الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

العقوبات المعدلّة والحرب المستمرة على العراق

د.إبراهيم علوش

صوّت مجلس الأمن بالإجماع يوم 14 أيار/مايو 2002 على القرار رقم 1409 الذي يعدل مجدداً نظام العقوبات المفروض على العراق منذ القرار 661 الصادر في شهر آب /أغسطس1990 ، حين فرض مجلس الأمن "جزاءات شاملة على العراق عقب اجتياحه قصير الأمد للكويت" . وبعد أكثر من عقد على هذا الاجتياح "قصير الأمد" (حسب التعبير الدقيق لموقع الإنترنت التابع لمكتب برنامج العراق/ الأمم المتحدة)، تقول دوائر صنع القرار في واشنطن ولندن أن القرار 1409 يهدف إلى تسهيل دخول السلع المدنية، التي لا يمكن أن تفيد في أية استخدامات عسكرية، إلى العراق. لماذا وضمن أي سياق؟ هذا ما ستتطرق إليه السطور التالية، ولكن دعونا أولاً نتأمل في ديباجة القرار 1409 التي تؤكد فيما تؤكده على سيادة العراق ووحدة أراضيه، على الرغم من أن الديباجة نفسها لا تتسم بأهمية قانونية إلا عند من يُسترضون معنوياً بالديباجة ليوافقوا على النص.

ففي اليوم التالي لنشر نص القرار 1409 في الصحف العربية والعالمية، أفردت صحيفة عالمية معروفة هي الانترناشونال هيرالد تريبيون صفحاتها يوم 16 أيار/مايو 2002 لتقريرٍ عن ما يدور في أذهان الساسة الأمريكيين والبريطانيين إزاء العراق: مشروع لتفكيك العراق إلى كيان فيدرالي من ثلاثة أجزاء، مع جهاز تنفيذي وتشريعي وأمني لكل منها، على أن يبقى التمثيل الخارجي والدفاع بيد الحكومة المركزية. هذا المشروع يعني فعلياً فتح الطريق لتقسيم العراق، ضمن سياق مشروع "الشرق الأوسط الجديد" لتفتيت الوطن العربي كما أشارت أكثر من وثيقة، إلى ثلاث دول واحدة منها كردية في الشمال وأخرى سنية في الوسط وثالثة شيعية في الجنوب، بعد يومين فقط من التأكيد على سيادة العراق ووحدة أراضيه في ديباجة القرار 1409! 

الحل الفيدرالي بالطبع جاء لتهدئة خواطر النظام التركي الذي يرتعد فزعاً من عواقب المشروع الانجلو- أمريكي لتفتيت العراق على تفاقم النزعة الاستقلالية الكردية على أراضيه، والولايات المتحدة معنية باللعب في هذه اللحظة السياسية بالذات بأكراد العراق فقط وبكسب تركيا إلى جانبها. حسب الصحيفة نفسها، فإن القسم الكردي سيضم كركوك ومعظم الأراضي فوق خط العرض 36 ، على أن يتم توزيع الصلاحيات فيه بين مسعود البرزاني وجلال الطالباني، وعلى أن يحظى التركمان والأشوريون بحصة في تلك المنطقة، وعلى أن تبقى عوائد النفط بيد الحكومة المركزية في بغداد، ولكن بشرط أن تعطى المنطقة الكردية حصة تساوي على الأقل 13% من عائدات النفط، وهي ما تحصل عليه الآن من برنامج النفط مقابل الغذاء. 

نظام العقوبات وبرنامج النفط مقابل الغذاء: 

أما برنامج النفط مقابل الغذاء فهو من أخطر السوابق السياسية والاقتصادية في التاريخ الحديث لدول العالم الثالث لأنه يضع مقدرات الثروة النفطية العراقية، التي تمثل ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم بعد ذاك الموجود في السعودية حسب وكالة معلومات الطاقة الحكومية الأمريكية، بيد هيئة تابعة للأمم المتحدة، ومن خلالها، تحت سيطرة الولايات المتحدة والغرب. قصة هذا البرنامج هي قصة محاولة تدمير الدول المستقلة في العالم الثالث من أجل السيطرة على مواردها وقرارها. وقد بدأت الأمم المتحدة بإيعاز من الولايات المتحدة تراود العراق عن نفطه منذ عام 1991 مستغلةً المعاناة الرهيبة آنذاك التي خلقتها ظروف الحرب والحصار. برنامج النفط مقابل الغذاء يعني أن عائدات النفط العراقي لا تذهب إلى العراق، بل إلى صندوق خاص تحت إشراف الأمم المتحدة لا يحتفظ بعائدات النفط العراقي فحسب، بل يقرر كيف وأين ومتى تنفق، فهو نموذج خطير بغض النظر عن الظروف المؤدية إلى فرضه، نموذج قابل للتكرار في أماكن أخرى من الوطن العربي والعالم الثالث.

