الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

الإمام عبدالحميد بن باديس

المصلح الثائر

الإمام عبدالحميد بن باديس (1889 1940م)

 

بقلم: د.مولود عويمر

الإمام عبد الحميد بن باديس رائد من رواد النهضة "العربية الإسلامية" الحديثة، شهدت له أعماله بعبقريته، واعترف بعظمة جهاده كثيرون من أعلام العلماء والمفكرين من أمثال: حسن البنا ومالك بن نبي والدكتور محمود قاسم والدكتور محمد عمارة وغيرهم من علماء الإسلام، وشارل أندري جوليان وشارل روبير أجيرون وجاك بيرك وغيرهم من علماء الغرب. فما العوامل الثقافية والاجتماعية المؤثرة في بناء شخصية ابن باديس؟ وماذا عن منهجه في التغيير؟ ودوره في الحركة التحررية الجزائرية؟ كل هذه الأسئلة نجيب عنها بإيجاز في هذا المقال، مع التعرض أيضاً بصورة مختصرة لآثاره وصدى دعوته في العالم الإسلامي.

 

مولده و نشأته ولد ابن باديس في ربيع الثاني 1307 ه 4 ديسمبر 1889م. في قسنطينة، عاصمة الشرق الجزائري. وينتسب إلى أسرة غنية ومعروفة في تاريخ الجزائر، وكان جده الأكبر المعز بن باديس ملكاً عادلاً حكم الدولة الصنهاجية خمسين عاماً (406 456ه). درس عبد الحميد مبادئ اللغة العربية على الشيخ حمدان الونيسي وحفظ القرآن على الشيخ محمد المداسي، وصلى بالناس صلاة التراويح وهو مازال شاباً صغيراً. أرسله والده في عام 1908م إلى تونس لتحصيل العلم في جامع الزيتونة العريق. فدرس الأدب العربي على الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وتفسير القرآن على العالم الكبير محمد النخلي، والتاريخ العربي والإسلامي على الأستاذ البشير الصفر. وكان هؤلاء العلماء الثلاثة من خيرة أساتذة الزيتونة ورواد النهضة في تونس(1). وقال ابن باديس عن تأثير الأستاذ الصفر في شخصيته "وأنا شخصياً أصرح بأن كراريس البشير الصفر الصغيرة الحجم الغزيرة العلم هي التي كان لها الفضل في اطلاعي على تاريخ أمتي و قومي والتي زرعت في صدري هذه الروح التي انتهت بي اليوم لأن أكون جندياً من جنود الجزائر"(2) في عام 1912م تحصل على شهادة التطويع "العالمية" فعاد إلى الجزائر للتدريس والإصلاح.

في 1913م سافر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج والاتصال بعلماء الشرق، فالتقى أستاذه الشيخ حمدان الونيسي الذي صار مدرساً بالمسجد النبوي ومحمد البشير الإبراهيمي والعالم الكبير الشيخ حسين أحمد الهندي وألقى دروساً في مسجد رسول الله ص. لما أراد الاستقرار في الحجاز، نصحه الشيخ الهندي بالرجوع إلى الجزائر لخدمة دينه ووطنه. عند عودته إلى الجزائر في 1914م، مر ابن باديس بالشام واجتمع بعلمائه وأدبائه وزار مصر وعلماءها كالشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية آنذاك فأجازه. وزار أيضاً الجامع الأزهر واطلع على مناهج التدريس فيه.

 

ابن باديس مربياً

 

يعتبر ابن باديس التعليم أساس الإصلاح ويرى أن صلاح العلماء شرط لكل تغيير حضاري "لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم(...)، ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم(...)، ولن يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه في مادته وصورته"(3) أو بمعنى آخر يجب الاعتماد على القرآن، والسنة، وكتب السلف الصالح، كمقررات أساسية لتعليم النشء دينهم ولغتهم العربية الصحيحة، وتاريخ أمتهم والحفظ وسيلة، والمسجد مكاناً.

اتخذ الإمام عبد الحميد بن باديس الجامع الأخضر مركزاً لنشاطه التربوي وكان يحضر دروسه أكثر من ثلاثمائة طالب. ويدّرس فيه التفسير والحديث والفقه والعقيدة وعلم التجويد والنحو والصرف والحساب والجغرافيا. وكان يحث طلبته على تعلم اللغة الفرنسية إذ صارت مادة مقررة على التلاميذ في جمعية التربية والتعليم الإسلامية التي يشرف عليها في قسنطينة.

كان ابن باديس متواضعاً مع تلاميذه، يشجع المجتهدين ويقربهم أكثر منه. وهذا ما يؤكده واحد منهم يقول محمد الصالح رمضان "استدعاني الإمام بعد ثلاث سنوات فقط من التلمذة عليه لأعاونه في التدريس لطلابه بقسنطينة مع معاونيه، ثم عينني معلماً في مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة، ومع ذلك لم أنقطع عن دروسه العامة، وخاصة درس التفسير حتى لقي ربه".

راسل ابن باديس علماء الزيتونة والأزهر للحصول على منح دراسية لطلبته، وقد تدخل العالم المصري الشيخ محمد عبد الله دراز مرات عدة لدى شيخ الأزهر لصالح تلاميذ ابن باديس.(4) فأوفد بعثات طلابية إلى القاهرة وتونس ودمشق. وكان ابن باديس يضع آمالاً كبيرة فيها وينظم حفلة كل عام لاستقبال المتخرجين بتفوق وتكريمهم، يقول محمد الصالح بن عتيق الذي تخرَّج في جامع الزيتونة في منتصف الثلاثينيات "عدت إلى الجزائر(...) أحمل الشهادة وفرح بذلك أهلي، ولكن فرح أستاذنا العظيم كان أكثر، فقد استقبلني مع بعض الإخوان الذين فازوا في امتحان الشهادة استقبالاً رائعاً، فأقام لنا حفلاً مضيفاً(...) وأهاب بنا إلى القيام بالدعوة الإصلاحية وفي الجهة التي نكون بها(...) ولم يكتف رحمه الله بهذا الفضل(...) ونشر أسماءنا في مجلة الشهاب تحت عنوان: "نجوم الجزائر" تشجيعاً لنا وتعريفاً للأمة بنا"(5) ومن أشهر تلاميذ ابن باديس الفضيل الورتلاني، والمبارك الميلي، وسعيد البيباني، وسعيد صالحي، وعبد اللطيف سلطاني، وأحمد حماني، وعلي مرحوم، ومحمد الصالح رمضان، ومحمد الصالح بن عتيق، وباعزيز بن عمر، وسعيد الزاهري، وأحمد بن ذياب، وأحمد بوشمال...

يرى كثير من الباحثين والمؤرخين أن مشروع ابن باديس الإصلاحي امتداد لحركة الإمام محمد عبده، إذ تأثر ابن باديس في شبابه بالحركة السلفية ومدرسة محمد عبده عن طريق أساتذته بجامع الزيتونة وخاصة محمد الطاهر بن عاشور ومحمد النخلي ما بين 1908-1912م، وخلال زيارته للمشرق العربي في عام 1913م وعن طريق المجلات والصحف الإصلاحية التي كانت تصل إلى الجزائر رغم الرقابة الشديدة التي مارستها السلطة الاستعمارية، إلا أنه لا يمكن إغفال بعض الخصائص التي تتعلق بالوضع الاستعماري للجزائر وجهود ابن باديس دون إجحاف لدور محمد عبده، ويرى الدكتور فهمي جدعان أن مشروع ابن باديس الإصلاحي "جاء نتيجة للظروف التاريخية التي مرت بها الجزائر المستعمرة، ولم يجئ نتيجة تأثر مباشر بأفكار محمد عبده.(6) المشروع الإصلاحي عند ابن باديس يتمثل في المقام الأول في التركيز على تربية النشء كوسيلة لتحضير مستقبل الجزائر وتوعية الشعب الجزائري حتى يقف سداً منيعاً لسياسة الاندماج والاستيطان التي تنتهجها فرنسا في الجزائر. وقد استمد ابن باديس فلسفته من الآية القرآنية: إن الله لا يغير ما بقوم حتى" يغيروا ما بأنفسهم. (الرعد:11). وبهذا الربط بين الإصلاح التربوي المؤسساتي والسياسي، تفادى الإمام عبد الحميد بن باديس الأخطاء المنهجية التي وقع فيها رواد "المشروع التحرري"(7) الذين سبقوه، فقد ركَّز كل من جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي على التغيير السياسي، واهتم محمد عبده خاصة بالجانب التربوي.

 

نشاطه الصحافي

 

كان ابن باديس شغوفاً بقراءة الصحف والمجلات العربية كالمنار للإمام رشيد رضا، ومجلة الفتح لمحب الدين الخطيب، وجريدة المؤيد واللواء والجرائد الفرنسية(8) لاديبيش دوكونستونتين ولوتو. وعن هذه الصحف الأخيرة يقول ابن باديس "لا ننكر أننا مع المعجبين(...) بالصحافة الفرنسية الكبرى، ومالها من بديع نظام، ومهرة أقلام، وجرأة وإقدام"(9). وكان على يقين بالدور الفعَّال الذي تمارسه الصحافة في توعية الجماهير والتأثير في أصحاب القرار، وهذا ما جعله يؤسس مطبعة ويصدر جرائد لتحقيق هذه الأهداف ودعم نشاطه التربوي خارج المسجد.

في بداية يوليو 1925 أصدر العدد الأول لصحيفة "المنتقد". وكان شعارها "الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء". وفي العدد الثاني الصادر في 9 يوليو 1925م، أكد من جديد على استقلالية الجريدة وشرح فلسفتها التي تعتمد على الوفاء للوطن والجرأة في بيان الحق "إننا لسنا لإنسان، ولا على إنسان، وإنما نخدم الحق والوطن...ونكرر القول (إن "المنتقد" لا يباع ولا يشترى". أصبحت هذه الصحيفة منبراً لتوجيه وتوعية الجزائريين وقناة لنقد الوضع الاستعماري المفروض على الجزائر وصوتاً لمناصرة القضايا الكبرى للمسلمين في فترة العشرينيات كثورة الأمير عبد الكريم الخطابي في الريف المغربي ومساندة الشعب الليبي. أوقفت السلطة الاستعمارية صحيفة المنتقد بعد ظهور 18 عدداً، فكان مصيرها كالعروة الوثقى التي أنشأها جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وأوقفتها السلطات الفرنسية والبريطانية بعد صدور العدد الثامن عشر.

أصدر الإمام عبد الحميد بن باديس جريدة أسبوعية سمَّاها الشهاب ثم حوّلها إلى مجلة شهرية. تحتوي افتتاحية، ومقالات، وفتاوى، وقصصاً، وأخباراً، وطرائف، وتراجم، وعرضاً للكتب، والصحف العربية، والأجنبية، وتنشر مقالات للكتاب والشعراء العرب من مصر ولبنان وتونس والمغرب. في السنوات الأولى، كتب ابن باديس معظم المقالات وقام بتصميمها وكان يوزعها بنفسه، وكان مثله كمثل أبي الأعلى المودودي صاحب مجلة ترجمان القرآن في بداية مشواره الدعوي.

كانت لهذه المجلة شهرة واسعة في العالم الإسلامي، وشهد بفضلها كبار العلماء والمصلحين. كتب الإمام حسن البنا في افتتاحية العدد الأول من مجلة الشهاب التي أسسها في القاهرة في نهاية الأربعينيات كلمة تقدير وجهها للإمام عبد الحميد بن باديس ومجلته الشهاب "قامت مجلة الشهاب الجزائرية التي كان يصدرها الشيخ عبدالحميد بن باديس رحمه الله في الجزائر بقسط كبير من هذا الجهاد، مستمدة من هدي القرآن الكريم وسنة النبي العظيم سيدنا محمد ص. وإنا لنرجو أن تقفو "الشهاب" المصرية الناشئة أثرها وتجدد شبابها، وتعيد في الناس سيرتها في خدمة دعوة القرآن وتجلية فضائل الإسلام، على أن الفضل للمتقدم وفضل السبق ليس له كفاء". وكتب أيضاً في السياق نفسه المفكر السوري الدكتور محمد المبارك في مجلة المجمع العلمي الدمشقية أنه كان يطالع في شبابه في الثلاثينيات مجلة الشهاب الجزائرية التي تصل إلى دمشق مع مجموعة من أصدقائه الطلبة "بلهفة شديدة". وعن تأثيرها في المغرب، يقول الشيخ محمد غازي أحد علماء فاس "مجلة الشهاب الغراء (...) خدمت الإسلام والمسلمين عموماً والإصلاح والمصلحين خصوصاً، تلك الجريدة التي كان الشمال الإفريقي متعطشاً لمثلها منذ زمان.(10)

فرض الشيخ عبد الحميد بن باديس نفسه على عالم الصحافة في فترة العشرينيات والثلاثينيات وصار رائداً من رواد الصحافة العربية الحديثة وأرسى "دعائمها على أسس متينة من الإيمان بالمبدأ والوطنية والتقاليد الصحافية العالية".(11)

 

جمعية العلماء.. والصراع مع الاحتلال

 

قاوم ابن باديس المخططات الاستعمارية ميدانياً وفكرياً، ففي عام 1930م ندد بالحفلات الصاخبة التي قامت بها السلطة الفرنسية في العاصمة الجزائرية بمناسبة الذكرى المئوية لاحتلال الجزائر، واعتبر ذلك إهانة للجزائريين وفكّر في تلك الفترة في تجديد النداء للعلماء والأئمة الجزائريين لتأسيس جمعية قوية لمقاومة الاستعمار والرد على أعوانه من الطرقيين والعلماء الرسميين. فتأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 5 مايو 1931م. وعُيِّن عبدالحميد بن باديس رئيساً للجمعية، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي نائباً له، ورغم سياسة الإقصاء التي تعرَّضت لها الجمعية، إلا أنها أصدرت صحفاً عدة، تعبِّر عنها مثل: "السنة النبوية"، و"الشريعة المحمدية"، و"الصراط السوي"، و"البصائر".

كان هاجس ابن باديس الأكبر إبطال النظرية الاستعمارية الفرنسية التي أقنعت كثيراً من النخبة الجزائرية بعدم وجود أي أمة جزائرية في التاريخ وارتباط الجزائر عضوياً ومصيرياً بمستقبل فرنسا. وكان على ابن باديس أن يقدم بديلاً فكرياً لدحض هذه الأفكار التي صارت مع مرور الزمن مسلَّمات في الأذهان ومقدسات يحميها القانون والدستور الفرنسي. وفي ضوء هذه المعطيات يجب أن يدرس فكر هذا المصلح حتى لايظلم بغير علم فهماً وتقييماً واتباعاً. لا يرى ابن باديس تناقضاً في دعوته إلى القومية الجزائرية مع عالمية الإسلام إذا قام كل مسلم في وطنه بواجبه نحو دينه وبلاده: "ليس ما ندعو إليه، ونسير على مبادئه من الإصلاح، بالأمر الذي يخص المسلم الجزائري ولا ينتفع به سواه، كلا، فإن صحة العقيدة، واستنارة الفكر، وطهارة النفس، وكمال الخلق واستقامة العمل وهذا هو الإصلاح كله مما يشترك في الانتفاع به جميع المسلمين، بل جميع بني الإنسان. وإنما نذكر المسلم الجزائري، لإشعاره بوجوده، فيعمل لإسلامه وجزائريته، فيكون ذا قيمة ومنزلة في المجموع".

