الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

رائد الصحافة الإسلامية الصحفي الداعية صالح عشماوي

بقلم المستشار عقيل

أول ما عرفت الأستاذ الكبير صالح عشماوي من خلال قراءاتي لمجلة (الإخوان المسلمون) التي تصدر بمصر، وذلك في سنة 1944م حيث كانت تصل إلى البصرة لبعض المشتركين، ثم توالى وصولها بكميات كبيرة سنة 1946م عن طريق مكتبة الإخوان المسلمين بالبصرة لصاحبها يعقوب عبدالوهاب، ولمكتبة الإخوان المسلمين في الزبير لصاحبها عبدالرزاق الصانع. وكنت أحرص على قراءة مقالات الأستاذ صالح التي تتميز بالقوة والجرأة والصراحة، وبخاصة ما كان منها ضد الظلم والطغيان والاستبداد السياسي، الذي كانت تمارسه الحكومات العميلة المدعومة من الاستعمار الأجنبي وبخاصة الإنجليزي والفرنسي آنذاك، ثم كان لقائي به أول وصولي إلى مصر سنة 1949م، للدراسة الجامعية حيث كان يتولى مسؤولية الإخوان المسلمين بعد استشهاد الإمام حسن البنا وقبل اختيار الأستاذ حسن الهضيبي كمرشد عام للإخوان المسلمين، وقد تكررت لقاءاتي به كثيراً جداً بحيث لايمر أسبوع دون زيارته لتلقي التوجيهات والتعليمات والأخبار التي تهم الإسلام والمسلمين. وكانت أعداد الطلبة الوافدين من خارج مصر كبيرة جداً وبخاصة من إفريقيا والعالم العربي وآسيا، ومعظم هؤلاء الطلبة كانت صلتهم بالإخوان المسلمين جيدة وعلاقتهم بهم وثيقة، لأن طلاب الإخوان المصريين يهتمون بطلبة البعوث الإسلامية الوافدين من خارج مصر، ويقدِّمون لهم العون للالتحاق بالمعاهد والجامعات ويساعدونهم في الدراسة وتهيئة السكن ولوازم الدراسة وكل الخدمات التي يحتاجها الطالب المغترب، وذلك بدون مقابل، مما كان له أوقع الأثر في نفوس المغتربين، الذين وجدوا في الإخوان المسلمين ضالتهم، وعوضوهم في غربتهم عن أهاليهم وبلدانهم، وأصبح شيئا مألوفاً أن ترى مجموعات من الطلبة الوافدين في الجامعات والمعاهد المصرية، تحيط بهم مجموعات من طلبة الإخوان المسلمين المصريين. إن الأستاذ صالح عشماوي صاحب قلم متمرس بالكتابة لأنه الصحفي الإخواني الذي تولى التحرير لصحافة الإخوان المسلمين منذ صدورها إلى توقفها في عهود الظلم والطغيان، وكم من مرة عطلت الصحيفة وأودع الأستاذ صالح السجن، ولكن لم يضعف ولم يتوقف عن قول كلمة الحق ابتغاء مرضاة الله تعالى. وهو رجل ضعيف البنية يعيش بكلية واحدة، ولكنه قوي الإيمان، ثابت الجنان، فيه سمات الزاهدين والعارفين بالله، مع الحزم والصلابة والشجاعة والصبر والثبات. وهو من مواليد 1911م التحق بالإخوان المسلمين سنة 1931م وتخرج في كلية التجارة سنة 1932م واختير وكيلاً للإخوان المسلمين سنة 1936م ورأس تحرير مجلة (النذير) سنة 1937م وتولى رئاسة تحرير مجلة (الإخوان المسلمون) الأسبوعية سنة 1943م ورئاسة تحرير الجريدة اليومية سنة 1946م وعين وكيلاً عاماً لجماعة الإخوان المسلمين خلفاً لأحمد السكري، ورأس تحرير مجلة المباحث القضائية ومجلة الدعوة سنة 1951م، وفي نفس العام 18 أبريل قاد مظاهرة كبرى إلى البرلمان المصري، تطالب بإسقاط قانون نظام الجمعيات، الذي يراد من ورائه تكبيل حركة الإخوان المسلمين، وقد تم بالفعل سقوط هذا القانون، حيث رفضه مجلس النواب، وكنتُ مع الطلبة الأزهريين الذين شاركوا في هذه المظاهرة الإخوانية التي كانت هتافاتها الله أكبر ولله الحمد، الله غايتنا، والقرآن دستورنا، والرسول قدوتنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا، الإسلام نظام لايحده نظام. ولقد زرته مع الشيخ أبي الحسن الندوي أكثر