الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

الانتخابات المصرية.. النظام يحدد قواعد اللعب

وسام فؤاد


بدأت أجواء القاهرة الحارة هذا الصيف تختلط بسخونة الانتخابات المصرية لتزيدها اشتعالاً، خاصة في ظل الأحداث المتصاعدة على الساحة السياسية المصرية منذ حكم المحكمة الدستورية بعدم دستورية قانون مباشرة الحقوق السياسية، ثم وفاة رئيس حزب الوفد، ومن قبل أزمة حزب العمل ووقف جريدته.

 

التناقض بين الفعلي والرسمي

تمثل الانتخابات المصرية نوعًا من التضاد الواسع بين ما هو رسمي وما هو فعلي في السياسة المصرية. وكلمة "رسمي" لدى المراقبين والخبراء السياسيين ترادف معنى ما هو قانوني، بينما تُعَبِّر كلمة "فعلي" عمَّا هو واقعي في علاقات القوى السياسية.

المفارقة الأولى في هذا المقام هي أن السيطرة على وسائل القهر ومؤسساته وعملية صنع القرار - مورد تَمْلِكُه الحكومة من خلال سيطرتها على القطاع التنفيذي والأمني من أجهزة الدولة، ومع ذلك يستخدمه الحزب الحاكم كإحدى ركائز القوة الخاصة به في الانتخابات.

ففي انتخابات 1995م -على سبيل المثال- بادرت أجهزة الدولة بمنح مرشحي الحزب الحاكم أفضل الرموز الانتخابية التي تعتمدها وزارة الداخلية، مما يرتبط بصور ذهنية طيبة عند الجماهير مثل "الهلال"، و"الشمس"، ومنحت مرشحي المعارضة أسوأ الرموز مثل "المسدس" و"العصا".. إلخ. كما أن بعض مرشحي الحزب الحاكم من الوزراء نزلوا إلى اللجان الانتخابية بصحبة سيارات أمن، وحاولوا طرد مندوبي مرشحي المعارضة، ومن لم يخرج تَمَّ اعتقاله. ومن ذلك اعتقال قرابة 38 مندوبًا في الدائرة الثانية بمحافظة الجيزة لرفضهم ترك اللجان، وهو ما رصدته جمعيات حقوق الإنسان ومراقبة الانتخابات. ومن ناحية ثالثة قام بعض الوزراء بتوزيع وجبات ومواد إغاثة في دوائرهم، وبخاصة الدائرة الأولى بمحافظة الجيزة، حيث قامت وزيرة الشئون الاجتماعية آنذاك، بتوزيع أطعمة ومواد إغاثة في المناطق الفقيرة من دائرتها للتغلب بذلك على مرشحي المعارضة، وهو ما أكده مراقبو الانتخابات من جمعيات حقوق الإنسان. وقد حكم القضاء بتزوير نتائج الانتخابات في هذه الدائرة أيضًا.

والمفارقة الثانية أن الديمقراطية تعني – فيما تعني – احترام الأحكام القضائية، لكن هذا الاحترام تعترضه في مصر عقبات كثيرة، منها الاعتبارات الانتخابية. فما معنى أن يصدر عن محكمة النقض – أعلى سلطة قضائية مصرية - أكثر من 450 حكمًا قضائيًّا يقضي ببطلان الانتخابات في الدوائر الانتخابية المصرية وعددها 222 دائرة، أي بمعدل حكمين لكل دائرة، ولا يستجيب المجلس التشريعي لهذه الأحكام، وترفع قضايا تعويضات، من قبل المرشحين الذين تم بحقهم التزوير، ويتم دفع التعويضات، لكن يستمر الناخبون المَطْعُون في عضويتهم في ممارسة الأدوار التشريعية المسندة إليهم بحكم تمثيلهم للشعب، من دون محاسبة أو توقيف أو نظر.

والمفارقة الثالثة أن الديمقراطية تقتضي حق كل مواطن في الترشيح، أما الحكومة المصرية فتقوم بتحديد خصومها في الانتخابات، فمن لا تجد له الشعبية الكافية لنجاحه تسمح بتمرير ترشيحه، ومن تجد طعونًا في ترشيحه تمنعه، ومن تجد له من الشعبية ما يكفل نجاحه تُدَبِّر له ما يتم به إقصاؤه! وأبرز الشواهد في هذا الصدد قضايا المحاكمات العسكرية، التي جرت عام 1995 ضد عدد من رموز  الإخوان المسلمين الذين كانوا ينتوون ترشيح أنفسهم للانتخابات.

والمفارقة الرابعة يتضمنها تزوير الانتخابات. وهي من القضايا الأخطر في هذا الصدد، ليس بسبب طبيعة عملية التزوير نفسها، ولكن بسبب ما يرتبط بها من قضايا فرعية، فالانتخابات تتم تحت إشراف القضاء، غير أن الحكومة، من خلال وزارة العدل، تستطيع أن تؤثر على بعض القضاة، عبر ما تملكه من سلطات منح القضاة الإعارات والانتدابات والمكافآت وكذلك امتيازات العلاج بالمستشفيات الاستثمارية.. إلخ.

وبهذا السلوك تتحول الخصومة إلى مواجهة بين القضاة، مما يؤدي إلى إضعاف هيبة القضاء المصري، وتآكل قيمته المعنوية كرمز للوطن ويقظة الضمير، وكضمان لحقوق الناس.

 

التناقض بين المضمر والمعلن

كل ما هو رسمي يتم استهلاكه كموضوع لتصريحات المسؤولين في الحكومة المصرية، بينما يشكل الجانب العملي في الممارسة ما هو مُضْمَر في رؤية الحكومة المصرية للتعامل مع سيرورة الانتخابات وصيرورتها، أي كيفية إدارتها للوصول إلى النتائج المرجوة منها من حيث تعظيم نجاح مرشحي الحزب الحاكم، وتقليص نجاحات المعارضين وصولاً بهم إلى مرحلة التمثيل الرمزي ذرًّا للرماد في العيون. ومن هنا لن يكون الحديث عن المفارقة بين ما هو معلن وما هو مضمر، بل سيكون الحديث حول أسباب هذه المفارقة.

وتحضرنا في هذا الإطار مقارنة بين تصريح للرئيس مبارك حول حق أعضاء جماعة "الإخوان المسلمين" أن يرشحوا أنفسهم كأفراد في الانتخابات المصرية، وبين موقف وزارة الداخلية من انتخابات النقابات، وإلقائها القبض على مرشحي الجماعة البارزين في انتخابات النقابات، وتحويلهم إلى المحاكمة العسكرية، فَبِمَ يمكن تفسير هذه الفجوة بين تصريح السيد الرئيس ومَسْلَك وزارة الداخلية، ما لم يكن ثَمَّة عدم فهم من الوزارة لموقف الرئيس؟!

والسبب الأساسي لتلك المفارقة يَكْمُن في الرغبة المصرية في تجميل الصورة السياسية لمصر أمام الحكومات الغربية، فالدول العربية والإسلامية تواجه صعوبات في تعاملها مع الدول الغربية، بسبب ما تباشره تلك الأخيرة حِيالَها من اتهامات بانتهاك حقوق الإنسان. والمثال البارز على ذلك تركيا في إطار رغبتها في الانضمام للاتحاد الأوروبي، وكذا الحال بالنسبة إلى مصر التي تواجه الولايات المتحدة تارة تحت لافتة اضطهاد الأقباط، وتواجه الاتحاد الأوروبي تارة أخرى تحت لافتة عدم احترام حقوق الإنسان، وقد تتبدل المواقع بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتبقى قضية حقوق الإنسان المفتاح الأساسي لمحاكمة النظام المصري، ومن هنا نجد السياسة المصرية تَنْحُو نحو استيفاء الشكل الديمقراطي للانتخابات، وهي ترى في ذلك دعمًا لصورتها الذهنية التي تبغي تدشينها في إطار احترام حقوق الإنسان!

وترى الحكومة المصرية في مثل هذه الصورة الذهنية دعمًا لصورة إعلامية أساسية محتواها الاستقرار السياسي والاقتصادي؛ لتحفيز الدول الغربية على توجيه رؤوس الأموال والاستثمارات المباشرة وغير المباشرة إلى مصر، وتنشيط تدفقات السياحة إليها، والحصول على مواقع تفاوضية أفضل في إطار اتفاقات الشراكة والتجارة الحرة معها.

الاستقرار وموت السياسة

"الاستقرار" و"دولة المؤسسات" شعاران أساسيان يحكمان توجه الحكومة المصرية نحو إجراء هذه الانتخابات. وكلا الشعارين وَجْهان لعملة واحدة، فالاستقرار يعني عدم حدوث تقلبات أو ثورات في نسق التشريعات المصرية ذات التوجه الليبرالي على الصعيد الاقتصادي، ودولة المؤسسات تعني العمل في مشروعات مستقرة، والالتزام بما التزمت به الدولة أمام المجتمع الدولي، مهما اختلفت الحكومات وتعاقبت المجالس التشريعية، وفي هذا الإطار تحرص الدولة على منع "المعارضة المستقلة" عن النظام من أخذ فرصتها في الظهور والـتأثير؛ ولذلك نجد أن أقرب القوى السياسية للحكومة المصرية "حزب الوفد الجديد"، وهو حزب ذو توجه ليبرالي؛ ولذلك كان هذا الحزب أكثر أحزاب المعارضة تمثيلاً في المجلس المنصرم (1995 – 2000)، وكان القيادي الوفدي البارز ياسين سراج الدين- شقيق زعيم حزب الوفد الراحل - هو زعيم المعارضة البرلمانية.

ويمثل هذان الشعاران "الاستقرار" و"دولة المؤسسات" الوجه المصري لموضة العَوْلَمَة وشعارها "نهاية التاريخ"، و"موت الأيديولوجيا"، و"موت السياسة". فنهاية التاريخ مقولة المفكر الأمريكي ذي الأصل الياباني فرانسيس فوكوياما حول وقوف التاريخ عند أعتاب النموذج الليبرالي في التنمية، وانتصار التوجه الليبرالي على ما عداه من التوجهات الأيديولوجية. ونهاية الأيديولوجيا مفهوم يؤصل فلسفيًّا لمفهوم نهاية التاريخ من زاوية أن ثورة المعلوماتية، ووفرة البيانات والمعلومات يؤديان إلى تضييق نطاق البدائل أمام صُنَّاع القرار في أية مؤسسة من المؤسسات، سواء أكانت هذه المؤسسة دولة أم شركة أم "منظمة غير حكومية"، بما يعني أن الخلافات الجذرية في اتخاذ القرار أصبحت غير واردة، ومن ثَمَّ لا يصبح ثَمَّة حل سِوَى الحل الإجرائي، أي الحل الذي يعتمد على اتخاذ صُنَّاع القرار أنسب الإجراءات، في إطار يمنع القرارات الثورية التي تَضُرُّ باستقرار المؤسسة وموقعها في البيئة الدولية، فضلاً عن البيئتين الإقليمية والقطرية، وهو ما يعني في النهاية ضَعْف فاعلية ومردود الحلول الأيديولوجية.

أما موت السياسة فيعني أنه طالما أن البدائل المتاحة في ظل الوفرة المعلوماتية تقلل من الاعتماد على الحلول الراديكالية، فلا مجال للحديث عن اختلافات حزبية حادة، ومن هنا نجد الدول الغربية التي شهدت الطفرة المعلوماتية منذ بدايتها لا تضم أحزابًا متناحرة الأيديولوجيات، وإن وجدت أحزاب راديكالية فهي ضعيفة التأثير وهامشية الدور ومحدودة القدرة على تحقيق نجاحات انتخابية، كما أن نجاح أي حزب راديكالي يكون بسبب عنصر انتخابي عاطفي لا عمق له. ومثال ذلك الوضع، الولايات المتحدة التي لا يوجد بها حزب راديكالي إلا وهو حزب منعدم التأثير، كما أن حزبيها الكبيرين لا يكاد يوجد فارق بين برنامجيهما العامين. وقد انضمت بريطانيا إلى ذلك المنحنى اللاأيديولوجي بعد أن غَيَّر توني بلير - زعيم حزب العمال البريطاني الحاكم حاليًا - من برنامج الحزب حتى يكاد يتطابق مع برنامج حزب المحافظين، ومن ثَمَّ أصبحت المنافسة بين أشخاص وإدارة إعلامية لسلوك المرشح وليست بين برامج.

وفي هذا الإطار يمثل شعارا "الاستقرار" و "دولة المؤسسات" الصيغة المصرية لفلسفة موت الأيديولوجيا ونهاية السياسية. فالاستقرار ودولة المؤسسات شعاران فحواهما استبعاد الحلول الجذرية والرفض الثوري للوضع القائم.

وفي هذا الإطار يمكننا أن نشير إلى عدم راديكالية الغرب بصدد انتقاد العملية الانتخابية في الدول العربية، وما يحدث فيها من انتهاكات لحقوق الناخب والمرشح. فالحجة الأساسية للحكومة في الدول العربية – وهي حجة مقبولة لدى الغرب – تتمثل في الرغبة في منع الراديكاليين من زعزعة الاستقرار؛ ولذلك لا تلبث الدول الغربية أن تتراجع عن انتقاداتها للمثالب التي شابت هذه الانتخابات العربية، بمجرد أن تعلن الحكومة- أية حكومة عربية- أن الانتخابات شأن داخلي مصري. لكن العالم الخارجي يبغي – لحفظ ماء الوجه – صورة ديمقراطية لنظام الحكم  – مجرد صورة – والأنظمة بذكائها وخبرتها تمنحها هذه الصورة.

 والخلاصة أن العولمة بمفاهيمها التي أسلفنا الإشارة إليها، قد قطعت الطريق أمام تراكم النمو الديمقراطي في دول الجنوب - ومن بينها مصر - بتأكيدها هذه الواحدية، وبنفيها أية تعددية خارج نطاق تلك الواحدية.

عوامل مساعدة داخليًّا

إذا كانت البيئة الخارجية – على عكس ما يصور أصحاب المثالية الديمقراطية – لا تشجع على الديمقراطية، فإن العوامل الخارجية لا تقف وحدها في صف إجراء انتخابات صورية في مصر، بل يساندها في ذلك مجموعة من العوامل الداخلية، منها:

1- هشاشة البنية الحزبية:

الأحزاب القائمة اليوم، مثل "الوفد" و"العمل" - تستند إلى شرعية تاريخية زالت مقوماتها، وهي شرعية مقاومة الاستعمار البريطاني. والأحزاب المصرية عمومًا تفتقر إلى شعبية على مستوى القاعدة الانتخابية. وحتى الأحزاب اليسارية تفتقر إلى الوجود الفعال في الأوساط العمالية.

2- استبعاد التيار الإسلامي:

كرس التيار الإسلامي نفسه خلال العقدين المنصرمين باعتباره القوة السياسية الأساسية في مقابل الحكومة وحزبها الحاكم، وقد امتاز التيار الإسلامي بقدرته التنظيمية والتعبوية والتمويلية العالية، إلا أن النظام المصري يرفض منحه إطارًا قانونياً رسمياً، كما أن هذا التيار خلال السنوات الماضية قد عانى من قدرة على التكيف مع المستجدات الداخلية والإقليمية والدولية المحيطة به مما أضعفه.

3- احتكار المشروعية:

يحتكر الحزب الحاكم أهم مورد من موارد القوة، ألا وهو مورد صناعة المشروعية، أي صناعة الأطر القانونية وتنفيذها، وبهذه الوسيلة تعامل الحكومة المصرية خصومها من القوى السياسية، فهي ترسم إطار التفاعل السياسي من خلال ابتداع قوانين جديدة، مثل قانون مكافحة الإرهاب، أو قانون إشراف السلطة القضائية على الانتخابات، أو من خلال المحافظة على قوانين قائمة، مثل القوانين سيئة السمعة، وعلى رأسها قانون الأحزاب السياسية رقم 40 لسنة 1977.

ومن ناحية ثانية، وفي إطار احتكار مورد صناعة المشروعية أيضًا، تقوم الحكومة، عبر أذرعها التنفيذية، بمنع القوى السياسية الفاعلة من الاستفادة بإمكانيات المشروعية المتاحة، فهي - على سبيل المثال - استغلت أدواتها التنفيذية لمنع قيام أية أحزاب سياسية أخرى.

4- عزوف المصريين عن الانتخابات:

يلاحظ أنه بعد انتخابات مجلس الشعب سنة 1987 التي شاركت فيها قوى المعارضة المصرية بفعالية، وكان لها ما يقرب من مائة عضو في المجلس، يلاحظ أنه بعد هذه الانتخابات قد ازداد عزوف المصريين عن المشاركة في العملية الانتخابية، حيث ساد عندهم إحساس متزايد بأن أصواتهم غير مؤثرة في نتائج هذه الانتخابات