ولكن إذا كان ابن باديس صارماً في مواقفه الوطنية، فلماذا زار باريس في يوليو 1936م مع وفد المؤتمر الإسلامي الجزائري الذي ضم قادة الحركة الوطنية من السياسيين و العلماء؟ ولماذا التقى رئيس الحكومة الفرنسي وبعض الوزراء والأحزاب الفرنسية؟ لقد انتقد المفكر الجزائري مالك بن نبي هذه المشاركة في كثير من كتبه، إذ رأى فيها انحرافاً لمبادئ "الشهاب"، و"المنتقد". ولكن حقيقة الأمر أن ارتباط ابن باديس بالعمل السياسي لا يعود إلى عام 1936م كما هو واضح مما سبق ومواقفه السياسية التي عبَّر عنها في منشوراته الصحفية لم تشغله عن أعماله التربوية والتعليمية. وشارك في المؤتمر الإسلامي الجزائري لأنه رأى فيه إجماعاً للجزائريين ورافق الوفد الجزائري إلى باريس لتقديم مطالبه مباشرة للسلطة العليا الفرنسية بعد فشل كل المحاولات السابقة مع ممثليها في الجزائر.

حاربت فرنسا جمعية العلماء ووضعت في مسيرتها الدعوية كل العقبات. ففي 16 فبراير 1933م نشر والي العاصمة بياناً هاجم فيه جمعية العلماء واتهمها بالعمالة للجامعة الإسلامية. وبعد يومين أصدر قراراً بمنع العلماء من التدريس والإرشاد في المساجد دون رخصة من السلطة الفرنسية. وبلغ الصراع أوجه في عام 1938م، إذ أصدر وزير الداخلية الفرنسي قانون 20 يناير للتضييق على نشاطات الجمعيات والنوادي الثقافية والرياضية التابعة لجمعية العلماء، وبقرار 8 مارس الصادر من الوزير نفسه، أغلقت مدارس حرة عدة، واعتقل كثير من العلماء بذريعة عدم امتلاك الرخصة.(12)

 

وفاته و آثاره

 

توفي ابن باديس في 8 ربيع الأول 1359ه 16 أبريل 1940م، وحضر جنازته نحو 50 ألف شخص، رغم كل العراقيل التي وضعتها سلطة الاحتلال. وقد صرح مصالي الحاج رئيس حزب الشعب الجزائري ورائد الحركة السياسية الجزائرية "أن وفاة هذا الزعيم الروحي تعتبر أكبر كارثة لا على الإسلام وحده، بل على الحزب الوطني أيضاً"(13) واتهمت إذاعة برلين التي كان ينشط فيها كثير من أتباع الأمير شكيب أرسلان، والمفتي أمين الحسيني، السلطة الفرنسية باغتيال الإمام ابن باديس بالسم. وهذا أمر وارد وإن كان يحتاج إلى أدلة قاطعة للتسليم به.

حقق الإمام عبد الحميد بن باديس كتاب "العواصم من القواصم" للإمام أبي بكر بن العربي وطبعه على نفقته الخاصة. ولم يؤلف في حياته كتباً وإنما قام تلميذه محمد الصالح رمضان من بعده بجمع تفسيره وشرحه للحديث النبوي ودروسه في العقيدة، وتاريخه للصحابة تحت هذه العناوين مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، مجالس التذكير من حديث البشير النذير، العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، رجال السلف ونساؤه. وفي عام 1968م، جمع الدكتور عمار الطالبي جزءاً كبيراً من آثار الشيخ ابن باديس ونشرها في الجزائر في أربعة أجزاء. و قد اعترف في مقدمة الجزء الأول من الكتاب أنه لم يعثر إلا على جزء من أعمال ابن باديس. صار من المعلوم لدى المؤرخين أنه لم يؤلف كتباً وآثاره التي لم تحقق بعد هي في معظمها مقالات كتبها في مختلف جرائد جمعية العلماء والدروس والمحاضرات التي ألقاها في المساجد والمناسبات الدينية في الجزائر وخارجها.

نجحت دعوة ابن باديس رغم كل المثبطات والعقبات، في إحياء الإسلام في الجزائر، ونشر اللغة العربية وغرس الروح الوطنية وزرع بذور ثورة التحرير التي أنبتت استقلالاً في يوليو 1962م، وصدق الشيخ محمد البشير الإبراهيمي حين كتب في جريدة البصائر "يموت العظماء فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابي الذي يرجع إلى أصله، وتبقى معانيهم الحية في الأرض، قوة تحرك، ورابطة تجمع ونوراً يهدي، وعطراً ينعش".