ولد
الأستاذ محمد عبد القادر المبارك في
دمشق عام 1912م ، في حي قريب من الجامع
الأموي ، وكان لذلك القرب أثره فيه ،
حيث كان يتردد مع أقرانه إلى المسجد
الأموي باستمرار للصلاة ولحضور
الدروس الدينية التي كانت لها حلقات
بعد الصلوات الخمس .
كان والده
الشيخ عبد القادر المبارك عالماً
مشهوراً في دمشق ، حيث كان أعجوبة في
حفظ مفردات اللغة وغريبها ، وكان من
أعضاء اللجنة التي أُلِّفَت في عهد
الملك فيصل الأول لتعريب المصطلحات
العسكرية ، واختير عضواً في المجمع
العلمي العربي بدمشق ، وشارك في وضع
كثير من المصطلحات ، كلفظ " الهاتف
" الذي هو من وضعه بدل كلمة "
تليفون " . وكانت دار والده مقصداً
للعلماء الوافدين من بلاد الشام
والعرب كافّة ، وكان الأستاذ محمد
المبارك دائم الحضور لتلك اللقاءات
والندوات مما وسّع آفاقه منذ الصغر .
درس
الأستاذ محمد المبارك في المدارس
النظامية الحكومية ، وفي المدراس
القديمة على الشيوخ وفي الحلقات .
وكان من المتفوقين في دراسته ، خاصّة
في اللغة العربية والرياضيات واللغة
الفرنسية . حصل على الشهادة الثانوية
في القسم العلمي عام 1932م . ولما كان
متفوقاً في اللغة العربية فقد اختار
دراستها في مدرسة الآداب العليا (
كلية الآداب ) ، بالاضافة لدراسة
الحقوق ، وتخرج فيهما عام 1935م .
وكان خلال
دراسته في المدارس النظامية يدرس في
الصباح الباكر ، وفي المساء وفي
الإجازة الصيفية على شيخ علماء الشام
في عصره المحدّث الشيخ محمد بدر الدين
الحسني ، وكان من أوسع أهل زمانه
اطلاعاً على العلوم الإسلامية
القديمة بجميع فروعها من الحديث
والتفسير حتى الرياضيات ، وقد لازمه
منذ نهاية دراسته الابتدائية حتى
نهاية دراسته الجامعية ، واستفاد
كثيراً من علمه ، وقرأ عليه النحو
والصرف والتفسير ومصطلح الحديث
والفرائض وأصول الفقه والكلام
والبلاغة والحساب والجبر والهندسة .
بعد
تَخَرُّج الأستاذ المبارك في الجامعة
، تقدم إلى مسابقة بعثة للتخصص في
الآداب في فرنسا ، فنجح فيها ، وكان
ترتيبه الأول .
سافر
الأستاذ المبارك إلى فرنسا ، ودرس في
معهد الدراسات الإسلامية التابع
لجامعة السوربون فدرس في السنة
الأولى الأدب العربي والثقافة
الإسلامية ، وخصص السنة الثانية
بكاملها لدراسة الأدب الفرنسي ، أما
السنة الثالثة فخصصها لدراسة علم
الاجتماع . يقول الأستاذ المبارك عن
هذه الدراسة : ( إن هذه الدراسة وسعت
آفاقي وأكسبتني بعض المزايا الفكرية
، ولكنها لم تستطع أن تؤثر في
معتقداتي ولا أن تغزو عقلي ، بل
أثارني جانبها السلبي وحفّزني للرد
عليها ) .
ولم تقتصر
دراسة الأستاذ المبارك في فرنسا على
ما يتلقاه في الجامعة ، بل كان يحضر
المنتديات والمحاضرات العامة،
ويتردد على مختلف المعاهد العلمية ،
ويتصل بالمجتمع اتصال بحث وتعرف
استعداداً لاستثمار هذه المعرفة في
مجال الدعوة الإسلامية .
حصل
الأستاذ المبارك بعد أن أنهى دراسته
في فرنسا على شهادة الليسانس في
الآداب من السوربون عام 1937م ، ودبلوم
في علم الاجتماع والأخلاق عام 1938م .
وخلال
دراسته الجامعية في دمشق وفرنسا ، كان
للأستاذ المبارك نشاط قوي ، فقد عمل ـ
على سبيل المثال ـ عملاً جاداً في
مقاومة إحلال التشريع الغربي الذي
كانت فرنسا تسعى لإحلاله محل التشريع
الإسلامي عام 1935م ، وفي باريس كان له
نشاط مع رجال جمعية العلماء المسلمين
الجزائريين ، ورتب حملة مع صديقه
الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري رحمه
الله للنص على ( الإسلام ) في الدستور
السوري ، وبعد عودته من فرنسا باشر
العمل الدعويّ مع أصدقاء له كانوا قد
أسسوا في كل من حلب ودمشق جمعيات
إسلامية نشطة تعمل في الدعوة
الإسلامية . وكان هذا النشاط يتمّ إلى
جانب العمل الوظيفي ، فقد عمل مدرساً
للغة العربية في المدرسة الثانوية
بحلب لمدة سنتين .
وكان
للأستاذ المبارك نشاط متواصل في
إلقاء محاضرات عامة على مختلف
المستويات ، ولم يقتصر نشاطه على
المدن ، بل كثيراً ما كان يخرج مع فريق
من الشباب إلى القرى للدعوة والتوعية
. ثم تطوّر هذا النشاط حتى شمل
المشاركة في أكثر المؤتمرات
الإسلامية التي عُقدت في العالم
الإسلامي .
وبعد جلاء
القوات الفرنسية عن سورية عام 1946م ،
عُين الأستاذ المبارك عضواً في
اللجنة الفنية للتربية لوضع الخطط
والمناهج التربوية والتعليمية
ومفتشاً لمادتي اللغة العربية
والدّين في سورية كلها ، وقد أخذ منه
هذا العمل كل وقته ، وكان فيه تغيير
جذري للمناهج السابقة ، حيث بيّن فيها
للجيل المسلم منذ صغره أن الإسلام دين
شامل يصلح لكل زمان ومكان .
وفي سنة 1946م
أُقْصِيَ الأستاذ المبارك عن التفتيش
، وذلك بسبب ما قام به من أنشطة
إسلامية في المحافظات التي كان
يزورها للتفتيش ، وذلك بإلقاء
المحاضرات العامة في أهم الموضوعات
المتعلقة بالإسلام والتعريف بدعوته
أو بالقضايا الإسلامية المعاصرة . هذا
النشاط الإسلامي ضايق أعداء الله
فأبعدوه عن عمله هذا ، لكنه بقي عضواً
في اللجنة الفنية التربوية لوضع
الخطط والمناهج التربوية والتعليمية
بقي
الأستاذ المبارك في عمله هذا حتى عام
1947م ، حيث شهدت سورية ـ في هذه الفترة
ـ نشاطاً سياسياً كبيراً ، وبدأت
محاولات تشكيل مجلس نيابي ، وفي هذه
الفترة ( 1945 ) تأسست جماعة الإخوان
المسلمين في سورية بقيادة الدكتور
مصطفى السباعي رحمه الله ، إذ شارك
الأستاذ المبارك في تأسيسها ، حيث كان
الساعد الأيمن للسباعي ، ومستشاره
السياسي والتنظيمي والاجتماعي ، وكان
يتناوب مع الدكتور السباعي في إلقاء
المحاضرات في المركز العام للجماعة ،
وكان يصحب السباعي في رحلاته
وزياراته لمراكز الجماعة في سورية 00000
ومع محاولات تشكيل المجلس النيابي
كما أسلفنا ، رأى المفكرون المسلمون
أن يخوضوا هذه الانتخابات ليكون
للإسلام صوت مسموع في المجلس النيابي
، فقدّم الأستاذ المبارك استقالته من
الوظيفة ليقوم بترشيح نفسه عن مدينة
دمشق ، ونجح هو ونخبة من الإخوان في
هذه الانتخابات . وبعد سنتين ، وعلى
إثر انقلابين عسكريين ، انْتُخِبَ
مجلس جديد بصفة مجلس تأسيسي لوضع
الدستور في سورية ، وقد نجح في هذا
المجلس عدد من ممثليّ جماعة الإخوان
المسلمين ، من بينهم الأستاذ المبارك
، حيث تمّ تعيينه وزيراً للأشغال
العامة ثمّ وزيراً للمواصلات ثمّ
وزيراً للزراعة . وكان ممثلاً للجبهة
الإسلامية في المجلس ، واستمر
الأستاذ المبارك يُعبّر عن الفكرة
الإسلامية في مجلس النواب إلى أن
انتهت مدة المجلس عام 1958م وكانت
الوحدة بين مصر وسورية ، ولم يعد ثمة
مجال للتعبير الحر عن الأفكار فانصرف
إلى العمل العلمي ، ولم يشارك بعدها
في العمل السياسي .
في عام 1954م
أُسست كلية الشريعة في سورية بجهود
الإخوان المسلمين وقائدهم السباعي ،
فشارك الأستاذ المبارك في وضع
مناهجها ، ودرّس فيها كذلك موادّ عدّة
. وبعد مرض السباعي الذي كان عميد
الكلية ، تسلّم الأستاذ المبارك
عَمَادة كلية الشريعة في عام 1958م إلى
عام 1964م ، حيث انتقل بعدها إلى جامعة
أم درمان الإسلامية في السودان ، وعمل
فيها من سنة 1966م إلى سنة 1969م أستاذاً
ومشاركاً في التخطيط ورئيساً لقسم
الدراسات الإسلامية ، ثم انتقل بعدها
إلى السعودية بناءً على طلب من وزير
المعارف السعودي ، فعُيّن أستاذاً و
رئيساً لقسم الشريعة والدراسات
الإسلامية في كلية الشريعة بمكة
المكرمة ، وبقي في هذا العمل أربع
سنوات ، ثم عُيّن أستاذاً باحثاُ
ومستشاراً في جامعة الملك عبد العزيز
بجدة ، وكذلك في الجامعة الأردنية .
كان
الأستاذ المبارك خلال حياته وعمله
يهتم بمشكلات الأمة الإسلامية ،
ويحاول إيجاد الحلول لها فضلاً عن
اهتمامه بأمور الفكر والعقيدة . وكانت
له اتصالات مع كبار المستشرقين
والأساتذة الأجانب المهتمين
بالدراسات العربية والإسلامية ، وكان
أثره فيهم عميقاً وواضحاً . كما كان له
صلات مع المفكرين الفرنسيين الذين
تأثروا بالإسلام ثم اعتنقوه ، منهم :
موريس بوكاي ، وروجيه جارودي ، وجال
أوسترويد ، وزيغريد هونكه .
بقي
الأستاذ المبارك يعمل في جامعة الملك
عبد العزيز في جدة حتى وافته المنية
في المدينة المنورة عام 1981م ، ودفن في
البقيع الطاهر .
باشر
الأستاذ المبارك الكتابة وهو مايزال
طالباً ، وترك عدداً من الكتب
المطبوعة والمخطوطة .من كتبه
المطبوعة
الأمة
العربية في معركة تحقيق الذات
ـ الفكر
الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار
الغربي
ـ نحو
إنسانية سعيدة .
ـ الأمة
والعوامل المكونة لها
ـ نظام
الإسلام ( العقيدة والعبادة )
ـ نظام
الإسلام ( الاقتصاد ) .
ـ نظام
الإسلام ( الحكم والدولة )
ـ ذاتية
الإسلام .
المشكلة
الثقافية .
ـ من منهل
الأدب الخالد
ـ نحو وعي
إسلامي
ـ خصائص
العربية
ـ فقه اللغة
وغيرها
رحم الله
الأستاذ محمد عبد القادر المبارك
رحمة واسعة ، وأجزل له المثوبة على
ماقدم لأمته وجماعته ، ورزقنا أمثاله
من العلماء العاملين .