشعرة التي ستقسم ظهر ميلوسوفيتش بعد أثقال كرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا والبوسنة والهرسك وكوسوفا، أما "قوقودينا" فستسلم على طبق من ذهب إلى المجر.

ورغم هذه الخطوات المهمة والتي ستنعكس إيجاباً على مستقبل البوسنة والهرسك، إلا أن عودة المهجّرين تمثل عقبة في وجه السلام، فأعداد العائدين لم تزد على بضعة آلاف ومازال هناك عشرات الآلاف ممنوعين من العودة، مما جعل مناطق مثل بريدور وقوتشا وبالي، ضمن القائمة السوداء لدى "الأمم المتحدة"، بسبب استمرار الصرب في رفض عودة المسلمين إلى ديارهم، وتلك قضية يتكفل بها الزمن، وهي من النقاط المركزية التي حرص علي عزت على تثبيتها في اتفاقية دايتون "21 نوفمبر 1992م".

على المستوى البعيد: من النقاط الاستراتيجية، بل القضايا التي يحرص ويعمل من أجل تحقيقها الرئيس علي عزت توثيق العلاقات بين المسلمين في البوسنة والهرسك وإخوانهم في العالم، وقد أسهمت محنة المسلمين في البوسنة في تعاظم التعاطف الإسلامي مع المسلمين في البوسنة.

لقد فعل علي عزت الكثير، وكرّس حياته لخدمة شعبه وأمته، وعلينا جميعاً النسج على منواله