الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     
 

 

الجغرافية السياسية للحرب

جريدة: الأمة The nation

التاريخ: 5/11/2001م

الكاتب: مايكل كلار

القسم الأول

هناك عدة طرق لبحث الصراع بين أمريكا وشبكة اسامة بن لادن الارهابية منها الصراع بين التحررية الغربية والتطرف الشرقي، كما يتصور ذلك الأمريكان أو صراع بين المدافعين عن الإسلام واعداء الإسلام الحقيقي كما يتصور ذلك عدد كبير من المسلمين في العالم الاسلامي، أو كرد فعل سلبي متوقع ضد شر ودناءة الأمريكان في العالم كما يتصور ذلك اليساريون. ولكن هذه التحليلات السياسية والتقليدية تخفي الحقيقة الاساسية للصراع وهي ان هذه الحرب ـ وهي كالحروب التي سبقتها ـ قد تجذّرت وترسخت بقوة في المنافسة السياسية ـ الطبيعية على السعودية. ان ابعاد السياسة الطبيعية لهذه الحرب صعبة الادراك إلى حد ما لأن بداية القتال كانت في افغانستان ـ ذو الاهمية الطبيعية القليلة لأمريكا ـ وكذلك لأن عدونا الاساسي ـ ابن لادن ـ ليست لديه مصلحة ظاهرية في القضايا الاساسية. ولكن ذلك عبارة عن عملية خداع لأن المركز الرئيسي للصراع هو (السعودية) وليس افغانستان أو فلسطين ولأن اهداف ابن لادن النهائية هو ارساء حكومة سعودية جديدة وهذا يعني الاستيلاء على مخزونات النفط السعودي التي تمثل ربع احتياطي النفط العالمي. ان من الضروري الرجوع إلى الخلف لادراك ومعرفة جذور الصراع الحالي ادراكاً كاملاً وبالاخص إلى السنين الاخيرة للحرب العالمية الثانية عندما بدأت الحكومة الأمريكية بصياغة الخطط للعالم الذي ستسيطر عليه بعد الحرب العالمية الثانية ـ ومع نهاية الحرب العالمية الثانية كلف الرئيس روزفلت وزارة الخارجية الأمريكية لابتكار السياسات والمؤسسات التي ستضمن الامن والازدهار الامريكي في الفترة القادمة.

وهذا يستلزم انشاء وتصميم منظمة الأمم المتحدة ومؤسسات (ابريتون وودز) المالية العالمية والحصول على النفط بكميات كافية ووافية وهذا هو الشيء المهم والاساسي في السياسة الأمريكية الخارجية.

اعتقد الاستراتيجيون الأمريكان ان الوصول إلى آبار النفط له اهمية استراتيجية خاصة لانه العنصر الاساسي في انتصار الحلفاء على دول المحور، فعلى الرغم من أن القاء القنابل النووية على مدينتي هيروشيما وناگازاكي قد انهى الحرب إلاّ ان النفط هو الوقود الذي استخدمته الجيوش التي ركعّت المانيا واليابان. فهو القوة المحركّة لعدد هائل من السفن والدبابات والطائرات التي استطاعت حسم معركة الحلفاء مع اعدائهم الذين كانوا يفتقرون إلى مصادر النفط، لذلك فان عملية الوصول إلى آبار النفط سوف تكون حاسمة ومهمة جداً إلى التفوق الامريكي في اية صراعات مستقبلية.

ولكن من اين يأتي هذا النفط؟ كانت أمريكا تحصل على الكميات الكافية من النفط لها ولحلفائها من حقولها النفطية الواقعة في الجنوب الغربي من أمريكا ومن المكسيك وفنزويلا، ولكن معظم المحللين الأمريكان يعتقدون بأن هذه المصادر النفطية سوف لن تكون كافية لسد الاحتياجات والطلبات الأمريكية والاوربية في فترة ما بعد الحرب وكنتيجة لذلك بدأت وزارة الخارجية بدراسة مكثفة لتحديد مصادر اخرى من النفط. وقد انتهت هذه الدراسة التي كانت برآسة المستشار الاقتصادي في الوزارة (هربرت فيز) إلى ان هناك منطقة واحدة فقط تستطيع ان تزودنا بالبترول وهي المملكة العربية السعودية. ولكن كيف نحصل على ذلك النفط؟ في البداية اقترحت وزارة الخارجية تشكيل شركة النفط الحكومية لكي تحصل على امتيازات من السعودية لاستخراج النفط. كانت هذه المهمة صعبة جداً لذا حول المسؤولون الأمريكان هذه المهمة إلى شركة (ارامكو) وهي عبارة عن اتحاد مجموعة شركات امريكية نفطية رئيسية. ولكن هؤلاء المسؤولين كانوا قلقين أيضاً حول مسألة الاستقرار السعودي الطويل الأمد لذلك استنتجوا إلى ان على أمريكا ان تتبنى مسؤولية الدفاع عن السعودية.. وفي حادثة استثنائية وفريدة في التاريخ الامريكي الحديث التقى الرئيس روزفلت مع الملك عبد العزيز مؤسس النظام السعودي الحديث على متن سفينة حربية امريكية في قناة السويس بعد مؤتمر يالطا في شهر شباط عام 1945م. وعلى الرغم من عدم اعلان تفاصيل اللقاء إلاّ انه يُعتقد بأن الرئيس روزفلت قد وعد الملك بالدفاع عن المملكة وحمايتها مقابل اعطاء امتيازات لامريكا بالبحث عن النفط وهذه الاتفاقية قد بقيت ذات تأثير كامل إلى اليوم وكونت النواة الجوهرية والاساسية للعلاقات الأمريكية ـ السعودية التي زودت كلا البلدين بفوائد جمة فقد حصلت أمريكا على سدس نفطها الخام المستورد من السعودية كما حصلت شركة ارامكو والشركات الأمريكية الاخرى على ارباح هائلة من عملياتها في السعودية ومن توزيع النفط السعودي في الاسواق العالمية (على الرغم من تأميم شركة ارامكو عام 1976م إلاّ انها استمرت في ادارة انتاج النفط السعودي وتسويق المنتجات النفطية السعودية في الخارج). كما تشتري السعودية أيضاً البضائع الأمريكية بمقدار (6 ـ 10) مليار دولار في السنة وبالنسبة للسعودية فقد أصبحت دولة غنية وذات ثروة عظيمة وبسبب الحماية الأمريكية بقيت دولة آمنة من الهجمات الخارجية والداخلية.

 

القسم الثاني

ولكن هذه الشراكة الاستثنائية قد سببت في عدد من النتائج غير المتوقعة والتي اقلقتنا تأثيراتها. لقد وسعت أمريكا من تواجد قواتها العسكرية في المنطقة تدريجيا وذلك من اجل حماية السعودية من التهديدات الخارجية وقامت اخيراً بنشر الآلاف من قواتها العسكرية في المملكة، ولحماية العائلة المالكة من اعدائها في الداخل تولى الأمريكان المشاركة العميقة في اجهزة الامن الداخلي للنظام. وفي نفس الوقت فان الثروة الواسعة والكبيرة والملفتة للنظر والمتكدسة اخذت تصرف على اجهزة الفساد وليس على الشعب السعودي. كما لم يسمح النظام بممارسة الانشطة السياسية في المملكة (لا يوجد برلمان ولا حرية الكلام ولا احزاب سياسية ولا حق تكوين الجمعيات) كما يقول النظام باستخدام قوات الامن الأمريكية المدربة لقمع المعارضين له. كل هذه التأثيرات والممارسات قد ولدت المعارضة السرية للنظام وأعمال العنف، ومن هذه الارضية رسم اسامة بن لادن ايحاءاته واثاراته لاتباعه والمؤيدين له. اخذ التواجد الامريكي العسكري يزداد تدريجيا على مر السنين وابتداءاً من سنة 1945م إلى سنة 1972م. لقد فوضت واشنطن مسؤولية الحماية الاساسية إلى بريطانيا التي كانت تسيطر على المنطقة ولمدة طويلة، وعندما انسحبت القوات البريطانية من شرق السويس عام 1971م قامت أمريكا بممارسة دوراً مباشراً في المنطقة حيث ارسلت المستشارين العسكريين الأمريكان إلى المملكة وجهزت السعودية بالاسلحة الأمريكية وبكميات كبيرة جداً.

كانت بعض البرامج التسليحية والاستشارية تهدف إلى الدفاع الخارجي كما لعبت وزارة الدفاع دوراً رئيسياً في تنظيم وتجهيز وتدريب والاشراف على الحرس الوطني السعودي (SANG) وهو (الجهاز الامني الداخلي للنظام). لقد بلغت المشاركة العسكرية الأمريكية في المملكة إلى مستوى جديد عام 1979م عندما حدثت ثلاثة امور وهي الاحتلال السوفيتي إلى افغانستان وسقوط الشاه في ايران واحتلال المسجد الحرام في مكة واستجابة لذلك اصدر الرئيس كارتر صيغة جديدة من السياسة الأمريكية وهي (ان اية حركة من القوات المعادية للسيطرة على منطقة الخليج الفارسي تعتبر اعتداء على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية وسوف تواجه بكافة الوسائل الممكنة والضرورية بما فيها القوات المسلحة). وهذا التصريح الذي يعرف الآن بمبدأ كارتر هو الذي حدد الاستراتيجية الأمريكية في الخليج منذ ذلك الوقت. ولتنفيذ هذا المبدأ اسس كارتر قوات الانتشار السريع وهي مجموع من القوات الأمريكية المقاتلة المتدربة والمستعدة للانتشار في الخليج الفارسي. وقد انضمت هذه القوات اخيراً تحت القيادة المركزية الأمريكية التي تدير الآن جميع العمليات العسكرية الأمريكية في المنطقة. كما قام كارتر بنشر السفن الحربية في الخليج واتخذ الترتيبات اللازمة للاستفادة من القواعد العسكرية في البحرين وديكوگارسيا (جزيرة تسيطر عليها بريطانيا في المحيط الهندي) وعمان والسعودية حيث تم استخدام هذه القواعد خلال حرب الخليج عام 1991م وهي حاضرة للاستخدام مرة اخرى في الوقت الحاضر. ولاعتقاده بأن التواجد الروسي في افغانستان يُمثل تهديداً للسيطرة الأمريكية على الخليج وافق كارتر على بداية العمليات السرية لاضعاف النظام الافغاني. (من الضروري القول بأن النظام السعودي قد ساهم بشكل كبير في هذه المحاولة بتقديم الدعم المالي الكبير للمقاتلين ضد القوات الروسية وسمحت لمواطنيها بما فيهم اسامة بن لادن للمشاركة في الحرب كمقاتلين وممولين. ولحماية العائلة المالكة وسع كارتر المشاركة الأمريكية في عمليات وفعاليات حماية الأمن الداخلي للمملكة.

وبعد كارتر قام الرئيس ريغان بتسريع وتعجيل وتوسيع الدعم الامريكي السري إلى المجاهدين الافغان حيث وصلت قيمة الاسلحة التي اعطتها أمريكا إلى المقاتلين الافغان حوالي ثلاثة مليارات دولار. كما اصدر ريغان ملحقاً مهماً لمبدأ كارتر وهو (ان الولايات المتحدة لا تسمح بالاطاحة بالنظام السعودي بواسطة المعارضة الداخلية كما حدث في ايران وسوف لن نسمح بأن تكون (السعودية) ايران الثانية) حيث ابلغ الصحفيين بذلك عام 1981م. ثم جاءت حرب الخليج عندما احتل صدام الكويت في الثاني من شهر آب عام 1990م. كان الرئيس بوش (الاب) قلقاً على السعودية وليس على الكويت. فقد ذكر في لقاء له في كامب ديفيد في اليوم الرابع من شهر آب ان على الولايات المتحدة ان تقوم بعمل عسكري فوري لحماية السعودية من هجوم عراقي محتمل ضدها لذا ارسل وزير دفاعه (دك چيني) إلى السعودية لاقناع العائلة المالكة بالسماح بانتشار القوات البرية الأمريكية على اراضيها واستخدام القواعد الأمريكية المشاركة في عملية عاصفة الصحراء ولكن الجدير بالملاحظة هو ان القوات المسلحة الأمريكية لم تنسحب بالكامل من الاراضي السعودية بعد انتهاء حرب الخليج وانسحاب العراق من الكويت. فقد استمرت الطائرات الحربية الأمريكية بالتحليق من القواعد العسكرية السعودية لتطبيق عملية فرض حظر الطيران العراقي في الجنوب حتى لا يستطيع النظام العراق ضرب الثوار الشيعة في البصرة أو اسناد اجتياح جديد للكويت، كما شاركت الطائرات الأمريكية أيضاً في الجهود الدولية لاستمرار فرض العقوبات الاقتصادية على العراق. كما قام الرئيس كلنتون بتقوية التواجد الامريكي في الخليج حيث وسع المنشآت العسكرية هناك وعزز من قابلية القوات الأمريكية في التحرك السريع في المنطقة. كما وسع النفوذ الامريكي في بحر قزوين ـ المنطقة الغنية بالطاقة والتي تقع إلى الشمال من الخليج الفارسي.

