الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

عام على ‏أيلول‏‏:

مراجعات الحركة الإسلامية.. من الهرمية إلى الشبكية

12/09/2002

إبراهيم غرايبة

 

ربما تكون الحركة الإسلامية أكثر الأطراف تأثرا بأحداث أيلول، وتبدو الأمور كما لو أنها هي التي ضربت في 11-9-2001، وليس مركز التجارة العالمي في نيويورك، فقد كشفت الأحداث أيضا عن مأزق الحركة الإسلامية المنهجي والتطبيقي والعيوب التي أوقعت نفسها فيها، ووضعتها أمام تجربتها وتاريخها ومواقفها، وجعلت مشروعها موضع تساؤل ومراجعة، وليس مستبعدا أن تمر بتحولات جذرية تغير كل هياكل العمل وأسسه السابقة لدى الحركات الإسلامية، وتنشأ صيغ جديدة للعمل الإسلامي مختلفة عن المؤسسات والبنى الحالية.

نحاول هنا تقدير التفاعلات والتداعيات التي تمر بالحركة الإسلامية، وتؤثر على حاضرها ومستقبلها بعد أحداث أيلول الأمريكية، وتخمن الخريطة القادمة للحركة الإسلامية التي قد نخلص لضرورة تغيير بنيتها لتصبح قائمة على شبكية العمل الإسلامي ومجتمعيته وليس هرميته وتنظيميته بما يسمح بمشاركة حقيقية تحمي وجود هذه الحركات، وتُطوِّر أداءها.

ويفترض الكاتب أن أحداث أيلول كحرب الخليج الثانية، كانت عاملا محرضا لعناصر وأسباب كامنة في الأوضاع الإسلامية، وليست عنصرا أو حدثا أساسيا؛ فهي تشبه ما تبع حرب عام 1967 من انهيار للمشروع القومي واليساري وصعود المد الإسلامي، ولكن الحرب لم تكن سوى عامل التحريض أو الشرارة التي لو جاءت في ظرف آخر لكانت تبدو غير ذات علاقة، ولا يُلتفت إليها كإطار أو عنصر أساسي في المعادلة.

الأحداث.. التباين الحاسم

لم يعد مصطلح الحركة الإسلامية يعني مفهومًا محددًا ضمنيًّا كما كان الأمر قبل عشر سنين؛ فقد أظهرت مناسبات عدة حجم التعددية والاختلاف في الحركة الإسلامية، وكان الذهن ينصرف تلقائيا عند إطلاق مفهوم الحركة الإسلامية إلى "الإخوان المسلمين" أساسًا أو الحركات الشبيهة بها في العالم الإسلامي كالجماعة الإسلامية في باكستان وحزب الرفاه في تركيا.

ولكن الأحداث الأخيرة حسمت التباين والتباعد الواضح والكبير بين مجموعتين من الحركات الإسلامية، بدت إحداهما برغم عراقتها وحجمها أنها قد تتحول إلى مرحلة تاريخية، وأن قطاعًا كبيرًا من الشباب والمجموعات قد تجاوزها، فلم يكن خروج مجموعة من الشباب في مصر عن المسار التقليدي والعام لجماعة الإخوان المسلمين ليؤسسوا جماعة الجهاد مجرد حدث عابر أو مثل كل عمليات الخروج والانقسام التي عرفتها الجماعة.

وربما يكون الظواهري وجماعة الجهاد وليس أسامة بن لادن مفتاح فهم التحولات التي جرت في الحركة الإسلامية؛ فقد كشفت الثمانينيات في مصر والتسعينيات في أفغانستان أن جماعة الجهاد المصرية تقود تحولات كبرى في الحركة الإسلامية في مصر والعالم العربي والإسلامي، وكان قادة ونشطاء الجهاد مؤهلين أكثر من غيرهم للمبادرة والقيادة في وسط كبير جدًّا من الشباب الإسلامي غير المتعلم وغير المنظم والمقبل بزخم وحماس على برامج المقاومة المسلحة في أفغانستان وأفكار العنف والتطرف ممن لم تستوعبه الحركة الإسلامية التقليدية، وربما لم تعرف عنهم شيئًا، ولم تلتفت إليهم.

جذور تسمح بالبقاء

لقد بدأت الحركات الإسلامية هامشية في مجتمعاتها، ولكنها تطورت وأصبحت مؤثرة وفاعلة في المجتمعات، وبقيت عضويتها غالبا في الطبقة الوسطى وسكان المدن، ولم تكسب قطاعًا ذا شأن من كبار المالكين ورجال الأعمال، وبدأت في شبه القارة الهندية في الطبقة الوسطى، واتخذت توجهًا صفويًّا حافظت عليه؛ مما جعل أثرها الشعبي محدودًا.

واستطاعت الحركة الإسلامية الوصول إلى الحكم في إيران والسودان (وفي تركيا لفترة قصيرة)، ولم تتمكن برغم تنامي شعبيتها من الوصول إلى الحكم في البلدان الأخرى، وقد تحقق لبعضها مشاركة في الحكم مثل الأردن والجزائر وتركيا واليمن والكويت وماليزيا وباكستان والسودان في السبعينيات والثمانينيات أو دخول البرلمان في مصر ولبنان والجزائر وسوريا، ولم تتطور المشاركة إلى دور أكثر فاعلية في الحكم. وتعتبر السودان هي الحالة الوحيدة عربياً التي وصلت فيها حركة إسلامية حديثة إلى السلطة، ولكنها وصلت إليها بانقلاب وليس بسند شعبي.

وتعكس الحركات الإسلامية واقع مجتمعاتها من حيث هي نتاج لتأثير الحداثة في هذه المجتمعات أولا، ولهذه الحركات جذور فكرية وتاريخية تستند إلى مفاهيم عقائدية في الإسلام، وتنتسب إلى تراث حركات تاريخية وفكرية ما زالت تتمتع بنفوذ وقبول في مجتمعاتها بما سمح باستمرار تأثيرها رغم أزمتها، على عكس النظم الشيوعية والفاشية التي انتهى تأثيرها بسقوطها.

وإن ظهر المشهد القادم للأمة الإسلامية خاليًا من الحركات والجماعات الإسلامية المعتدلة التي تبدو وكأنها استنفدت أغراضها، ولم تعد قادرة على استيعاب التحولات الإسلامية والمجتمعية والمتطرفة التي ستتعرض لملاحقة وتصفية.. فإن الإسلام سيبقى حاضرًا يصوغ المجتمعات، ويساهم في تشكيل مستقبلها؛ فالدين كان باستمرار -كما يلاحظ حسن حنفي (الإسلام السياسي بين الفكر والممارسة)- وسيلة للتغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي وحركة اجتماعية تعبر عن قوى اجتماعية مضطهدة أو مهمشة في المجتمع ضد قوى التسلط والطغيان.

ويلاحظ "عبد الإله بلقزيز" أن الإسلام يسجل حضورًا متجددًا في ميدان العلاقات الاجتماعية والسياسية في البلاد العربية المعاصرة.. فلم تعد السياسة تملك أن تعبر عن نفسها في العقود الثلاثة الأخيرة بمعزل عن الدين.. ليس فقط بالنسبة إلى الذين أتقنوا دائمًا الصلة بينهما كالإسلاميين، بل حتى بالنسبة إلى الذين جربوا باستمرار فك تلك الصلة دفاعًا منهم عن دهريتهم السياسية.

الحركات والجيل القادم

والمسألة السياسية كانت دائما جوهرية في الإسلام، لم تفتعلها الحركات الإسلامية المعاصرة؛ فالتاريخ الإسلامي يشهد تلازما بين السياسة والدين. وأما الحركات الإسلامية فهي حركات سياسية بلا زيادة أو نقصان، فلا مساهمة لها فعلية في التراكم الفقهي، ولم تقدم نفسها بوصفها مدارس معرفية جديدة بل بحسبانها تيارات سياسية.

وهذا لا يعني تجاهل إنجازات الحركة الإسلامية المعاصرة وتضحياتها؛ فقد بذلت وحققت الكثير في صون هوية الأمة، وتحرير الأرض من الاحتلال، ومواجهة الاضطهاد والتهميش، ثم هي قوة سياسية رئيسية بين الشعب العربي استعادت بعض توازنات علاقات الصراع الداخلي بين المجتمع والسلطة، وكسرت احتكار الدين الذي كانت تمارسه السلطة السياسية لتجعله عملا شعبيا واسع النطاق، واستعادت الأمة هذا الكنز الروحي المصادر، وأعيدت حيوية الوظيفة الاجتماعية والتحررية للإسلام ليكون سلاح المستضعفين في مواجهة الطغيان والاستضعاف.

لقد كرست تجربة الدولة العربية الحديثة في فترة الاحتلال ثم الاستقلال عملية إزاحة صريحة للدين من المجال السياسي، وكرست أيضا حكم نخبة حديثة غربية الولاء الثقافي، وأحرزت الحداثة الاجتماعية والسياسية والثقافية نجاحات هائلة في المجتمع العربي المعاصر، وهي نجاحات مسّت نظام القيم، وفجأة انهزمت الحداثة أمام التقليد في الدولة والمجتمع.

واستطاع الإسلاميون تحقيق نجاحات كبيرة في كل انتخابات تجري في العالم العربي، نيابية أو نقابية أو بلدية... وشبكة المد الإسلامي اليوم تشمل الحكومات والمجتمعات ومؤسسات وشركات تجارية وأعمالا مجتمعية وفردية والتعليم والعمل الاجتماعي والثقافي والسياسي؛ فالمد الإسلامي اليوم شهد تحولا شاملا يؤثر في المجتمعات والدول الإسلامية، ولا يخص أفرادًا أو جماعات محددة.

وبالطبع فإن اختفاء الحركات الإسلامية القائمة اليوم -إن صح هذا التقدير- لن يكون مفاجئًا أو يتم مرة واحدة، ولكن الجيل القادم سيعتبرها على الأغلب تراثًا أو تجربة تاريخية، كما ينظر جيلنا على سبيل المثال إلى الحركات اليسارية والقومية، وكما ينظر إلى رموزها وقادتها الباقين على قيد الحياة! ومن ثم فإن الحديث عن مستقبل الحركة الإسلامية يبقى وجيهًا وقائمًا ومطلوبًا.

تساؤلات مستقبلية

إن سؤال الحركة الإسلامية يكاد يكون الأهم والأكثر حضورًا عند التفكير في مستقبل البلاد العربية والإسلامية، وقد زادته أحداث 11 أيلول حضورًا وقوة. وفي دراسة مهمة لمركز الإمارات للدراسات الإستراتيجية حول مستقبل الحركة الإسلامية، شارك في مناقشتها باحثون مثل رضوان السيد، وفواز جرجس، وأحمد الموصلي.. جاءت التساؤلات التالية:

جدل الشرعية واللاشرعية:

ثمة أربعة أنماط للعلاقة بين النظم السياسية والحركات الإسلامية: الأول: النمط البرلماني الذي يسمح بشرعية الحركات الإسلامية، ويعتبرها جزءًا من النظام السياسي أو إحدى فصائل المعارضة مثل لبنان. والنمط الثاني: يسمح للحركة الإسلامية بالعمل طبقًا لذكاء عملي لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتحقيق أمن الدولة، كما في الأردن والمغرب واليمن والكويت. والنمط الثالث يحظر الحركات الإسلامية بقوة كما في مصر وسوريا والعراق وليبيا والسعودية وعمان. والنمط الرابع قائم على التوتر والصراع المسلح، كما في السودان والجزائر على اختلاف طبيعة الصراع في كل منهما.

إن دمج الحركة الإسلامية في نظام سياسي ديمقراطي تشارك فيه أو تكون معارضة شرعية.. هو الطريقة الوحيدة لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، وبغير ذلك فإن الدول تدفع بنفسها إلى الصراع والحروب الأهلية.

العنف والتطرف:

يجب التمييز بين العنف والتطرف؛ فقد يكون التطرف فكريًّا غير مرتبط بالعنف، وقد يكون بعض التطرف مطلوبًا للالتزام الأيدلوجي وزيادة الفاعلية والقدرة على التأثير، ويجب التفرقة بين العنف كأسلوب طارئ قد تستدعيه ظروف معينة وكونه جزءًا من فكر الحركة وأيدلوجيتها المنظمة.

ويرجع العديد من المحللين جذور التطرف الديني إلى فكر سيد قطب وحكمه بارتداد المجتمع عن الإسلام، وتردي هذا المجتمع في الجاهلية لرفضه حاكمية الله، واستخدمت فئة من الشباب هذه الفكرة أساسًا لتغيير الواقع ورفضه والعمل على تغييره بالقوة.

وإذا كان اتجاه الحركة الإسلامية إلى الاعتدال يمثل رغبة حقيقية وجادة.. فإن ذلك يعتمد على النظم السياسية والمجتمعات، إضافة إلى الحركات الإسلامية نفسها.. فهل يُلتفت إلى هذا الأمر؟!

العلاقة مع أنظمة الحكم:

هل تبادر النظم السياسية العربية إلى فك حالة الاشتباك القائمة مع الحركات الإسلامية، وتسعى إلى استيعابها واستخدامها في عملية النهوض الوطنية، أم أنها ستبقي الوضع على ما هو عليه والمتمثل في القمع السياسي وانتهاك حقوق الإنسان وكبت الحريات؟

إن القيادات الإسلامية تحاول جديًا إعادة صياغة المشروع الإسلامي على أسس جديدة تعتمد على المشاركة السياسية السلمية ورفض العنف، وتحاول تأصيل فكر فقهي ونظري من أجل تشكيل الأحزاب السياسية والتعددية، ولا يبدو حتى الآن أن النظم السياسية القائمة تملك الرؤية الإستراتيجية البعيدة المدى التي تأخذ المعطيات الجديدة بالاعتبار، وإنما تبني مواقفها وأفكارها على أساس المواجهة فقط، ولكن هل تملك الحركات الإسلامية مشروعا نهضويا يقدم تغييرا حقيقيا، ويختلف عن برامج الحركات الاجتماعية القائمة؟

هل تنقذ نفسها؟

وأخيرا ما دور الحركة الإسلامية نفسها في تفادي الأزمة والصراع؟

إن الأحداث كشفت الكثير مما أغفلته الحركة الإسلامية؛ فلا يبدو أنها تلاحظ التحولات المهمة في خريطة العمل الإسلامي، ولا تريد أن تستوعب أن الحالة الإسلامية أصبحت مجتمعية تخص الجميع، وما زالت تتعامل بعقلية تنظيمية "ثمانينة".

إن الحركة الإسلامية مدعوة لمبادرة ذاتية تقوم بها بنفسها، قائمة على شبكية العمل الإسلامي ومجتمعيته وليس هرميته وتنظيميته؛ فتجري انسحابا لمشاركة غيرها وفصلا تاما وحقيقيا في القيادة والعمل بين العمل السياسي الحزبي والعمل النقابي والخيري والعمل الدعوي، ولا يعقل أن تقع قيادات الحركة الإسلامية فيما يفترض أن تكافح من أجل محاربته من احتكار وسيطرة؛ فترى القائد قائدًا في العمل الخيري والدعوي والسياسي والنيابي. وقادة الحركة الإسلامية بسلوكهم هذا لا يقعون في زلل الاستبداد والاحتكار فقط، ولكنهم أيضًا يجعلون الحركة الإسلامية هدفًا معزولا يسهل إصابته وتصفيته، ويجعلون مغانمهم الشخصية قضية الأمة ينتظرون من الناس أن يؤيدوهم بها، ويسهلون على الحكومات ضرب العمل الإسلامي تحت غطاء محاربة التجاوزات القانونية والسياسية.

إن هذا الفصل الإجرائي في التطبيق والذي يبدأ بمنع الجمع بين موقعين أو أكثر في العمل الإسلامي سيحول ملكية هذا العمل وخبراته إلى المجتمع بأَسره، ويقلل من عقلية الاحتكار والوصاية وعدم الثقة بالآخرين، ويجعل الحالة الإسلامية أكثر تجذرا وانتشارا في المجتمع، وليست مسألة تخص تنظيمًا أو جماعة بعينها.

فمسؤولية العمل والدعوة والإصلاح منوطة بكل مسلم بل بجميع المواطنين، ووظيفة الحركة الإسلامية أن تحشد جميع الناس والفئات في مشروعها الإصلاحي، وليس منافستهم المغانم والمواقع والفرص. وكلما تراجعت المصالح الذاتية والتنظيمية تزداد المصداقية والقبول.

 

الصفحة الرئيسية