رفض العراق في البداية محاولات وضع اليد على موارده حتى طال الحصار واشتد أواره، وفي نيسان عام 1995 أصدر مجلس الأمن القرار رقم 986 الذي يسمح للعراق ببيع ما تصل قيمته إلى بليوني دولار من النفط كل ستة أشهر لشراء الغذاء والدواء بناءاً على عقود يجب أن توافق عليها لجنة العقوبات الناشئة عن القرار 661 المذكور أعلاه، بعد مرورها عبر مكتب برنامج العراق المشرف على تنفيذ القرار. ولا بد من الإشارة أن مثل هذا المبلغ لا يكاد يسد الرمق بالنسبة لشعب يزيد عن العشرين مليوناً كان الناتج المحلي الإجمالي لاقتصاده أكثر من أربعين مليار دولار في العام قبل العدوان الأمريكي عليه عام 1991 ، لكن معاناة الشعب العراقي كانت شديدة. وبعد مفاوضات مطولة مع الأمم المتحدة، وقع العراق ما أصبح يعرف لاحقاً باسم مذكرة التفاهم مع الأمم المتحدة لتطبيق القرار 986 ، وبيعت الشحنة الأولى من النفط في كانون الأول/ ديسمبر 1996 ، لكن أول شحنة من الغذاء لم تصل العراق حتى آذار/مارس 1997 ، ولم تصل أول دفعة من الأدوية إلا في أيار/مايو 1997 ، مرة أخرى، حسب المعلومات الواردة في موقع الإنترنت التابع لمكتب برنامج العراق المشرف من جهة الأمم المتحدة على برنامج النفط مقابل الغذاء. 

ولا يعني برنامج النفط مقابل الغذاء أن كل عائدات النفط العراقي يمكن أن تستخدم لشراء احتياجات العراق من الخارج، حيث أن 13% منها تؤول إلى المحافظات الشمالية الثلاث كما ذكرت الإنترناشونال هيرالد تريبيون أعلاه، و25% منها تؤول إلى لجنة التعويضات في جنيف، و2,2 % تذهب كمصاريف إدارية للأمم المتحدة، و0,8 % تذهب كمصاريف للجنة التفتيش عن الأسلحة في العراق. باختصار، لا يحق للعراق اليوم أن يستخدم أكثر من 59% من عائدات نفطه، وحتى هذه بالطريقة التي تراها لجنة العقوبات، وقد كانت النسبة التي يستطيع أن يستخدمها العراق 53% فقط منذ بداية البرنامج في نهاية عام 1996 حتى 5 كانون الأول/ ديسمبر عام 2000 حين قرر مجلس الأمن تخفيض حصة لجنة التعويضات من 30% إلى 25% من عائدات البيع، وتخفيض مصاريف الإدارة والتفتيش من 4% إلى 3%. باختصار، ارتفعت النسبة التي تستطيع الحكومة العراقية أن تتعاقد على إنفاقها، وضمن شروط صارمة، من 53% إلى 59% بعد أربع سنوات من تطبيق برنامج النفط مقابل الغذاء، حسب ما استخلصه كاتب هذه السطور من أرقام الأمم المتحدة، مع العلم أن الأمم المتحدة تضع ال 13% المخصصة لمحافظات الشمال في عداد البرنامج الإنساني، وهو ما قد يوحي خطأً أن العراق يستطيع إنفاقها، وهي في الواقع تحت تصرف الأمم المتحدة لا العراق. 

الحقيقة أن هذه الأرقام أيضاً لا تعطي صورة واضحة بما فيه الكفاية عن حجم الظلم الذي يتعرض له العراق. لجنة التعويضات مثلاً تمنح عائدات النفط العراقي لمن تشاء، وكان العراق قد طلب أن تتم تسوية المطالبات ضده في محكمة دولية دون جدوى. أما المصاريف المقتطعة لإدارة برنامج النفط مقابل الغذاء والتفتيش عن الأسلحة في العراق فقد وصلت إلى ما يقارب ملياري دولار مع أيار/مايو 2002 ، مع العلم أن الحكومة العراقية هي المسؤولة عن توزيع السلع في المناطق التي تسيطر عليها في الوسط والجنوب.

