الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

لا تعمّموا ثقافة الهزيمة

ناجي صفا

جريدة السفير (لبنان)

الثلاثاء، 21 أيار / مايو 2002

     دهشتُ وأنا اقرأ مقالة “نعم هُزمنا في هذه الجولة” للصديق صقر أبو فخر، ذلك ان الاستنتاج الميكانيكي وتجاهل السياق التاريخي العام للحدث، أوقع الكاتب في مغالطات منهجية أدت بدورها الى مغالطات في التحليل والاستنتاج، واستطرادا، فإن اقتصار المنهج التحليلي للواقع السياسي الراهن على نتائج عملية “السور الواقي” الميدانية جعل الكاتب يقع في المغالطات التي خلص الى إرسائها كمسلمات بديهية وجب اعتمادها والبناء عليها في عملية صياغة المستقبل. 

ان هذه المسلمات الخاطئة، المنطلقة من محاكمة ميكانيكية مقطوعة الجذور عن محاكاة التاريخ، لم تأخذ بعين الاعتبار سلسلة الإحباطات وخيبات الأمل والفشل التراكمي التي أدت مجتمعة الى النتائج التدميرية الماثلة أمامنا. وهنا لا بد من تسجيل الملاحظات التالية: 

أولا: صحيح اننا أصبنا بخسائر فادحة، ومكابر من ينكر ذلك، الا أننا لم نهزم، ولم نفقد الأمل في اعادة صياغة الواقع السياسي الميداني بما يتلاءم مع متطلبات المرحلة المقبلة نظرا لأهميتها وخطورتها. 

ثانيا: انه من غير الممكن لأي تحليل ان يستقيم ما لم يأخذ بعين الاعتبار رؤية وإرادة الشعب الفلسطيني التي عبر عنها عدد من القيادات السياسية والشعبية في الداخل، ومفادها ان الارادة الفلسطينية لم تنكسر، وان ما كان يصبو اليه ارييل شارون من عملية “السور الواقي” لم يتحقق. 

ثالثا: ان النقاش الذي شهدته المؤسسات السياسية والعسكرية الاسرائيلية، وما كشفته الصحافة عن مدى الخسائر التي منيت بها المؤسسة العسكرية على المستويين العسكري والأخلاقي، كذلك المحاولات المستميتة التي بذلتها هذه المؤسسات لإلغاء لجنة تقصي الحقائق، (على هشاشة دورها وما يمكن ان يسفر عنها)، ان في ذلك ما يؤشر على ان العدو نفسه لم يذهب الى المستوى الذي ذهب اليه المقال، وكان يجب أخذه بعين الاعتبار في عملية استخلاص النتائج. 

رابعا: صحيح ان الانتفاضة ضُربت وأُوجعت، انما لم تُسحق، وما العمليات التي حصلت خلال وعقب عملية السور الواقي إلا اجابة صارخة بأن الانتفاضة لم تهزم وانها ما زالت حية ترزق. 

خامسا: ان تسفيه العمل النضالي بالقول “ان الكلام الذي كان يهر من الأفواه عن قدرة الانتفاضة على تحقيق النصر ودحر الاحتلال كان هذرا وثرثرة” غير مقبول، لأنه يبشر بحالة يأس وينظر له، كمن يؤسس لثقافة الهزيمة. 

سادسا: ان الدعوة الموجهة للنخب العربية والفلسطينية المناضلة “للشروع في جهد جماعي لابتداع رؤية جديدة” دعوة جيدة نحترمها، شرط ان تكون محكومة بهدف تصويب المسيرة، وسد الثغرات، وإرساء منهج يقوم على رؤية تحليلية ثورية سليمة، وليس الانطلاق من وقائع الهزيمة وتعميم منطقها. 

سابعا: صحيح ان إسرائيل كسبت الموقف السياسي الأميركي، كما ذكر المقال، الا ان ذلك ليس جديدا ولا يشكل مفاجأة، ذلك ان أهم مرتكزين في الاستراتيجية الاميركية في المنطقة هما تأمين استمرار تدفق النفط بأسعار مقبولة، وضمان أمن وتفوق اسرائيل، وفي هذه الحالة لا يكون الموقف السياسي الاميركي كسبا سياسيا جديدا. 

ثامنا: صحيح ايضا انه تم تهشيم الانتفاضة، كما ذكر المقال، انما الصحيح ايضا انه لا يمكن بأي حال من الاحوال تهميشها، لأن الانتفاضة تشكل انعكاسا موضوعيا لحركة المجتمع الفلسطيني المقاوم، والا فما هي الفائدة من قراءة التاريخ وحتمياته. 

لقد أعادت الانتفاضة المسألة الفلسطينية الى مداها العربي والعالمي، بعد وهم دام سنوات بإمكانية سحب هذه المسألة من مداها الطبيعي، ومع إدراكنا وإقرارنا بأن الوضع بحاجة الى اصلاح، لكنه غير ميؤوس منه، وان حركة الشارع العربي الذي استعاد انفاسه في كل انحاء الوطن العربي، انما هي حركة مبشرة، ورغم كونها ما تزال عفوية ووجدانية وبحاجة الى منهجة ومأسسة، الا انها أثبتت ان القضية الفلسطينية ما زالت تحتل الوجدان العربي. كما انها استطاعت اكتساب حركة الشارع العالمي الذي تفاعل معها وأكسبها ملامح نهوض دولي، تجلى ذلك بالمظاهرات التي شهدها العالم، وبحركة النشطاء الذين عرّضوا حياتهم للخطر في مقر الرئيس الفلسطيني وكنيسة المهد. 

ومما لا شك فيه انه عندما نشخص الداء يسهل ايجاد الدواء، ولعل الداء نعرفه جميعا بما في ذلك كاتب المقال، الذي أظنه أكثر معرفة منا بالداء ومكامنه، فلا يمكن ان تستقيم الامور ما لم تكسر تلك الحلقة الجهنمية المشكّلة من اولئك الوزراء المتكالبين على مغانم ومكاسب رخيصة، وأولئك الذين بنوا أوهاما أودت بهم الى نسج وبناء عدد من المصالح الذاتية مع العدو الاسرائيلي. بالإضافة الى أولئك الذين تحولوا اثناء العمليات الإسرائيلية الى نجوم تلفزيونية تحتل الشاشات وتتحرك “بحصانة” اسرائيلية. ازاء ذلك يصبح من الواجب دعم وتفعيل دور الكوادر الوسطيين والميدانيين الذين أثبتوا جدارة في ادارة عمليات الصراع وتمسكوا بالثوابت. 

ان ادارة عملية النقاش حول مدى نجاح او فشل الانتفاضة يجب ان لا تتم بمعزل عن النتائج التراكمية التي أنتجتها داخل الكيان الصهيوني، سواء لجهة الأمن المفقود، او الاقتصاد المنهار، او الصناعة المضروبة، او المؤسسات الإنتاجية التي أقفلت، او السياحة (التي تمثل 17% من الدخل القومي) شبه المنتهية، او الهجرة المعاكسة، وبداية تفكك النسيج الاجتماعي للمجتمع الصهيوني. وما النقاش الدائر الآن داخل المؤسسة العسكرية والسياسية حول مخاطر استكمال عملية السور الواقي باتجاه غزة، والخسائر المحتملة التي يعجز الكيان الصهيوني ومؤسسته العسكرية عن تحملها، على حد قول جنرالاته وساسته، الا الإجابة على مدى قوة وأهمية الانتفاضة. 

أخيرا: ان حوارا واسعا ومعمقا مع المفكرين، والكوادر النشطاء، والمثقفين، والناشطين من هيئات المجتمع المدني بات مطلوبا اليوم قبل الغد من أجل إرساء استراتيجية عمل واضحة لمستقبل واضح.

 

 

 

الصفحة الرئيسية