 القسم الثالث

لقد ظهرت عدة نتائج من كل ذلك. فلقد سبب فرض العقوبات على العراق معاناة كبيرة للشعب العراقي، في حين حصدت القنابل ارواح المدنيين العراقيين، بينما فشلت أمريكا في ردع العنف الاسرائيلي ضد الفلسطينيين. ان هذه الامور قد حفزت الشباب المسلم للانضمام إلى ابن لادن، من ناحية ثانية فان ابن لادن نفسه يهتم كثيراً بشأن السعودية. فقد ركزّ جهوده بعد حرب الخليج لتحقيق هدفين وهما طرد الكفار الأمريكان من السعودية والاطاحة بالنظام السعودي الحالي واستبداله بنظام يتناغم اكثر مع معتقداته وآرائه المتطرفة. لقد وضع هذين الهدفين ابن لادن في صراع مباشر مع أمريكا وهذه الحقيقة تفسر الهجمات الارهابية ضد المنشآت والموظفين العسكريين الأمريكان في الشرق الأوسط والرموز الرئيسية للقدرة الأمريكية في نيويورك وواشنطن. لم تبدأ الحرب الحالية في (11) أيلول بل بدأت عام 1993م مع أول هجوم على مركز التجارة العالمي، ثم تبعه الهجوم على منشآت الحرس الوطني في الرياض عام 1995م، وتفجير ابراج الخبر عام 1996م ثم تفجير سفارتي أمريكا في كينيا وتنزانيا عام 1998م ثم الهجوم الاخير على الباخرة الأمريكية (كول).

كل هذه الاحداث قد توافقت مع الاستراتيجية الطويلة الامد لاضعاف التحالف الامريكي السعودي وبالتالي تدمير التحالف المتين الذين اسسه الرئيس روزفلت مع الملك عبد العزيز بن سعود. لقد عملت أمريكا في صراعها مع هذه المحاولات. على حماية نفسها ومواطنيها وقواتها العسكرية من الاعمال الارهابية، وفي نفس الوقت قوت واسندت موقعها الاستراتيجي في الخليج الفارسي. ومع عدم وجود ابن لادن في المعادلة ومعاناة ايران من الاضطرابات السياسية الداخلية وامكان شل حركة صدام حسين بواسطة الضربات الجوية الأمريكية يمكن ضمان الهيمنة الأمريكية على الخليج. ان احد مخاوف واشنطن هو ان النظام الملكي السعودي سيواجه المعارضة الداخلية المتزايدة بسبب علاقته القوية مع أمريكا ولهذا السبب لم تضغط ادارة بوش كثيراً على النظام للسماح باستخدام القواعد الجوية السعودية لضرب افغانستان وتجميد المؤسسات السعودية المالية المرتبطة بابن لادن. لذا فان لهذا الصراع ابعاد جغرافية سياسية مهمة لكلا الجانبين. فقد يقوم النظام السعودي الجديد الذي يديره ابن لادن بقطع جميع الروابط مع شركات النفط الأمريكية ويتبنى سياسات جديدة فيما يتعلق بانتاج النفط وتوزيع الثروة النفطية للبلد وهذه السياسات تسبب نتائج سيئة ومدمرة للاقتصاد الامريكي والعالمي، وبالطبع فان أمريكا تقاتل من اجل منع حدوث ذلك. لم يعترف الرئيس بوش بدور الجغرافية السياسية التقليدية للحرب في السياسة الأمريكية التي اطلقها ضد الارهاب. كما امتنع ابن لادن من التحدث في هذه المواضيع. ولكن تبقى الحقيقة قائمة بأن هذه الحرب ـ مثل حرب الخليج التي سبقتها ـ تستمد جذورها من المنافسة الجغرافية السياسية القوية ـ وفي ظل المحيط السياسي الحالي يكون من الصعب الغور بعمق في هذه القضايا ـ لقد سبب ابن لادن ومجموعته جرحاً عميقاً لأمريكا في الوقت الذي تعطي فيه أمريكا الاولوية لمنع حدوث هجمات ارهابية اخرى. لذا فان من بين الاسئلة التي ربما تطرح عند هذه المسألة هو هل ان تشجيع الديمقراطية في السعودية يساعد بشكل افضل على خدمة المصالح الأمريكية الطويلة الامد في السعودية؟ بالتأكد إذا سمُح للمواطنين السعوديين بالمشاركة في الحوار السياسي المفتوح، فان قليل منهم سوف يتجه إلى مبدأ ابن لادن في العنف ومعاداة أمريكا.

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية