الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

 

التذكير بمذبحة حماة


(…)لم يظهر الأسد أدنى قدر من الاكتراث السياسي حين احتاج إلى التعامل مع العصيان المسلح، فقد قامت حركة الإخوان المسلمين السنية بسلسلة عمليات هجومية بالقنابل ضد الأبنية الحكومية وباغتيال شخصيات في النظام، وظهرت مطالبهم في ملصقات في الشوارع، وطالبت جماعة العلماء في حلب بالالتزام بالشريعة الإسلامية في جميع التشريعات، وبإنـهاء حالة الطوارئ في سورية، وبإطلاق سراح المعتقلين، وإعادة أساتذة الجامعات الذين فقدوا وظائفهم بسبب آرائهم السياسية، وبإنـهاء الدعاية المضللة، وبالحرية الكاملة.

وقد اتـهم المسؤولون السوريون إسرائيل أو الكتائب، أو هما معاً؛ بالوقوف وراء هذه الجماعة، على الرغم من أن أسلحة صودرت في حلب ظهر أنـها جاءت عبر الحدود التركية - حيث كانت ميليشيا الذئاب (الرمادية) التابعة لألب أرسلان توركيش تطالب بأن تتبنى حكومة أنقرة الشريعة الإسلامية - فحدثت اعتقالات واسعة في حلب وحماة، اللتين تعتبران تاريخياً المدينتين الحرونين بين المدن السورية.

حماة مدينة قديمة جذابة على نـهر العاصي، تبعد (120) ميلاً عن بيروت، وقد حافظ أهلها المسلمون السنيون باهتمام شديد عبر القرون على سورها القديم ونواعيرها ذات الأنين ، وكانت العائلات المحلية تقضي عطلة نـهاية الأسبوع متنـزهة على ضفاف العاصي، يبردون البطيخ الضخم في مائه، بينما النواعير الخشبية تئن على محاورها المعدنية. لقد زرت هذه المدينة ست مرات على الأقل في العامين الماضيين، أتناول الغداء أحياناً على ضفة النهر مراقباً أطفال حماه وهم يتسلقون النواعير، ويصعدون عبر شفراتـها ثم يلقون بأنفسهم في النهر.

وكما هو الحال بالنسبة لكثير من القرى والمدن خارج الحدود اللبنانية؛ فإن مظهر حماه يبدو خداعاً، فعندما قضيت ليلة في خريف 1981 في فندق المدينة الوحيد القذر ذي الممرات الإسمنتية الذي تقدم فيه خمر بلون ونكهة البرافين (تثير الغثيان)؛ كانت أصوات الطلقات النارية المتتالية من الأسلحة الرشاشة تقطع ساعات الظلام. وفي زيارة لي إلى بيت ثلاثة أصدقاء مرعوبين من موظفي الإغاثة، اثنان استراليان وآخر هندي - أكدت إشاعة شعبية في دمشق بأن حماه في وضع قريب من الثورة ضد نظام الأسد البعثي، حيث إن عدداً من كبار أعضاء حزب البعث قتلوا في بيوتـهم، وبعضهم - وليس جميعهم - علويون، وفي بعض الحالات قتلت زوجاتـهم وأطفالهم معهم.

بدأت العملية من قبل (500 )جندي من سرايا الدفاع وعدد كبير من عناصر المخابرات، بحصار حي البارودية القديم على الضفة الغربية لنهر العاصي، حيث يعيش متدينو أهل حماه في حارات ضيقة، وأزقة مغطاة بالعرائش، والضفة الشرقية للعاصي الأكثر حداثة هي مكان للسوق والدوائر الحكومية وهي دائماً أقل إثارة للمشاكل.

عندما دخل الضباط حي البارودية كانوا يحملون معهم على ما يبدو قوائم بأسماء وعناوين المشتبه بـهم (من مسلحي) لم يتجاوزوا الاسم الأول. وطبقاً لدبلوماسيين غربيين في دمشق؛ فإن الإخوان المسلمين المختبئين في البارودية، أحسوا أن النظام سيبطش بـهم، ولذلك فإنـهم وضعوا عناصر استطلاع فوق سقوف الحي، وعندما توغل جنود النظام أكثر فأكثر داخل الأزقة قرع جرس فانـهال عليهم الإخوان بنيران الرشاشات الذين اختلط بـهتاف: الله أكبر، وفي الوقت نفسه أقامت جماعة أخرى حاجزاً على الجسر الموصل بين ضفتي العاصي الغربية والشرقية لقطع الإمدادات عن القوة التي توغلت في الحي، وكذلك هوجمت سرايا الدفاع في الحي الموازي، وعند الفجر كانت قوات النظام جميعها قد أجبرت على الانسحاب تحمل معها قتلاها.

انتشر الخبر بسرعة خلال مكبرات الصوت في المآذن بأن البارودية قد صمدت، وحماه قد تحررت، وكانت نكسة لنظام الأسد.

ظن الإخوان المسلمون أن الوقت قد حان للقتل، فترددت الدعوة للجهاد ضد أسد وحزب البعث خلال حماه كلها، عندما بزغ فجر 2 شباط كان آلاف من قوات النظام قد هرعوا إلى حماه، وأمر اللواء 47 المعسكر خارج المدينة أن يدخلها، وفي صباح اليوم نفسه دعا قائد الإخوان: الشيخ أديب الكيلاني رجاله للخروج من تحت الأرض، وأن يمتشقوا أسلحتهم وبنادقهم من تحت فرشهم، وأماكن اختفائهم، ويطردوا النظام الكافر من حماه ومن السلطة أيضاً، وطبقاً لرواية الإخوان المسلمين فإن الكيلاني كان يأمل بإعلان عصيان وطني عام، وأخبر رجاله بأنه من الأفضل أن يموتوا شهداء على مذبح الإسلام من أن يترقبوا السجن، والتعذيب، وأحكام الإعدام. وللمرة الأولى منذ بدأ الصدام بين الإخوان المسلمين ونظام أسد؛ كانت هناك معارك وجهاً لوجه في وضح النهار، وكلا الطرفين أدرك أن الرابح سيأخذ كل شيء.

أمسك الإخوان فعلاً بزمام المبادرة، بمساعدة شباب الأحياء العلمانية الذين همشهم النظام نتيجة للضربات السابقة في حماه، فهاجموا مواقع سرايا الدفاع حول المدينة، ونصبوا متاريسهم من الصخور والنفايات، ورددوا هذا الإعلان من مكبرات المساجد مرة بعد مرة: أيها المواطنون، هبوا واطردوا الكفرة من حماه. وبعد ذلك بدأوا مذبحتهم الصغيرة، فطبقاً لدبلوماسيين غربيين في دمشق؛ فإن جماعة من الإخوان جابوا شوارع المدينة ينهبون مستودعات الأسلحة المحلية وأقسام الشرطة، ثم اندفعوا إلى بيوت بعض قياديي حزب البعث، وأطلق الرصاص على خمسين على الأقل من الموظفين الحكوميين والحزبيين الرصاص وهم نائمون، أو في غرف النوم، أو طعنوا بالسكاكين حتى الموت، ورجال المخابرات الذين قادهم سوء حظهم إلى أحياء بالخطأ أخرجوا من سياراتـهم وقتلوا على الأرصفة من قبل عصابات من الشبان كانوا يجوبون الشوارع.

وانتقاماً لذلك فإن قوات رفعت الأسد الخاصة ومخبري المخابرات العاملين في هذه القوات كانوا يقتلون ويعذبون ويهينون عدداً كبيراً من أهل حماه يتهمونـهم بالتآمر مع الإخوان المسلمين. واستهدف هؤلاء الأطباء والمهندسين، فقد ضرب نائب مدير مصنع الصلب المحلي في الشارع من قبل القوات الخاصة، وكذلك وجد رجل يقال له الشيشكلي - كان يُظَنُّ بأنه شخصية مهمة من الإخوان - مقتولاً في ساحة مهملة خارج حماه، وكان قد اقتلعت عيناه ، وأحرق وجهه بالأسيد. وقبل ستة أسابيع، كان أحد عشر شخصاً قد أُطلق عليهم الرصاص من الخلف على ضفة العاصي، وقد أخبر ثلاثة من الأجانب بأن مئتي حكم بالإعدام قد نفذت منذ عيد الفصح السابق، وهناك 10 آلاف مسيحي من مجموع سكان حماه البالغ حوالي 100 ألف قد عانوا أيضاً على أيدي قوات رفعت الأسد، وفي حالات كثيرة كان القتلى أقرباء للمطلوبين، فإذا فر أحد من الإخوان، فإن أباه أو أخاه يقتل، وواحد من ضباط رفعت الأسد - وهو عقيد ولد بالقرب من حماه - ظهر اشمئزازه مما كان يقوم به فنقل إلى وحدات الجيش السوري العاملة في لبنان، وبعد أسبوع من نقله اغتيل مع مجموعة من زملائه في القسم الغربي من بيروت، فقد كانت ذراع الإخوان طويلـة.

ومع أن الإخوان مسلمون سنيون، فقد كان مثلهم الأعلى الثورة الإيرانية(1) وعندما تجولت في الشوارع صباح يوم من خريف 1981 كان رجال مخابرات مسلحون بكثافة يمزقون ملصقات ألصقت في الجدران في الليل، وكل منها كان موقعاً من قيادة الثورة الإسلامية في سورية، وتزعم بأن سلسلة من الهجمات قد نفذت من قبل مقاتلي الإخوان ضد أبنية حكومية في دمشق، منها مبنى الآمرية، ومبنى مخابرات القوى الجوية، ومبنى المخابرات العسكرية، ومبنى المخابرات الروسية، ومركز قيادة سرايا الدفاع، والقوات الخاصة، وبعض مراكز التحقيق والمخابرات. وقد ادعت الملصقات التي يبدأ كل منها بالبسملة، أن تلك الهجمات موجهة إلى مجرمي النظام فقط، لذلك كان رد فعل نظام الأسد الوحشي فيما بعد رد فعل الخائـف.

عندما انفجر العصيان في حماه في شباط 1982 قطعت الحكومة السورية مباشرة خطوط الهاتف والمواصلات عن المدينة، وكان ممكناً للصحفيين الأجانب أن يسافروا إلى دمشق حيث يجدون الحكومة السورية وقد اكتشفت فائدة اتـهام أعدائها بتهمة الإرهاب، ولكنهم أخبروا بأن من يحاول منهم زيارة حماه فسيعرض نفسه لخطر محقق، وأن الحكومة لن تضمن سلامتهم إذا هم حاولوا الذهاب إلى المدينة، مما عد وكأنه تـهديد أكثر منه نصيحة من أصدقاء، فمن المؤكد أن قوات رفعت الأسد لن تعامل الصحفيين بلطف.

وبالمصادفة فقد كان اثنان إيرلنديان من أصدقائي يعيشان في حلب في تلك الأثناء، وفي 17 شباط أخذت سيارة أجرة متجهاً إلى حلب، وأنا على علم أكيد بأن طريق حلب يمر من حماه وبالتأكيد فإن أجنبياً مسافراً إلى أقصى شمال البلاد من النادر أن يعتقل لمجرد أن حماه تقع في طريقه. وفي الرحلة إلى حلب؛ أمر البوليس السائق أن يتحول إلى تحويلة طويلة حول حماه، ولذلك فلم يكن أدنى سبب يدعو إلى الظن بأنني سأكون أكثر نجاحاً في مهمتي عند عودتي في اليوم التالي، إن موظفي السفارات الغربية في دمشق وبخاصة المشهورة منها والتي تعتبر مصادرها موثوقة، كانوا يتحدثون عن آلاف القتلى في حماه بعد أسبوعين من القتال حيث لا زال لما يسمح للصحفيين أن يذهبوا إلى هناك، وكان من غير الممكن لأي أجنبي أن يأخذ طريقه داخل المدينة.

في صباح اليوم التالي، وعلى الطريق الرئيسي إلى دمشق، وعلى بعد 12 ميلاً من حماه، أصبح من الممكن رؤية دخان متصاعد في الأفق، وسحابة داكنة بمساحة أميال مربعة تلف المدينة. وأمامنا في الطريق المنحدر أشار شرطي إلى السيارة بالوقوف، ثم أمرنا بالتحول هذه المرة إلى طريق يأخذنا إلى شرقي المدينة، وعند ذاك اقترب جنديان من السيارة، ثم نظرا إلي، ثم سألا السائق ما إذا كان يقبل أن يأخذهما إلى وحدتـهما في حماه؟ فنظر السائق إلي فقلت: خذهما إلى حماه، فقد تعلمت في لبنان منذ زمن طويل أنه إذا كان في سيارتك جندي سوري فإنك تستطيع أن تذهب إلى حيث لا يستطيع أحد أن يذهب. كان الجنديان يافعين، ربما لا أكثر من 18 عاماً، وكانا غير سعيدين لرجوعهما من الإجازة فقال أحدهما: القتال لازال مستمراً منذ ستة عشر يوماً، وليس هناك ما يدل على أنه سينتهي. كلاهما كانا يدخنان بشراهة، ويشعلان السيكارة من أختها، اقتربنا من المدينة، كان هناك بنايات حديثة غير متضررة، يجلس جنود في ممراتـها وفي الطرق المؤدية إليها، بعضهم يغلون الشاي على مواقد الكاز، سألني الجنديان: من أين أنت؟ أجبت: من إنكلترا. أجابا: من إنكلترا جيد! أنا معتاد على مثل هذا السؤال من قبل،لم أقل: إنني صحفي، لكن ألم يشعر هذان الفتيان بحرج اصطحاب رجل إنكليزي إلى داخل المدينة المعزولة عن العالم = حماه؟! طبعاً لم يشعرا بذلك لأنـهما هما اللذان دعوانا إلى ذلك. من خلال نافذة السيارة كان يترامى إلينا صوت قصف منخفض مستمر، وحينما سارت السيارة خارج الطريق المؤدي إلى المدينة القديمة أصبح من الممكن رؤية أشجار من الخلف، كانت تحترق منذ وقت غير قصير، ودخان داكن كثيف يتصاعد من جدران الحارات الضيقة خلف نـهر العاصي،كان لا يزال هناك قتال شوارع، لأننا كنا نسمع طلقات بنادق من داخل المدينة، وإلى الجنوب بدت قبة أحد المساجد الرشيقة قد ثقبتها طلقات المدفعية، وأعمدة من الدخان الأبيض يتصاعد من الثغرات.

كان يقف على ضفاف العاصي رتل من الدبابات (ت 62) وهي بعض أسلحة رفعت الآتية من دمشق، وكل دقيقة تقريباً يهتز مدفع واحدة منها، متحركة بجسمها قليلاً إلى الوراء بينما ينطلق أزيز قذيفتها عبر النهر لتنفجر بين الجدران، كان ذاك حيث أمر الجنديان السائق أن يقف، وقفت إلى جانب السيارة ننظر إلى سحب الدخان المتصاعدة من الضفة الأخرى، وكانت تفصل بيننا وبين المدينة القديمة ناعورة تنتصب باعتدال، وقد حطمت القذائف أكثر شفراتـها.

رجع إلينا أحد الجنديين حاملاً أكواباً من الشاي، مصحوباً بعدد من زملائه الذين يرتدون لباساً مرقطاً وردي اللون، لحاهم غير محلوقة، وعيونـهم محمرة من قلة النوم، وعلى مسافة نصف ميل غرباً انفجرت قذيفتان وسط مجموعة أبنية، وبدأت تتصاعد أعمدة من الدخان الداكن من نافذة بيت مدهون باللون الأزرق.

صافح الجنود بعضهم بأيدٍ تعبة، ونظروا إلينا، ثم مشوا نحو دبابة، واضطجعوا بقربـها لأخذ قسط من الراحة.

كانت المخابرات في كل مكان، حتى بجانب أطقم الدبابات يراقبونـهم، ينظرون عبر النهر بنظرات قاسية مهتاجة، ووراءنا مجموعة نساء في ثياب سوداء، عدة منهن منتقبات، ينظرن إلى الدخان بينما لسان صغير من اللهب يزحف فوق سقف، ثم ينطفئ داخل المدينة. بدأ أحد رجال المخابرات ينظر إلينا بتوجس، فأظهرت أنا والسائق عرضاً حاراً للمصافحة مع الجنديين مرة ثانية، وكلم أحدهما رجل المخابرات، ربما أوضح له أن حضورنا كان عرضياً إلى المدينة لإيصالهما فقط.

قال السائق: يجب أن نغادر الآن، كان السائق مسيحياً من دمشق، وقد نمت عنده حاسة خطر مؤلمة خلال اليوم والنصف الماضيين، فلم يكن يحب ذلك الاهتمام الخاص الذي كان يظهره رجل المخابرات تجاهنا، قال بإلحاح: هيا بنا الآن!.

صعدنا إلى السيارة، وسرنا صعوداً راجعين من ضفة النهر، بينما كانت إحدى الدبابات تقصف، جاء شرطي يطلب الركوب، فأمره السائق بالصعود إلى السيارة، ثم فتاة في العشرينات كانت تجري في الطريق أمامنا، تنتطق بمنديل أزرق، وجهها وجه فلاحة، ويداها يدا من يستغيث:"خذوني إلى الخارج" صعدت إلى المقعد الخلفي بجانبي وهي تقول بـهدوء: "خرجت أفتش عن أخي، وبيته تشتعل فيه النيران، لم يكن هناك، ذهبت إلى المقبرة، هناك أكثر من مئة جثة، لكن لم أجده بينها، رحمتك يا رب"!.

كان هناك انفجار آخر ضخم في مدينة الأشباح ارتجت منه الأرض، تبعه لعلعة رصاص كأنه غير حقيقي صدر من أحد شوارع المدينة كما لو أن أحداً قذف بمجموعة من ورق لعب على طاولة خشبية، بدأ الدخان الآن يتصاعد من المبنى مندفعاً إلى الشارع كأنه ضباب قاتم. مسجد آخر، هذه المرة بقبة فضية، أطلقت عليها قذيفة مدفع حطمت غطاءها الخارجي، وتركت أثراً كثيفاً من السواد على بلاطها. امرأة أخرى في السواد أمام السيارة، تحمل طفلاً هذه المرة تستغيث قائلة: (من شان الله) من أجل الله، جلست في الخلف بيني وبين الفتاة، حاملة طفلها الصغير باكياً قذراً على ركبتيها، تفوح من الطفل وأمه رائحة كريهة، كأنـهما لم يغتسلا منذ أكثر من أسبوع، قالت: "أنا هنا منذ أيام، كنت في المقبرة من أجل أهلي، فقد عرضوا الجثث، ليعرفوا من يطلب أو يتعرف على الجثث التي قالوا إنـها جثث مجاهدين، لم أذق طعاماً خلال هذه المدة" تذكرت أن في جيـبي قطعة شوكولاته اشتريتها أمس من دمشق، فأعطيتها للطفل الصغير، فاختطفتها أمه من يده ممزقة الورق عنها، وبدأت تأكل بنهم شديد، وتحرص أن لا يخطف ابنها القطعة من يدها! بدأ الطفل يصرخ. وقفنا عند حاجز ميليشيا الحزب، وكلما مرت بضع دقائق كانت تقف إلى جانبنا سيارة جيب وبـها مجموعة من النساء في الخلف، أخرجن من المدينة بعد أكثر من أسبوعين من القتال، يطلبن الماء فور نزولهن إلى الطريـق.

كانت شدة القتال ظاهرة من كلمات أحد الضباط الذي احتل مكان الشرطي الذي غادر الآن سيارتنا، رجل في منتصف العمر، يبدو على سحنته شحوب الموت، ويجلل الغبار وجهه وكتفيه، جلس في صمت بضع دقائق، بينما كنا نحاول عبور بعض الجادات، كان هناك ثغرات خلفتها قذائف المدفعية في البيوت، مصابيح كهربائية، وزجاج، وصيني.. كل ذلك مبعثر في الشوارع،كان الجندي يلح علينا كل بضعة ثوان بالإسراع في الشوارع التي كانت تلعلع فيها طلقات القناصة.

قال الجندي: "بعض رجالنا عبروا إلى الجهة الأخرى"، ثم سكت دقيقة أخرى،كأنه ينوء تحت ثقل ما يرويه، ثم استأنف: "نحن نقاتل أهلنا، هل تعلم أننا كان علينا أن نقاتل تحت الأرض؟" سحبت أم الولد ذراعي تسأل ما إذا كان لا يزال معي شيء يؤكل، لم يكن معي شيء، طلبت من السائق أن يقف إذا رأى أي طعام معروضاً في أي مكان يمر به.لم يكن هناك شيء من ذلك، ثم استأنف الضابط: "هؤلاء المتعصبون يقاتلوننا في أقبية وأنفاق بصواريخ، وأمس وجدنا مستشفى تحت الأرض، هناك فتيات يقاتلن مع الإخوان، واحدة منهن جرحت ليلة أمس، وعندما ذهبنا للقبض عليها، فجرت بنفسها قنبلة قتلت عشرين من زملائي".

دخل الضابط في الصمت مرة أخرى، لقد بدا وكأننا كنا نحمل عبء هذه المعركة معنا. أصبحت الحواجز كل بضعة مئات من الياردات الآن، محروسة بعصابات من ميليشيا حزب البعث، يرتدون بشكل ينم عن قلة ذوق بنطلونات بيضاء وقمصان ضيقة سوداء، ضابط آخر يطلب الركوب، سأل زميله: لماذا لا يدعوننا نحارب في الجولان بدلاً من هذا؟ الرجلان كانا يعرفان بعضهما، كلاهما بيته في حماه، مر رتل سيارات الإسعاف من التقاطع، كانت أضواؤها الحمراء تلتمع، وكانت تثير وراءها زوبعة غبار على طول الشارع نصف المهدم، وكان هناك دبابات كثيرة ومدافع هاون مقطورة بسيارات، بعض الجنود جلسوا بجانب دباباتـهم مجللين بالعرق والأوساخ، ذراع أحدهم معصوبة بعصابة، وبقعة حمراء داكنة بدأت تظهر من خلالها.

بنيت حماة على مستويين: الأسفل وهو داخل المدينة، على نـهر العاصي، وكان بيد الإخوان المسلمين، والأعلى حيث المباني الحديثة والفلل التي أصابتها بعض قذائف المدفعية الثقيلة والهاون، وهناك طريق يحيط بـهذا القسم الحديث من المدينة، وعندما وصلنا إليه ونحن نقود السيارة بسرعة؛كنا نستطيع أن نرى قليلاً من أعمدة الدخان تتصاعد من شوارع بجانب النهر لبعض ثوان، وصفوفاً من النساء، كلهن تقريباً يرتدين تلك الثياب السوداء الطويلة؛ جالسات بجانب هذا الطريق ينظرن إلى المعركة وكأنـها معركة من معارك القرن التاسع عشر، بعضهن كن يبكين، وبعض يلح على مكان في سيارة، وكان شرطي يحاول تنظيم سير السيارات العسكرية، أو دراجات المراسلين النارية، وناقلات الجنود المصفحة، كل منها يعلوها مدفع رشاش في المقدمة، أو مقطور بـها مدفع، وسحابة قاتمة كانت تظلل سماء حماه عندما اتجهنا خارج المدينة.

كنت - إلى الآن - شاهد العيان الغربي الوحيد لحصار حماه، وهي وإن كانت أسرع زيارة وأقصرها؛ لكنها كانت كافية لتثبت أن القتال كان لا زال مشتعلاً على درجة كبيرة، وتشترك فيه عدة ألوية، وأن عدد الضحايا يجب أن يكون ضخماً، شيء رهيب كان يجري هناك، الحكومة السورية قد تدعي أن القتلى كانوا بالمئات، لكن قدرنا فيما بعد أنـهم كانوا بحدود 10 آلاف، وبعض التقديرات جعلت القتلى بحدود 20 ألفاً، أعلى حتى من مجموع قتلى الغزو الإسرائيلي للبنان بعد شهر.

وحقيقة عندما زرنا حماه في عام 1983 كانت المدينة القديمة، وأسوارها وشوارعها الضيقة، ومتحف قصر العظم قد اختفت كلها، والمشاهد الأثرية القديمة دكت وسويت بالأرض، وأصبحت موقفاً ضخماً للسيارات، وفي دمشق كنت بحاجة إلى تعليق من وزير الإعلام أحمد اسكندر أحمد، الذكي، مدخن السيكار، والعضو الرفيع المستوى في حزب البعث الذي دعا الصحافة العالمية بخبث ومكر إلى دمشق دون أن يعير أدنى اهتمام للسماح لهم بزيارة حماه، حينما كنت متهيئاً للخروج في رحلة العشر دقائق إلى وزارة الإعلام في المزة؛ وقع انفجار مخيف في المبنى، وارتفعت سحابة كثيفة من الدخان في الفضاء فوقه، لقد فجر الإخوان المبنى بطَنٍّ من المتفجرات، أما الوزير اسكندر أحمد فقد نجا بعدة خدوش، ولم يعد من الممكن الوصول إليه في هذه الساعة.

بعد يومين أدان راديو دمشق أكاذيـبي المضللة قائلاً: "لم يسبق لروبرت فيسك أن زار حماه"، ولا علم له إذن عن القتال هناك، وعلى هذا فإن الناس الجائعين، والقصف العشوائي، وتمرد وحدات من الجيش وانضمامها إلى المتمردين.. كل ذلك محض اختلاق أيضاً! ردت التايمز فوراً بأنـها تؤيد روايتي شارحة كيف دخلت المدينة، وعبرت عن دهشتها أن يكون راديو دمشق قد نفى صدق روايتي.

كان السوريون في مزاج معكر (في أسوأ حالاتـهم) ولكن ظهر لي على الرغم من ذلك أنه من الأفضل مواجهتهم ومطالبتهم باعتذار بدلاً من السكوت والخضوع، فاتصلت بمكتب أحمد إسكندر من بيروت وأكدت أنني أريد لقاءه، كانت المفاجأة أن تأشيرة جديدة قد صدرت فوراً، فرجعت لأجد أحمد إسكندر مضمداً من جروح طفيفة، لكنه الآن يجلس في أمان في مكتبه الثاني في مبنى الإذاعة، لقد شكك هو رسمياً بالحقائق التي نقلتها، وإن لم يشكك بأني كنت في المدينة، فسألته: هل تنوي الاستمرار بالادعاء بأنني كذاب؟ فأجاب: أنا لم أقل أبداً إنك كذاب. قلت: لكن الراديو قال ذلك! قال: أنا لم أسمع ذلك، ثم تبسم وعرض علي سيجار هافانا قائلاً: روبرت، روبرت، الأصدقاء فقط هم الذين يجري بينهم هذا النوع من العتاب. كانت الأخت سورية تشرف علينا ضاحكـة!.

ولشهرة النظام السوري بمثل هذه الوحشية؛ فإن أي خلاف بين دمشق ومسيحيي لبنان لابد أن تكون له نتائج عالمية. بعكس ما يحصل بين النظام السوري وبين الإخوان المسلمين الذين يريدون تحكيم الإسلام، فهؤلاء لن يكونوا أصدقاء لأمريكا والأوربيين فيما لو وصلوا إلى السلطة، لذلك فإن موقف الغرب مما يحصل لهم من تنكيل ومذابح لا يتجاوز التعبير عن القلق، أما المسيحيون في لبنان فشيء آخر.

rder="0" cellpadding="0" cellspacing="0" width="100%">
Sat, 28 Sep 2002 19:33:56 GMT -->