من مرة في بيته ومكتبه بالقاهرة سنة 1951م. والأستاذ صالح عشماوي كان رئيس النظام الخاص سنة 1941م ثم تركه حيث تولاّه عبدالرحمن السندي، وكان في مقدمة المعتقلين بعد حل الإخوان المسلمين في 8-12-1948م أيام حكم محمود النقراشي. وفي سنة 1954م حين أعلن الطاغية عبدالناصر حربه على الإخوان المسلمين باعتقالهم ومصادرة مؤسساتهم، وتعطيل نشاطهم، حافظ الأستاذ صالح عشماوي على رخصة مجلة (الدعوة) والتي كان يُصدر بعض الأعداد منها، حتى لا تسقط الرخصة، وقد حاولت الدولة احتواءه، ولكنه صمد أمام كل المغريات، ورفض إغراءات المناصب بكل شمم وإباء، وظلَّ على وفائه لدعوته، رغم ما وقع من خلاف بين الإخوان، بشأن الموقف من انقلاب عبدالناصر وزمرته. وحين منَّ الله على الإخوان المسلمين بالخروج من السجون سنة 1974م ذهب الأستاذ صالح عشماوي إلى الأستاذ عمر التلمساني، المرشد الثالث للإخوان المسلمين، ووضع نفسه ومجلته في تصرّف الإخوان حيث أعادوا إصدارها سنة 1976م وظلت مجلة (الدعوة) لسان حال الإخوان المسلمين، إلى أن عُطلت سنة 1981م بعد الصدام مع السادات الذي ارتمى بأحضان اليهود واستجاب لمطالبهم بمحاربة أعداء التطبيع ومعاهدة (كامب ديفيد) وفي مقدمتهم الإخوان المسلمين الذين أودعهم السجون وفي مقدمتهم عمر التلمساني وصالح عشماوي والسنانيري وغيرهم. يقول الأستاذ صلاح عبدالمقصود في مجلة "الإرشاد" اليمنية بعددها الخامس للسنة السادسة سنة 1404هـ "انتقل صالح عشماوي رائد الصحافة الإسلامية عن عمر (72) إلى جوار ربه بعد حياة حافلة بالجهاد والتضحية في سبيل الله في يوم الأحد 6 من ربيع الأول سنة 1404هـ الموافق 11-12-1983م. مضى بعد حياة كلها معاناة وتعب وجهاد... اضطُهد وسجن وعُذِّب وحُورب، فما وهن لما أصابه في سبيل الله، وما ضعف وما استكان وظل ثابتاً على العهد إلى أن لقي ربه... رافق الإمام الشهيد حسن البنا، وكان عضواً في مكتب الإرشاد العام، ثم وكيلاً عاماً لجماعة الإخوان المسلمين... تولى قيادة الجماعة لمدة عامين ونصف بعد استشهاد الإمام حسن البنا في فبراير 1949م إذ إنه طبقاً لقانون الجماعة أنه عند غياب أو وفاة المرشد العام ينوب مكانه الوكيل العام للجماعة، وكان الأستاذ صالح عشماوي الوكيل للجماعة وقتئذ، وكانت هذه الفترة (30 شهراً) من أصعب الفترات في حياة الجماعة، إذ إنها كانت مليئة بالامتحانات، فبعد صدور الأمر العسكري، وحلِّ جماعة (الإخوان المسلمون) في 8-12-1948م، ومصادرة أملاكها ومؤسساتها وإلغاء صحفها وبعد اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا في 12-2-1949م رأى حكام العهد، أن الإخوان المسلمين حقيقة قائمة، وأمر واقع، لا مجال لإنكاره، ومن ينكره كان كمن ينكر ضوء الشمس في وسط النهار، فحاولوا أن يتخلصوا من هذا الموقف، بإعادة الإخوان بغير اسمهم، فكتب الأستاذ صالح عشماوي مقالة قوية بعنوان "ثبات" جاء فيها: "إن الذين ملّوا الكفاح، وضعفوا عن أعباء الجهاد، ويريدون أن يستريحوا باسم غير اسمهم، وبوجوه، غير وجوههم ولأهداف غير أهدافهم، أمرهم إلى الله ونسأل لهم الهداية، ولهم أن يعتكفوا في صمت وهدوء، ولكن ليس لهم أن يحاولوا خداع أحد، أو يشقوا طريق المؤمنين الثابتين، أما المؤمنون الصادقون، فلن يعملوا باسم غير اسمهم، ولن يظهروا للناس بوجوه غير وجوههم، ولن يجاهدوا من أجل أهداف غير الأهداف التي قاتلوا في سبيلها، وسيفشل معهم كل إغراء ووعد، كما فشل من قبل كل بطش ووعيد فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون (60) (الروم).

 

لقد ظل ـ رحمه الله ـ لمدة نصف قرن يدافع بلسانه وقلمه عن دعوته.... دعوة الإسلام ... يقول الحق ولم يخشَ في الله لومة لائم حتى لقي ربه" انتهى..

تلك هي كلمة الصحافي الشاب صلاح عبدالمقصود في حق أستاذه شيخ الصحافة الإسلامية ورائدها الأستاذ الكبير صالح عشماوي.

لقد كان الأستاذ صالح عشماوي بحق رائد الصحافة الإسلامية حيث قام بتطويرها وبذل كل جهد مستطاع، لتحويلها من صحافة تقليدية، إلى صحافة حديثة، ملتزمة بمنهج الإسلام ومستفيدة من الفن الصحفي المعاصر، الذي يُعنى بالإخراج والخبر والتحقيق الصحافي ويتابع الأحداث ويحللها ويعلِّق عليها، مع الأَبواب المتنوعة التي تُغطي جوانب المعرفة وتقدِّم للقراء أحدث الأخبار وأدق التعليقات، وأعمق التحليلات، مع الصورة المشرقة، والفن الرفيع، والعرض الشيِّق، الذي يجذب القارئ ويشوِّقه لقراءة موضوعاتها في صفحاتها المتنوعة، ذات الطابع الإسلامي المعاصر، في عرض الخبر الصادق، بعيداً عن التهويل والمبالغة والتشويش والإثارة التي تلجأ إليها بعض الصحف متخذة الوسائل غير المشروعة للتسويق.

يذكر الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه القيِّم "مذكرات سائح في الشرق العربي" عن الأستاذ الكبير صالح عشماوي فيقول:

"... كتبت من مكة المكرمة إلى الأستاذ صالح عشماوي أخبره بسفري إلى مصر، ورغبتي في الاجتماع به، وقد جاء الأخ عبدالله العقيل لزيارتي في السكن بالقاهرة وأخبرني بأنه سيصحبني إلى مكتب الأستاذ صالح عشماوي فخرجت معه وظل طول الطريق يتحدث عن حركة الإخوان المسلمين ورجالها البارزين وقد جاء ببعض مؤلفات الأستاذ الغزالي هدية لي.

وقابلت الأستاذ صالح عشماوي وكلانا مشتاق إلى صاحبه، وتعانقنا وتعانقت القلوب الخفاقة مع الأجسام وكأننا أصدقاء من زمن طويل.

وفي يوم آخر اجتمعت مع الأستاذ صالح عشماوي في إدارة مجلة الدعوة وأطلعته على الكلمة التي أريد أن أوجهها إلى الإخوان المسلمين فاستحسنها واتفقنا على أن أُلقيها أولاً في حفلة خاصة للإخوان، ثم تنشر بعد ذلك في مجلة الدعوة وهي بعنوان "أريد أن أتحدث إلى الإخوان" وفي الغد زارنا الأستاذ صالح عشماوي والأستاذ سعد الدين الوليلي، ثم كان اجتماعي بعد ذلك مع أعضاء مكتب الإرشاد العام، أذكر منهم الأستاذ صالح عشماوي والأستاذ عبدالحكيم عابدين والأستاذ فريد عبدالخالق والشيخ أحمد حسن الباقوري والصاغ محمود لبيب والأستاذ منير دلة والأستاذ عبدالحفيظ الصيفي وآخرين.

وقدَّمني الأستاذ صالح عشماوي إلى الأساتذة وذكر أني قدمت كلمة لهذه الجلسة ورحَّب الإخوان بها وقرأت هذه الكلمة "أريد أن أتحدث إلى الإخوان" فسمعوها بإصغاء تام، وإقبال عظيم، والأثر يبدو في وجوههم وعيون بعضهم، وبعد ما انتهيتُ منها، تكلم الأستاذ عبدالحكيم عابدين، وألقى كلمة لطيفة في الترحيب بهذه الكلمة وأنه وجد فيها صورة صادقة لفكرة الأستاذ المرشد حسن البنا، ونفحة من نفحات تفكيره رحمه الله تعالى، وأنه وأصحابه مغتبطون جداً بهذا التوجيه الأخوي ومقدِّرون له، واستأذنني في نشر هذه الكلمة فقبلتُ ذلك بكل سرور".

هذه لمحة عن أستاذنا الجليل الأستاذ صالح عشماوي شيخ الصحافة الإسلامية ورائدها عسى الجيل الجديد من أبناء الصحوة الإسلامية يعرف دور هؤلاء الرواد الأوائل الذين شقوا الطريق بكل عز وإصرار وجرأة وثبات وإيمان ويقين فكانوا النماذج العملية للإسلام الحي المتحرك.

في سنة 1938م كتب الأستاذ صالح عشماوي في مجلة "النذير" لسان الإخوان المسلمين وكان رئيس تحريرها آنذاك كلمة بعنوان: "كيف غيَّرتني دعوة الإخوان؟"، فقال: "وأخلو إلى نفسي وأسألها عن غايتها، فأراها كعهدي بها منذ عرفت الإخوان، حافظة للعهد، راسخة الإيمان، اتخذت من الله غايتها، وأسألها عن آمالها، فأجدها وجدت آمالها بعد أن حددت غايتها، فلم يبق لها إلا أمل واحد، وإنه كل أملي في الحياة، ولعلك تدهش سيدي القارئ ـ إذا علمت أن هذا الأمل هو الموت في سبيل الله... نعم هو فناء ولكن في الحق.... لعمري إنه عين البقاء... ولست أدري هل قدر لي الموت على فراشي كما يموت الجبناء؟! أم سيتم الله نعمته عليَّ فيلحقني بالشهداء... ذلك علمه عند ربي وما كنا للغيب حافظين...".

رحم الله أستاذنا المجاهد وبارك في جهوده، وحشرنا الله وإياه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً