الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

الحس الإقليمي كمرض اجتماعي- سياسي وكدعامة لوجود "إسرائيل"

د.إبراهيم علوش

في خضم الهجمة الأمريكية على أفغانستان، كتب السيد جوناثان فريلاند مقالاً في صحيفة الغارديان البريطانية يوم 17 أوكتوبر/تشرين الأول 2001 مؤنباً العرب والمسلمين على ما اعتبره اهتماماً مفرطاً بالقضية الفلسطينية، وربطاً غير منطقي وغير مبرر بينها وبين قضاياهم الأخرى. يقول جوناثان فريلاند في مقالة تتصنع التعجب:

"لكن نظرة المسلمين إلى هذا النزاع وكأنه السؤال المركزي في حياتهم غير مفهوم على الإطلاق. فالانسحاب الإسرائيلي من غزة مهم بالنسبة للاجئين في غزة، ولكن كيف يمكنه بالضبط أن يغير حياة شاب عاطل عن العمل في المغرب؟ إن عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية هي هدف مشروع للفلسطينيين، ولكن كيف يمكنها بالضبط أن تنقذ باكستان من الديكتاتورية العسكرية؟ إن حدوداً جديدة بين فلسطين وإسرائيل مهم لهاتين الأمتين، ولكن كيف يمكنها أن تساعد المسلمين في العراق وسوريا وإيران وليبيا ومصر والسعودية الذين يعيشون في ظل أنظمة قمعية وحشية؟ إنها لن تفعل ذلك."

من الواضح طبعاً أن السيد فريلاند يتجاهل عن سابق إصرار الروابط التي تربط العرب والمسلمين ببعضهم، الروابط القومية والثقافية، أي العروبة والإسلام، لكي يصل إلى لاعقلانية اهتمام الإنسان العربي أوالمسلم بالقضية الفلسطينية، فهو يطرح هذه الروابط جانباً بشكل اعتباطي، قبل البدء بالكتابة، بالإضافة لتجاهله لاعتبارات التاريخ والجغرافيا السياسية والمصالح المشتركة. فالبريطانيون توصلوا إلى فكرة "إنشاء وطن لليهود في فلسطين" عام 1840 لمنع تمدد النفوذ المصري شرقاً باتجاه الجزيرة العربية وبلدان الهلال الخصيب بعد جهود محمد علي باشا التوحيدية، ومازالت "إسرائيل" منذ أسست جزءاً من منظومة إقليمية تحمي المصالح الاستعمارية في بلادنا وجهها الآخر أنظمة التجزئة القطرية المصطنعة التي تنتج البطالة والقمع وكل ما يربط المواطن العربي بفلسطين. 

وبهذه الأنظمة القطرية، تمددت فلسطين من المحيط إلى الخليج. وبها أصبح الوطن العربي بأسره أراض محتلة، ولا معنى للحديث عن حرية الفرد فقط في الأوطان المحتلة. ولا مستقبل اقتصادي أو حل لمشكلات البطالة أو التنمية الاقتصادية، خاصة في عصر العولمة والوحدات الاقتصادية الكبيرة، إلا بالسوق العربية المشتركة التي تقف القطريات العربية عائقاً في طريقها. السيد فريلاند، بالتالي، لا يدعو العرب والمسلمين فقط لعدم الاهتمام بفلسطين، بل يدعوهم للتمحور على الذات، أي أن دعوته بالأساس هي دعوة للتمسك بالحس الإقليمي والاهتمام المحلي في ظل أنظمة التجزئة، في الوقت الذي يبدو فيه وكأنه يؤيد استكمال كل ذلك بدويلة فلسطينية لا تتعارض مع هذه المنظومة الإقليمية، عاصمتها بالقدس الشرقية، وحدودها ما زالت تنتظر الترسيم مع "إسرائيل"!! فما يدعو إليه أيضاً هو إقليمية فلسطينية تتمم القطريات العربية الأخرى، وبالتالي، تحرس "إسرائيل". وعلى الرغم من السذاجة البادية في خطاب السيد فريلاند على السطح، ألا إنه يعبر بشكل واضح عن علاقة الدعم المتبادل التي تقوم بين قاعدتي السيطرة الامبريالية في الوطن العربي: الكيان الصهيوني من جهة، وأنظمة التجزئة، وبالتالي العقل الإقليمي، من جهة أخرى. فأحدهما لا يقوم دون الآخر. وفريلاند يتوخى إعادة صياغة مفهوم "المصلحة العامة" العربية والإسلامية، ليصبح "المصلحة المحلية" القطرية البعيدة عن فلسطين، والحقيقة أن لا مجال للفصل بين الاثنتين. 

********************************

وعلى الرغم من أن مقالة السيد جوناثان فريلاند في الغارديان البريطانية كتبت قبل أشهر عديدة، ألا أنها تمثل جزءاً من نهج في الإعلام الغربي والأمريكي والبريطاني بالتحديد، وإن كانت أكثر وضوحاً في التعبير عن هذا النهج من غيرها، حتى صدرت مؤخراً مقالة للكاتب المعروف توماس فريدمان في صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية في 1 مايو/أيار 2002 يقول إنه كتبها في عمان بعد مقابلات مع الملك عبدالله وبعض المسؤولين والصحافيين ورجال الأعمال الأردنيين، ينسج فيها على المنوال عينه. فهو يعتبر اهتمام الشارع العربي بالقضية الفلسطينية عبئاً كبيراً على الأنظمة العربية، وعلى ما أسماه مشاريع التحديث والالتحاق بالعولمة، ويدعو بالتالي إلى فك الارتباط بالقضية الفلسطينية من أجل التركيز على الشأن المحلي ... والتقدم! وكأن الشأن المحلي في الاقتصاد والقمع لا يرتبط بالنظام الإقليمي، وكأن هناك حلولاً جذرية طويلة المدى للمشكلات المحلية خارج الإطار العربي ودون التخلص من الاحتلال والتبعية! 

ويبدأ توماس فريدمان مقالته بالتبرم من الفضائيات العربية ومواقع الانترنت التي أججت مشاعر الغضب في الشارع العربي على ما يجري في فلسطين، مما أدى إلى وقوع مظاهرات ضخمة يطمئننا فريدمان بأن الأنظمة العربية حافظت على توازنها في وجهها حتى الآن، ولكن بعد دفع ثمن باهظ هو هيمنة القضية الفلسطينية على الحوار العام، مما يعني تأجيل الانخراط في العولمة وبرامج التحديث الأخرى على حد قوله. يستنكر فريدمان على لسان رجل أعمال أردني لم يسمه: "إن أكثر البرامج التلفزيونية شعبية اليوم هي تلفزيون حزب الله (المنار)، فهل تصدق ذلك؟!". غير أنه يؤكد على لسان الملك عبدالله: "ليست لدي أية نية بتعليق برنامج تحديث الأردن، ونحن مستمرون قدماً، ولكنني لا أستطيع القيام به وحدي، بل يجب أن يكون الرأي العام معي". 

يعرض فريدمان بعدها كيف غزت وسائل الإعلام المستقلة الشارع العربي لتنقل ما يجري في فلسطين وتداعياته بسرعة البرق فيكاد يندب حظه على تطور وسائل الاتصالات وتحسن سرعتها، وهو الداعي إلى التخلي عن القضية الفلسطينية لمصلحة ما أسماه برامج التحديث والعولمة. يقول: "إن دولاً مثل الأردن والمغرب والبحرين لا تريد أن تبني مشروعيتها على الطريقة التي تواجه فيها إسرائيل بل على حسن إعدادها الشعب للمستقبل، باتت تعاق عن المضي في سبيلها الآن". وختم فريدمان مقالته من عمان بتحريض إقليمي سافر: " إن الفلسطينيين برعوا في إغراء العالم العربي بتأجيل مستقبله إلى حين حل كل القضايا الانفعالية المرتبطة بفلسطين. أن ثلاثة أجيال من العرب قد دفعت الثمن باهظاً لأنها سمح لها فقط أن تطرح سؤالاً واحداً: من يحكم فلسطين؟ وليس كيف نعلم صغارنا، أو أي نوع من الديموقراطية أو الاقتصاديات يجب أن يكون لدينا؟ وستكون مأساة لو أن جيلاً رابعاً عانى من المصير نفسه".

قد يكون الشيء الوحيد الذي أصاب فيه فريدمان، وقبله فريلاند، هو معرفته الواضحة أن التوجه الذي يدعو له غير مقبول في الشارع العربي، الأردني والمغربي والبحريني وغيره، بغض النظر عن ما تريده الأنظمة. وهو بذلك يناقض الديموقراطية التي يدعي أنه يدعو لها، إن كانت الأخيرة تعبر عن رغبة الشعب. فما يدعو له فريدمان إذن هو فرض هذا التوجه (المحلي القطري) بالقوة على الشعب العربي، لأنه يعرف أن الديموقراطية الحقيقية التي تعبر فعلاً عن رأي الشعب في الوطن العربي سوف تزلزل العروش وتفتح أبواب الجحيم عبر كل شبر من الحدود مع العدو الصهيوني. إن مشروع فريدمان هو مشروع تعزيز الديكتاتوريات العربية، ضمن حدود التجزئة، وليس أي شيء آخر، وليست له أية علاقة بالديموقراطية من قريب أو بعيد. وهو مشروع إلحاق بالعولمة نعم، ولكنه ليس مشروع تنمية إقتصادية. أما الاقتصاد، فيقصد به فريدمان المصالح الاقتصادية الامبريالية في الوطن العربي التي لا تحققها إلا شروط الاحتلال والتجزئة: وهي السيطرة على احتياطات النفط والغاز وعائدات النفط والغاز النقدية وعلى الأسواق الاستهلاكية، ومنع نشوء كتلة عربية موحدة تنافس قوى الهيمنة الخارجية، وفتح الوطن العربي للشركات متعدية الحدود لاستغلال الإنسان والموارد العربية تحت شعارات التحديث والعولمة.

بالرغم من كل ذلك، من الواضح أن التوجه الغربي الآن هو نحو إبعاد الشارع العربي عن القضية الفلسطينية لمصلحة الشأن القطري الضيق المرتبط بمراكز العولمة، الأمر الذي يتطلب بالضرورة تنمية الوعي القطري على حساب الوعي العروبي والإسلامي المعادي للامبريالية، خاصة الأمريكية منها. فريدمان، مثل فريلاند ومن لف لفهم، لا يرى ضيراً من تحريض المواطن الأمريكي أو البريطاني على دعم حروب استعمارية في بلاد تبعد آلاف الأميال عن الولايات المتحدة أو بريطانيا، ولا تعتبر جزءاً من بلادهم، كما يعتبر العرب والمسلمون فلسطين، ولكنه يعتبر الاهتمام العربي والإسلامي بفلسطين غير عقلاني! فهل يمكن فصل ما يجري في فلسطين عن ما يجري في العراق ومشاريع الهيمنة على الوطن العربي؟ وهل يمكن أن ينجح أي مشروع تنموي عربي دون صدام مع قوى الهيمنة الخارجية كما أثبتت تجارب محمد علي باشا وعبد الناصر والعراق والجزائر؟ وهل هناك مستقبل لأي مشروع ديموقراطي قطري خارج سياق تحرر العرب كأمة من الاحتلال والتبعية؟

التاريخ الحديث للأمة العربية أثبت أن الجواب على كل هذه الأسئلة هو لا، ولكن لمن يعتقد أن الجواب هو نعم، أي لمن يعتقد أن التمحور حول الشأن القطري، أي الابتعاد عن العروبة والإسلام وفلسطين، مع الالتحاق بالمراكز الامبريالية في الغرب، سوف يحقق التنمية الاقتصادية والديموقراطية والسلام، فإن عليه النظر في تجربة مصر في عهد أنور السادات، وتجربة الأردن والسلطة الفلسطينية بعد اتفاقيتي وادي عربة وأوسلو. لا بل إن دولة العدو تآمرت على مصر و حاولت تهميشها إقليمياً من خلال ما يسمى "الشرق الأوسط الجديد" بعد ما يسمى بمعاهدات السلام، وساءت الأحوال الاقتصادية في الأردن في النصف الثاني من التسعينات، واستمرت مصادرة الأراضي وإقامة المستوطنات في الضفة الغربية وغزة ولم تحصل السلطة الفلسطينية حتى على السلام! وعلى كل حال، فإن الأردن، مثل باقي الوطن العربي، ليس بمأمن من الخطرين الصهيوني والأمريكي بغض النظر عن الفلسطينيين، ومن يرغب بقراءة تحليل عن الخطر الصهيوني على الأردن، فإن عليه الذهاب إلى مقالة: "الخطر الأكيد: الأردن والاستراتيجية الصهيونية في المنطقة العربية"

********************************

القطرية كمرض اجتماعي – سياسي:

منذ وضعت حدود الدول المصطنعة في بدايات القرن العشرين، سعت النخب الحاكمة فيها إلى اختلاق تاريخ وحضارة خاصة بها تثبت مشروعيتها و تظهرها بمظهر القائم منذ الأزل، وبالتالي إلى الأزل، وكأنها شيئاً يختلف عن التراث والتاريخ العربي والإسلامي. ومن هنا تعززت النزعات الفنيقية والفرعونية وكل النزعات التي تعزز الدولة القطرية العربية، وصارت الآثار العربية والإسلامية تقدم في مطويات وزارات السياحة العربية كآثار يمنية وعراقية وسورية ومصرية وأردنية ولبنانية وتونسية وغيرها وكأن هذه الكيانات الكرتونية المنفصلة لها تاريخ. 

وإذا كانت هذه السلوكيات تنجم عن حاجة النخب الحاكمة لإثبات مشروعيتها، فإنها أدت عبر العقود إلى نشوء وعي قطري لوث الوعي الجمعي العربي وزرع الحواجز النفسية بين أبناء الشعب الواحد في بعض الحالات، وهو الأمر الذي يحاول أن يستغله أمثال فريلاند وفريدمان. وبمقدار ما كان يهون أي نظام عربي إزاء الغرب والعدو الصهيوني، بالمقدار نفسه كان يسعى إلى إثبات وجوده أمام طرفين: 1) مواطنيه، و2) الأنظمة العربية الأخرى. وأدت آليات التعويض والمبالغة في محاولة تضخيم الذات القطرية المختلقة إلى نشوء الظواهر التالية:

1.  التوسع في إنشاء المؤسسات السياسية والعسكرية لتحمي المؤسسات الواسعة الكبيرة السلطة، ولتفرض ما تحتاجه من مشروعية، ولتغطي الضآلة الجغرافية والاقتصادية والضعف أمام الجماهير، ولتوفر التوازن اللازم مع الجيران الصغار والكبار.

2.     الإغراق في المظاهر الاحتفالية

3.     التعبئة على أساس الولاء للأسرة الحاكمة والزعيم الأوحد والقطر 

4.     المبالغة في تصوير الإنجازات السياسية والاقتصادية والعسكرية

5.     الإسراف في تأكيد الدور السياسي والاقتصادي والثقافي للقطر إقليمياً ودولياً 

(من كتاب ناجي علوش، "الوحدة العربية: المشكلات والعوائق"، الصادر عام 1991 في الرباط في المغرب، صفحة 73-74)

ونلاحظ بروز هذه الظواهر لدى الأنظمة العربية على اختلافها، ونلاحظ أيضاً أن هذه الأنظمة تفهم كلمة استقرار بمعنى إخضاع الشارع، واستثمار التناقضات الثانوية، سواء كانت طائفية أو إثنية أو قبلية، من أجل خلق شرائح مؤيدة للسلطة وخلق خلافات مصطنعة تفيد في إيجاد توازن داخلي تعتمد عليه. فالدولة القطرية لهذا السبب هي عامل عدم استقرار من منظور الأمة ككل. وهي تسعى بالإضافة إلى ذلك لحماية نفسها عن طريق المشاركة في محاور إقليمية وتوازنات تحمي الأقطار الصغيرة من الكبيرة، والكبيرة من بعضها، ولا تتردد في اللجوء إلى حماية دولية وقوى الهيمنة الخارجية من أجل تحقيق ذلك، وكأن هنالك اتفاقاً على قبول الهيمنة الخارجية ورفض أي نوع من الهيمنة الداخلية (العربية).

سيكولوجيّّاً، فإن فهم النفسية القطرية (أو الطائفية أو القبلية)، والتعصب الناشئ عنها، يدخل في سياق تحليل الجماعات المغلقة. والجماعات المغلقة، حسب علم النفس الاجتماعي، هي وليدة الإحساس بالخطر الخارجي والتهديد الماثل منه. بالتالي، يتم تقسيم العالم إلى نصفين: أبيض وأسود، الأول كله خير والثاني كله شر، الأول فيه الآمان، والثاني فيه الخطر. في هذه الحالة، يتكون الخطر الخارجي من كل ما هو خارج القطر أو الطائفة أو القبيلة، ويصبح تعزيز الوهم بوجود مثل هذا الخطر شرطاً من شروط تماسك النخبة المهيمنة وسيطرتها، وبقدر ما يتضخم الاعتقاد بوجود التهديد الخارجي من هذه المصادر الوهمية، بقدر ما تسعد المصادر الحقيقية للخطر: الصهيونية وحكومة الولايات المتحدة، التي يصبح التحالف معها الآن شراً لا بد منه حسب المنطق القطري أو الطائفي أو القبلي لدرء المصادر الوهمية للخطر (الفلسطينيين حسب فريدمان أو القطر الآخر أو الطائفة أو القبيلة الأخرى). 

في كتابه المعروف، "التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور" (الصادر في بيروت عن معهد الإنماء العربي عام 1998، الطبعة السابعة) يقول د.مصطفى حجازي في وصف موقف الجماعة المغلقة، "أما الخارج فهو العدو ومصدر الخطر والشر، العلاقة معه عدائية اضطهادية، والموقف منه إما انسحابي تجنبي أو تهجمي تدميري. أما الداخل فهو الخير كله، وهو مصدر الأمن والشعور بالانتماء، مصدر الهوية الذاتية، وهو بالتالي المرجع والملآذ"(الصفحة 100). وإذا كان د. حجازي يتحدث عن أي جماعة مغلقة بشكل عام، فأنه يسهل علينا تطبيق هذا النموذج عندما تصبح الجماعة المغلقة نفسياً متعلقة بالانتماء لقطر مصطنع أو طائفة أو قبيلة. ويضيف الدكتور حجازي: "وهكذا يتحول الخارج إلى مجرد أسطورة مخيفة يجب الحذر منها. وليس من موقف تجاهها إلا العنف والتدمير. وأما العواطف الإيجابية فتتوجه إلى الداخل، إلى النموذج الذي يجب أن يحتذى. كل واحد منهم يتحول إلى مرآة تعكس للآخرين ذواتهم الإيجابية. ويحدث هنا إفراط في إعطاء القيمة للجماعة الداخلية على حساب الإفراط في تبخيس الجماعات الخارجية... والعلاقة الدمجية أو الذوبانية داخل الجماعة المغلقة تتصف بالاتكال الشديد على رموز القوة في هذه الجماعة، وعلى عناصر السلطة المادية والنفسية فيها. هذه العناصر تضخم بدورها بشكل لاواقعي بمقدار الحاجة إلى الإحساس بالأمن والمحبة. كما أن هذه العلاقة نكوصية أساساً، بمعنى أن الفرد من هؤلاء يبحث بشكل لاواع عن العودة إلى العلاقات الدمجية بالام، مصدر الحب والدفء والحنان والغذاء، ومصدر السلوى، وعامل إبعاد المنغصات الحياتية" (الصفحة 101).

هل يصل الأمر إلى حد المرض إذن؟ أعتقد أن ما سبق لا يمكن وصفه إلا كذلك في مراحله المتقدمة.

العضو في الجماعة المغلقة إذن غير قادر على أن يكون مواطنا عربيا، بل إنه محصن ضد هذا النوع من المفاهيم التي تقتضي الانتماء إلى فضاء أوسع عربي أو إسلامي أو إنساني، فالانتماء إلى القطر المصطنع أو الطائفة أو القبيلة هو عائق سياسي يعزز لمنع تحقيق هكذا انتماء. والأسوأ، إن العضو في الجماعة المغلقة ليس فاقداً للتوازن السياسي والوطني فحسب، بل هو فاقد للتوازن النفسي، وفي بعض الظروف، قد يتحول إلى مهووس يحتاج إلى علاج في عيادات مختصة. ولا يمكن فهم المجازر التي ارتكبت في مخيمات تل الزعتر وصبرا وشاتيلا، والقتل البارد للأطفال والعزل في جو من العربدة، ولا إطلاق النار على آلاف الأطفال الفلسطينيين في الانتفاضتين، الأولى والثانية، بالنسبة للجندي الفرد وعلى مستوى القرار السياسي، إلا في سياق هذا الهوس المريض الذي يتراكم ككرة الثلج في الجماعات المغلقة. واليهود، الذين عاشوا منعزلين في الغيتوات في اوروبا طوال قرون، يحملون في وعيهم الجمعي الكثير من صفات الجماعات المغلقة: الانسحاب الكامل أو تدمير أو استعباد أو اضطهاد الآخر في مواجهة الخطر الماحق المزعوم. واليوم، حين تجد الدولة الصهيونية أن الأمن الحقيقي لها على المدى البعيد يقتضي تفكيك الوطن العربي إلى دويلات وهويات إقليمية وإثنية وطائفية وقبلية متصارعة، فإنها في الواقع تريد تحويلنا إلى يهود، في بلادنا. فالهوية الإقليمية هي اجتماعياً، وليس فقط سياسياً، التتمة الطبيعة للاعتراف بحق الكيان الصهيوني بالوجود. والعنف الداخلي، بين الجماعات المنتمية إلى هويات مصطنعة أو طاغية على كل ما عداها، يصبح البديل المنطقي للصراع مع العدو الصهيوني والإمبريالية. فالمجموعات المغلقة تصبح أقليّات تخاف من كل ما هو خارجها، ومتى وصل الأمر إلى هذا، تصبح المجازر هي النتيجة المنطقية، كإجراء "احترازي" أو كرد فعل "منطقي". وفي الحديث عن الاقليات المغلقة يقول الدكتور محمد فايز عبد أسعيد: "إن خوفها من الغرق في محيط المجموعة التي تمثل الأكثرية يدفعها حينذاك للتشديد على خصوصيتها، وتصبح العدوانية وعدم التسامح نتيجة للشعور العميق بالضعف" (الأسس النظرية لعلم الاجتماع السياسي، الصادر في بيروت عن دار الطليعة عام 1988، الطبعة الثانية، الصفحة 93).

********************************

الخاتمة: حول الإقليمية الفلسطينية

ليست العصبية الإقليمية أو الطائفية أو القبلية أن يعتز المرء بما ينتمي إليه، بل أن لا يرى ما ينتمي إليه ضمن السياق الأوسع، وأن يجعل الهويات الصغيرة تطغى على الهويات الكبيرة. فاسمك الأخير لا يلغيه اسمك الأول، ولا تلغي القبيلة أو القرية أو المدينة التي تأتي منها اسم أبيك. كذلك لا تلغي هويتك العربية المحافظة أو القضاء أو الإقليم الذي تأتي منه، ولا يلغيها انتماء الوطن العربي إلى العالم الإسلامي، وفي النهاية العالم الإسلامي للعالم بأسره. فالانتماء إلى كل هذه الدوائر هو الذي يصنع هوية المرء ويغنيها، وهو الذي يجمع الإنسان مع غيره ويميزه عنهم في آن معاً، وكذلك الأمر بالنسبة للمهنة والعرق والجنس وغيره، والسر في القدرة على الانتماء إلى كل ما ينتمي إليه المرء هو التوازن: سعة الأفق، والقدرة على استيعاب التناقضات الثانوية، والوقوف مع المظلوم أينما كان.

وقد يبدو هذا هيناً في القول، ولكن في الفعل، تتعرض إحدى هذه الدوائر أحياناً لانقضاض همجي يثير فينا كل آليات الدفاع الغريزية، كما حدث مع الشعب العربي الجزائري إزاء الاحتلال الفرنسي، ومع الشعب العربي الفلسطيني إزاء الاحتلال الصهيوني. في الحالتين، كان الاحتلال استيطانياً إحلالياً، وكان يستهدف شطب الهوية، بقدر ما كان يستهدف احتلال الأرض. وفي الحالتين، كان جعل الجزائر فرنسية أو فلسطين يهودية يعني اجتثاث عروبة الجزائر وفلسطين أرضاً وشعباً. في مثل هاتين الحالتين، تصبح الهوية الجزائرية أو الفلسطينية هوية كل العرب والمسلمين وأنصار العدالة في العالم، وتكون الهوية المطلوب اجتثاثها من قبل الاستعمار هوية نضالية لا تعصباً قطرياً، لأنها هوية معادية للظلم والاستعمار، لا هوية فصّلها الاستعمار ليحمي بها مصالحه الإقليمية. ومن هنا، يصبح من المنطقي أن ترى الحطة أو الكوفية الفلسطينية في المظاهرات المعادية للاستعمار وحكومة الولايات المتحدة من أندونيسيا إلى واشنطن إلى الكرك في جنوب الأردن. 

ولكن، حين تصبح الهوية الفلسطينية أداة بيد البعض لمعاداة العروبة لتبرير التسويات المنفردة مع العدو الصهيوني تحت يافطة "القرار الفلسطيني المستقل"، أي حين تستخدم هذه الهوية في سياق توسيع المخطط الصهيوني في الوطن العربي، فإنها تكف كونها هوية نضالية، وتصبح بالتالي أسوأ وأكثر تخلفاً من أشد القطريات العربية انغلاقاً وإغراقاً في خدمة المخطط المعادي، لأنها تكون آنذاك كلام حق يراد به باطل. ونلاحظ في هذا السياق أن حكومة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني لم تعترفا رسمياً بهوية فلسطينية ما إلا بعد الحصول على ضمانات كافية لانخراط "الممثل الشرعي الوحيد" الكامل بعملية التسوية، والتأكد من تحول شرائح من الفلسطينيين للاعتراف بحق دولة العدو بالوجود، واستعداد سلطة أوسلو لتعهد أمن الاحتلال بالنيابة، وبعد تحول الهدف المعلن من التحرير إلى "الاستقلال" في دولة ما على أجزاء من فلسطين، أي بعد تلمس استعداد قيادات "م.ت.ف" الجدي للتفاوض على موقع ضمن المنظومة الإقليمية.

والحقيقة، إن مشروع الدولة الفلسطينية بحد ذاته لا يتناقض مع مشروع "الشرق الأوسط الجديد" إذا تم على قاعدة "اندماج" الدولة الصهيونية في المحيط العربي، لا على قاعدة الانسحاب الصهيوني من الضفة والقطاع دون قيد أو شرط، وهو المطلب الأساسي للانتفاضة الثانية. لا بل إن الدولة الفلسطينية ضمن سياق مشروع "الشرق الأوسط الجديد" تصبح مجرد جزء من لوحة فسيفسائية، وموطئ قدم للتغلغل الصهيوني في المنطقة العربية. ويسجل في هذا السياق أن اتفاق أوسلو الفلسطيني-"الإسرائيلي" تضمن بنوداً كاملة عن حرية وصول الدولة الصهيونية إلى الأسواق العربية. ويؤكد هذا الأمر أيضاً تصريح السفير الصهيوني في الأردن ديفيد دادون، حسب وكالة الصحافة الفرنسية يوم 26 تشرين الأول/أوكتوبر 2001 :"فقط في اليوم الذي تخلق فيه دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة سوف تنفتح عقول وقلوب كل الشعوب العربية لإعطاء المشروعية لحق الشعب اليهودي بدولة خاصة به . . . وإذا أردنا هذه المشروعية، فإن علينا أن نعترف بأن ذلك يرتبط بخلق دولة فلسطينية". في هذا السياق تصبح القطرية الفلسطينية غطاءاً للمشروع الصهيوني، وتتمة للقطريات العربية الأخرى، وعندها فقط يستعد الطرف الأمريكي- الصهيوني أن يعترف بها عن طيب خاطر. وهنا يدور التفاوض حول دور فلسطيني ما في المشروع الصهيوني-الأمريكي الموجه ضد الأمة والعالم الثالث، لا حول تحرير من أي نوع . 

ولنلاحظ أن أنور السادات كان البادئ بطرح فكرة "م.ت.ف كممثل شرعي وحيد" للشعب الفلسطيني في بداية السبعينات كي يعفي نفسه من المسؤولية العربية الجماعية تجاه القضية الفلسطينية، ويجعل فلسطين بهذا الشعار مسؤولية قطرية أو فردية فلسطينية في الحلقة التي تتكون من الأنظمة العربية. وقد ترافق ذلك بالطبع مع قيامه بتعزيز القطرية المصرية ومحاولة شطب الدور العربي لمصر. وكانت تلك بداية التبريرات الرسمية العربية في العلاقة مع العدو تحت مبدأ: "نقبل بما يقبل به الفلسطينيون"! والحقيقة أن تحويل القضية الفلسطينية إلى مسؤولية فلسطينية محضة هو المقدمة الضرورية لتصفيتها. لأن فريدمان وفريلاند حين يطلبان من الشارع العربي أن ينسى فلسطين، أو حين يطلبان من الأنظمة العربية أن تفرض على الشارع العربي أن ينسى فلسطين، فإنهما ومن يمثلان يطلبون من الفلسطينيين أن ينسوا احتياطهم الاستراتيجية العربية والإسلامية والعالمية بحجة أن الجميع تخلى عنهم، ولم يعد أمامهم إلا الارتماء في المخططات "الواقعية"، أي البحث عن دور ضمن مشروع الاحتلال-التجزئة.

والخلاصة أن أي فلسطيني يعنى جدياً بتحرير فلسطين، لا بد له أن يفكر كل لحظة بكيفية تعبئة احتياطاته الاستراتيجية العربية والإسلامية والعالمية لمواجهة الطرف الأمريكي - الصهيوني، فهو لا يتمتع برفاهية الغرق في الإقليمية الفلسطينية بأي شكل من الأشكال، لا بل إن مصلحته أكثر من أي عربي أخر تكمن في تجاوز كل التناقضات الثانوية ضمن معسكر الأصدقاء. وإذا نظر الفلسطيني لنفسه كفلسطيني فقط، فإنه لا يمكن أن يبقى مناضلاً، لأنه سيجد نفسه كريشة في مهب الريح في مواجهة القوى العاتية في المعسكر المعادي الذي يلتئم ضده، وسيقول آنذاك: لا خيار لي إلا قبول شروط الأعداء للتسوية "السلمية". فالفلسطيني القطري هو تسووي بالمحصلة، والفلسطيني المناضل غير قطري بالضرورة، والفلسطيني المناضل لا يتعب من تذكير العرب والمسلمين وأحرار العالم بأن تأسيس دولة العدو هي مؤامرة ضدهم بالأساس ولو دفع هو الثمن الأكبر لوقوعها، ويعرف أن الأنظمة والشعوب ليست شيئاً واحداً، وأن الشعوب لم تبخل عليه يوماً بموقف أو بتضحية، وأن الخلاص يكمن بإعمال الفكر والعمل لتحرير طاقات هذه الأمة من أغلالها وعلى رأسها التعصب القطري أينما وجد، حتى تقوم القوة المنظمة التي سيولد على يدها النصر الأكيد.  

الصفحة الرئيسية