لكن الطامة الكبرى تبقى جملة العوائق الهائلة الموضوعة أمام الموافقة الدولية على العقود المبرمة مع العراق، وأمام وصول السلع المتفق عليها إلى العراق. مثلاً، أستاذ القانون الدولي في الجامعة الأمريكية في القاهرة جان ألن يشير بأن أقل من خمسين بالمئة فقط من السلع التي تمت الموافقة عليها سمح لها بالوصول إلى العراق. وهناك بالإضافة إلى ذلك مشكلة ما يسمى بالعقود المعلقة، أي العقود التي تعترض عليها الولايات المتحدة وبريطانيا في لجنة العقوبات حيث تتمتعان بحق الفيتو، بعد توقيعها ومرورها عبر مكتب برنامج العراق. 

العراق يقول أن قيمة العقود المعلقة خلال السنوات الماضية هي 8 مليار دولار، أما الأمم المتحدة فتقول أنها 5,3 مليار دولار فقط، وهو ليس بالرقم البسيط إذا أخذنا بعين الاعتبار أن مجموع الأموال التي كان يحق للعراق إنفاقها بين نهاية عام 1996 و أيار/ مايو 2002 كانت حوالي 29 مليار دولار حسب ما يمكن استخلاصه من أرقام الأمم المتحدة والنسب المقتطعة، مع العلم أن هذا الحساب لا يأخذ بعين الاعتبار أن عائدات بيع النفط لا تصبح متوفرة للإنفاق بعد البيع مباشرة، بل بعده بمدة قد تطول إلى أشهر، أي أن المتوفر فعلياً للإنفاق أقل دائماً بعدة مليارات من الرقم الاسمي. بالرغم من ذلك، ربما يعود التضارب بين تقديري حجم العقود المعلقة العراقي والدولي إلى اعتبار الطرف العراقي بعض العقود التي تأخر استلام بضائعها طويلاً جزءاً من العقود المعلقة.

المهم، الشركات التي توقع عقوداً مع العراق غير ملزمة بتنفيذها إذا تغيرت الأسعار، وهو ما يحدث كثيراً بسبب طول التأخير، كما أن لجنة العقوبات رفضت بعناد وضع شرط إلزام التسليم بعد التعاقد. من جهة أخرى، تمانع الكثير من الشركات توقيع العقود بسبب الآليات المعقدة لبرنامج النفط مقابل الغذاء، خاصة بعد اكتشافها أنها لا تستلم حقوقها إلا بعد مضي أكثر من شهر على وصول البضائع إلى العراق، وأن كل عقد قد يحتاج من شهرين إلى ستة بعد التوقيع عليه حتى تفتح له الأمم المتحدة رسالة الاعتماد في البنك، وهي مدة تقصر في حالة الأغذية وتمتد في حالة استيراد الآلات. ومن النماذج على العقود المعلقة خلال السنوات الماضية العقد رقم 800792 لاستيراد الأمصال واللقاحات، والعقد رقم 601201 لسيارات الإسعاف، والعقد رقم 50845 لمحلول الكلور اللازم لتنقية المياه، ومثلها كثير، كأقلام الرصاص وأجهزة الحاسوب الشخصية والأسمدة الزراعية ومضخات المياه وأنابيب الري والمختبرات الجامعية والمدرسية، علقت عقودها في لجنة العقوبات بحجة جاهزة هي أنها يمكن أن تكون لها استخدامات عسكرية!! وبهذا المعنى الضيق، يمكن أن تتحول أية سلعة في العالم إلى سلعة ذات "استعمال مزدوج"، مدني وعسكري، لأن عسكرياً يحتمل أن يستخدمها، ويبقى الأساس في الفكرة التضييق والتعجيز ومحاولة إخضاع العراق ومنعه من إعادة بناء اقتصاده، كما أن الإرباك الذي تخلقه العقود المعلقة ينبع بالإضافة إلى ذلك من أنها قد تعطل مشاريع بأكملها، ومن أن العقود غير المعلقة قد تصبح سلعها بلا فائدة في غياب سلع العقود المعلقة المكملة لها.

القرار 1409 كبديل لما يسمى "العقوبات الذكية":

نعود الآن إلى القرار 1409 الذي أقره مجلس الأمن بالإجماع يوم 14 أيار/مايو 2002 والذي دخل حيز التنفيذ في 30 أيار/مايو 2002 . القرار الجديد يُفترض أنه سيسهل عملية إدخال السلع الإنسانية إلى العراق. ففي الماضي، عندما يشاء العراق استيراد مواد إنسانية، حسب تعبير الأمم المتحدة، فإن الطلبات تفحص على لائحة المواد المسموح بها، فإن لم يكن المطلوب عليها، يمكن أن يرفض الطلب لأجلٍ غير مسمى لأي سبب، وهو الأمر الذي عطل مليارات الدولارات من العقود كما نعلم، أساساً بسبب معارضة الولايات المتحدة وبريطانيا. الآن، تحت النظام الجديد، ستكون هناك لائحة سلع ممنوعة، فإذا لم تكن المواد المطلوبة عليها، سمح لها بالمرور، وإن كان هذا لا يمنع من جعل لائحة الممنوعات كبيرة وطويلة. وقد أدان العراق قائمة السلع المحظورة الملحقة بالقرار 1409 قائلاً أنها تهدف إلى منع العراق من إعادة بناء نفسه كما جاء في صحيفة العرب اليوم في 2 حزيران/ يونيو 2002. 

بالتأكيد، لم يكن الهدف من تعديل نظام العقوبات كرةً أخرى في 14 أيار/مايو 2002 التخفيف من معاناة الشعب العراقي، بل جاء هذا القرار لتحقيق أغراض سياسية محددة وكنتيجة لتوافق روسي-أمريكي وفي أعقاب التداعيات السياسية لأحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 وتفاقم العدوانية الأمريكية، كما سيأتي لاحقاً. وكانت الولايات المتحدة وبريطانيا تسعيان قبل القرار 1409 إلى فرض صيغة أكثر صرامة للعقوبات تسميها "العقوبات الذكية". بموجب تلك الصيغة التي لم تمر بالرغم من كل الجهود البريطانية والأمريكية كانت ستضاف بنود إلى ما أصبح القرار 1409 فيما بعد، توافق فيها كل الدول المحيطة بالعراق على وضع نقاط تفتيش ومراقبة دولية على حدودها مع العراق لمنع تهريب النفط منه والسلع الممنوعة إليه. مقابل ذلك، كانت ستقتطع أموال من عائدات النفط العراقي لدفعها كتعويضات لتلك الدول الموافقة على وضع حدودها تحت الرقابة الدولية كمكافأة، وقد رفضت روسيا والدول المجاورة للعراق هذه الصيغة، لأنها أدركت على ما يبدو أن الولايات المتحدة وبريطانيا لا تسعيان إلى السيطرة على العراق وموارده فحسب، بل إلى فرض وصايتهما داخل حدود هذه الدول وفي أمور ذات طبيعة سيادية، الأمر الذي يؤكد ما ذهبت إليه الفقرات أعلاه من أن وضع اليد على النفط العراقي سابقة تحتمل التكرار في أمكنة أخرى لا مجرد إجراءٍ مؤقت أو استثنائي. وكان القرار 986 قد نوّه أن برنامج النفط مقابل الغذاء وإدارة الأمم المتحدة لعائدات النفط العراقي مجرد إجراء مؤقت، وكان ذلك عام 1995 عندما صدر القرار، ثم دارت رحى السنوات حتى بدأت تزول الفروق بين المؤقت والدائم... والمؤبد إذا قيض لقوى الهيمنة الخارجية أن تفرض إرادتها على العرب وشعوب العالم الثالث. 

باختصار، مشروع ما يسمى بالعقوبات الذكية يهدف إلى إبقاء سيطرة الأمم المتحدة على عائدات النفط العراقي، وهو لا ينهي العقوبات، بل يشددها، خاصةً على السلع التي تعتبرها الولايات المتحدة وبريطانيا ذات استخدام مزدوج، عسكري ومدني، وبالتحديد، إنه لا يلغي الفيتو الأمريكي أو البريطاني على السلع "ذات الاستخدام المزدوج". كما قال وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في 8 آذار/مارس 2001 :"العقوبات الذكية تهدف إلى إنقاذ نظام العقوبات، لا إلى التخلي عنه" (نشرة MERIP العدد الصادر في 28 حزيران/يونيو 2002)، وكان كولن باول قد قال في الفايننشال تايمز البريطانية يوم 14 شباط/ فبراير 2002 قبل ذلك: "العقوبات والضغط الذي تولده هما جزء من استراتيجية تغيير النظام"، في تصريح علني يؤسس لشريعة الغاب في العلاقات الدولية ويخالف أبسط قوانين وأعراف الأمم المتحدة.

ذكرنا أن مشروع العقوبات الذكية فشل بسبب معارضة الدول المجاورة للعراق، وبسبب تلويح روسيا باستخدام حق النقض (الفيتو) ضده لو عرض على مجلس الأمن في حزيران/ يونيو 2001 على الرغم من موافقة الصين وفرنسا عليه، وهو الأمر الذي دفع العراق إلى تحويل العقود التجارية إلى روسيا بعيداً عن فرنسا. وكانت أسبوعية بيزنسويك Businessweek الأمريكية في عددها الصادر يوم 3 أيلول/ سبتمبر 2001، أي قبل 11 سبتمبر بأسبوع، قد أعطت سببين للمعارضة الروسية آنذاك، أحدهما أن العراق مدين لروسيا بمبلغ 8 مليار دولار لن يدفعها إذا فرضت العقوبات الذكية، والآخر أن العلاقات الروسية – الأمريكية كانت تمر بفترة حرجة خاصةً، ولكن ليس فقط، بسبب قرار الولايات المتحدة التراجع عن معاهدة الأسلحة الاستراتيجية الموقعة بينهما عام 1972. عرضت الولايات المتحدة على روسيا أن تقتطع من عائدات النفط العراقي دفعات لسد ديون روسيا على العراق، لكن روسيا رفضت العرض، ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر لتغير كل شئ.

ولعل مصدر غيظ الولايات المتحدة وبريطانيا يعود إلى أن نظام العقوبات كان يتهاوى أمام أعينهما في السنوات القليلة السابقة لأحداث 11 سبتمبر. فالتهريب من وإلى العراق صار يتصاعد إلى درجة جعلت من نظام العقوبات نفسه مصفاة مليئة بالثقوب. الصحف الأمريكية تورد تقديرات مختلفة لعائدات العراق من تهريب نفطه خارج نظام العقوبات تتراوح بين 300 مليون دولار كحد أدنى، وملياري دولار على ذمة صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية المعروفة في عدده الصادر في 17 أيار/مايو 2002 . في الآن عينه، صار التأييد العربي والدولي للعقوبات على العراق يتلاشى بعد مضي حوالي اثني عشر عاماً من فرضها، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة وبريطانيا تبدوان معزولتين في الساحة الدولية. وجاء أنبوب النفط العراقي عبر سوريا ليزيد الموقف الأمريكي من سوريا حدةً. ولكن السعودية أيضاً شهدت خلال عام 2001 ارتفاعاً هائلاً في مبادلاتها التجارية مع العراق وصلت إلى 300 مليون دولار في ذلك العام، وتقدر بحوالي مليار دولار في العام الذي يتبعه، يفترض أنها تتم من خلال برنامج النفط مقابل الغذاء، ولكن لا أحد يعلم على وجه التحديد، مما أدى إلى ازدياد التوتر بين الولايات المتحدة والسعودية أيضاً، وهكذا بالنسبة للدول الأخرى التي أصبح معظمها يرى أن العقوبات على العراق قد طالت أكثر مما يجب. المهم، أصبحت الكثير من السلع الممنوعة تشاهد في الأسواق العراقية لمن يملك دفع ثمنها على الأقل، وهو الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تسعى إلى تعديل نظام العقوبات باتجاه تشديده رغم معارضة معظم دول العالم التي كانت ترى ضرورة رفع العقوبات بالكامل.

جاء القرار 1409 إذن كمحاولة من واشنطن ولندن لوقف الانهيار الفعلي في نظام العقوبات، ولمنع إلغائه من قبل مجلس الأمن. مقابل ذلك، تنازلت واشنطن ولندن عن مطلب الوصاية على حدود الدول المجاورة للعراق، الأمر الذي يعني فعلياً استمرار التهريب من وإلى العراق مقابل استمرار الغطاء القانوني للعقوبات وفرض الوصاية على النفط العراقي. في الواقع، إن مسحاً عاماً للصحف الأمريكية والبريطانية الأساسية الصادرة بعد قرار 1409 في 14 أيار/مايو 2002 ، وبعض الصحف الأقل توزيعاً في الولايات المتحدة، يظهر أن الصحف الأمريكية مثل النيويورك تايمز والواشنطن بوست والإندبندنت البريطانية لم يصف أيٌ منها قرار 1409 بالعقوبات الذكية، بل بالعقوبات المعدلة، أما صحيفة الغارديان البريطانية الصادرة في 15 أيار/ مايو 2002 فقد سمّت القرار 1409 بالعقوبات الذكية بعد أن وصفته على لسان جاك سترو وزير الخارجية البريطاني بأنه مبادرة بريطانية. بالإجمال إذن، نستطيع أن نقول أن قرار 1409 أقل مما تعتبره الولايات المتحدة وبريطانيا عقوبات ذكية، وإن كانت معظم هذه الصحف قد اعتبرته نصراً ديبلوماسياً عظيماً للولايات المتحدة وبريطانيا، باستثناء الواشنطن بوست في عددها الصادر يوم 17 أيار/مايو 2002 التي اعتبرته نصراً أجوف لأنه أقل مما يجب.

وعلى الرغم من أن نظام العقوبات المعدلة الجديد سوف يسمح بإدخال أجهزة الحاسوب الشخصية والجرارات الزراعية والسيارات الخاصة ومعدات الأشعة للمستشفيات على ذمة الغارديان البريطانية، لكن الصحيفة نفسها تضيف أن قائمة السلع المصنفة "استخدام مزدوج" طويلة وغامضة إلى حد سيمنع العراق من استيراد العديد من المواد اللازمة للمستشفيات والمدارس والجامعات ومصانع تنقية المياه (الغارديان، 15 أيار/مايو 2002). لذلك، لم يكن غريباً أن يقول سفير العراق في الأمم المتحدة محمد الدوري تعليقاً على صدور القرار 1409: "نظام العقوبات الجديد سوف يمنع تطور الاقتصاد العراقي في المستقبل لأنه يحظر استيراد المعدات الزراعية والكهربائية والمائية". 

مصالح للشركات الأجنبية:

وعلى الرغم من أن نظام العقوبات المعدلة الجديد سوف يبسط إجراءات التصدير إلى العراق، ألا أننا لا نستطيع أن نتجاهل فائدة ذلك بالنسبة للشركات الغربية نفسها، كما جاء في تصريح رسمي لوزير الخارجية الأسترالي يوم 16 أيار/مايو 2002 :"النظام الجديد سيبسط الإجراءات الحالية للتصدير إلى العراق الأمر الذي سيفيد العديد من الشركات الأسترالية المشاركة ببرنامج النفط مقابل الغذاء".

وكانت الإندبندنت البريطانية قد أوضحت في عددها الصادر يوم 15 أيار/مايو 2002 أن نظام العقوبات المعدلة سوف يفيد الشركات الأجنبية، ومنها البريطانية، ولكن قبل كل شئ الروسية، حيث أن الشركات الأجنبية لديها اليوم حوالي 5 مليار دولار من العقود المحجوزة مع العراق. 

بالإضافة إلى ذلك، سوف تستفيد الشركات النفطية الأمريكية من تبسيط إجراءات التبادل التجاري مع العراق لأنها تشتري حوالي سبعين بالمئة من إجمالي النفط العراقي المصدر في ظل برنامج النفط مقابل الغذاء، حسب مجلة فوربز Forbes الأمريكية في عددها الصادر يوم 9 نيسان/أبريل 2002 . وهذه معلومة ملفتة للنظر خاصة أن العراق يسعى بدأب إلى تجنب التعامل مع الشركات الأمريكية، فيما يشتريه أو يتعاقد على شرائه من الخارج، كوسيلة لمعاقبة الولايات المتحدة ومكافئة روسيا، لا بل كوسيلة لزرع الخلاف بين روسيا والولايات المتحدة في حالة العقود المعلقة والمتأخرة عندما وصلت قيمها إلى مليارات، وأنه صار يطالب بدفع مستحقاته باليورو بدل الدولار منذ المرحلة التاسعة من بداية برنامج النفط مقابل الغذاء (حيث تتألف كل مرحلة من ستة أشهر كما أشير سابقاً). لعل أمريكا توجه شركاتها لشراء النفط العراقي للبقاء على اطلاع على محاولات العراق تقاضي رسوم جانبية على نفطه حيث أنه ليس حراً بتقاضي التسعيرة التي يشاء، الأمر الذي سبب احتكاكات شديدة بين العراق والأمم المتحدة الأمريكية أدت في بداية شهر حزيران/ يونيو 2002 إلى توقف تصدير النفط العراقي مؤقتاً.

لا شك أن الولايات المتحدة هنا تتعامل مع النفط العراقي كغنيمة من غنائم الحرب وأن العراق يحاول من خلال هذه الرسوم الإضافية تثبيت حقه الاسمي على الأقل بالسيطرة على نفطه حيث لا يستطيع التحكم كما يريد بهوية المشتري و السعر أو باستلام العائدات النقدية مباشرةً أو بالكامل، لكن الذي لا شك فيه أيضاً هو أن عدداً كبيراً من الشركات الأمريكية باتت تضيق ذرعاً من نزوع الإدارات الأمريكية المتعاقبة لفرض العقوبات الاقتصادية بشكل متكرر على أمم وشعوب العالم، لأنها تضر بتجارتهم وأرباحهم، ومن هذه الشركات العملاقة بوينغ، بالإضافة إلى مزارعي القمح في ولاية واشنطن في الشمال الغربي الذين ثارت ثائرتهم عندما فرضت العقوبات على باكستان بسبب برنامجها النووي لأنها المستورد الأول لقمحهم فصاروا يطالبون بقوة بقانون يعفي الغذاء من حيث المبدأ من أي برنامج عقوبات على أية دولة (لأسباب إنسانية طبعاً)، الأمر الذي جعل ولاية واشنطن من أقوى معاقل مناهضة العقوبات على العراق حيث يحتمل أن يسمع المرء أكثر من أي مكان أخر أن تجويع المدنيين كوسيلة حربية مخالفٌ للبند 54 من اتفاقية جنيف!!

هذه العوامل لا بد من أخذها بعين الاعتبار لفهم التعديلات الجديدة على نظام العقوبات على العراق، ولكن لأخذ صورة أفضل عن حجم هذا البعد للمسألة، نذكر أيضاً ما جاءت به سياتل بوست انتليجنسر Seattle Post ، وسياتل هي عاصمة ولاية واشنطن المذكورة أعلاه، في عددها الصادر يوم 11 أيار / مايو 1999 ، من أن تكتلاً من 674 شركة أمريكية كان يضغط على الإدارة الأمريكية لاستصدار قانون إصلاح أنظمة العقوبات الذي يحوي بنوداً توقف أية عقوبات اقتصادية تلقائياً بعد صدورها بعامين إلا إذا أتخذ قرارٌ بتجديدها.. وتذكر سياتل بوست في ذلك التقرير أن مجموعة من رجال الأعمال الأمريكيين تضغط باتجاه التقليل من استخدام العقوبات الاقتصادية كأداة للسياسة الخارجية، حيث أن العقوبات استخدمت 115 مرة منذ الحرب العالمية الأولى، منها 61 مرة منذ عام 1993 ، أي أكثر من النصف. وتذكر سياتل بوست هنا أن العقوبات الاقتصادية فشلت في الضغط على كوبا والعراق وإيران والسودان وكوريا الشمالية، وإن كانت قد أثرت على النظام العنصري في جنوب أفريقيا وعلى ليبيا، حسب دراسة أوردتها استنتجت أن العقوبات نجحت في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية 13 % من المرات فقط.

الخلاصة، إن السياسة الأمريكية لا تحكمها بالضرورة المصالح الآنية لهذه المجموعة أو تلك من الشركات بل المصالح الاستراتيجية والكونية للشركات ككل، ولكن لا غرو بأن قراراً مثل قرار 1409 سيسهل عملية استيراد الغذاء والدواء وبعض السلع المدنية الأخرى إلى العراق، في الوقت الذي يُبقى فيه نظام العقوبات قائماً من الناحية القانونية، وُيبقى النفط العراقي تحت الوصاية الدولية والأمريكية، ويشدد من الرقابة على استيراد السلع "ذات الاستخدام المزدوج"، وسيخفف من الاحتكاكات داخل الكتلة الحاكمة في الولايات المتحدة، وضمن النظام الدولي الجديد.

أبعاد سياسية وإعلامية:

من قراءة ما رشح من وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية المؤيدة والمعارضة للعقوبات، والمعارضة للعقوبات منها تشكل أقلية صغيرة خارج التيار خاصةً في الولايات المتحدة، يمكن أن نضيف إلى ما ورد أعلاه حول خلفية وأهداف تعديل العقوبات على العراق ما يلي:

1.  إعلامياً، محاولة نزع الورقة الإنسانية من يد العراق وأنصار إلغاء العقوبات عن طريق تسهيل استيراد الغذاء والدواء وبعض السلع المدنية الأخرى، حيث "أن العراق نجح في إظهار نفسه كطرف مظلوم أمام العالم وهو يستعرض قصص وصور الأطفال المرضى والمحتضرين لأئماً الغرب القاسي القلب على محنته" (الاندبندنت البريطانية في 15/5/2002، وكذلك الواشنطن بوست في 17/5/2002 ، والنيويورك تايمز في 18/5/2002 ). ماذا يُقال للشعب الأمريكي؟ صحيفة أمريكية محلية مثلاً هي الألبني تايمز Albany Times في عددها الصادر يوم 22 أيار/مايو 2002 تقول: "هدف العقوبات الذكية هو منع العراق من لوم الولايات المتحدة على معاناة شعبه".

2.  إعلامياً أيضاً، حاولت بعض الصحف تسويق العقوبات المعدلة على أنها خطوة باتجاه ضبط التهريب من وإلى العراق، وليس واضحاً كيف يمكن أن يكون ذلك صحيحاً في ظل غياب البنود التي حاولت أن تفرضها الولايات المتحدة وبريطانيا لفرض الوصاية الدولية على الحدود المحيطة بالعراق، وقد أشارت الواشنطن بوست إلى هذه الثغرة من وجهة النظر الأمريكية كما ذُكر سابقاً. وإذا أردنا أن لا نتجاوز هذه النقطة بالكامل لقلنا أن الاستمرار بطرحها بعد القرار 1409 يدل بأن الولايات المتحدة وبريطانيا لا تزالان مصرتين على تحقيق هذا الهدف في المستقبل عندما تسمح التوازنات السياسية الدولية والإقليمية بذلك، وهما تسعيان دائماً لإحداث المزيد من الاختلال في هذه التوازنات لمصلحتهما كما يدل التاريخ الحديث خاصة في ظل النظام الدولي الجديد.

3.  سياسياً، سبقت الإشارة إلى أن القرار 1409 محاولة لمنع انهيار نظام العقوبات، وإعادة تثبيته قانونياً بصورة تكون أكثر قبولاً. وقد لخصت نشرة "أصوات في البرية" Voices in the Wilderness في عدد شهر نيسان/أبريل 2002 ، وهي النشرة المعبرة عن حركة بالاسم نفسه تأسست في الولايات المتحدة وبريطانيا عام 1996 للعمل على رفع العقوبات عن العراق، لخصت هذه النشرة أهداف ما يسمى بالعقوبات الذكية أيضاً بالقول أنها ليست أكثر من أداة دعائية لتحجيم حركة مناهضة العقوبات النامية باطراد، ولتعبئة الرأي العام للحرب المقبلة. طبعاً النشرة صدرت قبل القرار 1409 ، لكنها تضع الإصبع على الجرح بالنسبة لحاجة الولايات المتحدة وبريطانيا السياسية لتنفيس واحتواء حركة مناهضة العقوبات على العراق على المستويات الرسمية والشعبية والعالمية، عن طريق تسويق القرار 1409 بأنه يعالج وينهي كل الاعتراضات المشروعة على العقوبات، خاصة بالنسبة للجانب الإنساني. وتورد "أصوات في البرية" هنا رداً على هذا الزعم مقتطفاً من مجلة الايكونوميست البريطانية المعروفة الصادرة يوم 24 شباط/فبراير 2001 تقول فيه: "الاقتراح البريطاني بفرض عقوبات ذكية يقدم حبة وجع رأس حيث المطلوب هو عملية جراحية". وستكون لنا عودة أدناه إلى القرار 1409 كاستمرار للحرب على العراق، لا كحل لمشاكله الاقتصادية والإنسانية كما تدعي الولايات المتحدة وبريطانيا.

4.  تجمع الصحف الأمريكية والبريطانية الأساسية أن الهدف من القرار 1409 هو فرض آلية تنسيق مع الحلفاء الذين كانوا يعارضون بشدة توجيه ضربة عسكرية للعراق تؤدي في النهاية إلى إعادة الاصطفاف وصولاً إلى كسب تأييدهم، أو إلى تحييدهم على الأقل. ويبدو هنا أن الولايات المتحدة وبريطانيا قدمتا تنازلاً فيما يتعلق بفرض الوصاية على الحدود المجاورة للعراق مقابل خلق آليات تنسيق مشتركة لإجبار العراق على إعادة المفتشين الدوليين إليه خاصة بعد إدعاء الولايات المتحدة في مجلس الأمن أن العراق يعمل مجدداً على إنتاج الصواريخ الطويلة المدى المحظورة عليه (وأن المفتشين لن يتمكنوا من إيجادها ولو عادوا، حسب الولايات المتحدة). فإذا واصل العراق رفض إعادتهم، ستكون إدارة بوش في موقف أقوى لاتخاذ إجراء عسكري ضده. وتقول النيويورك تايمز في هذا الصدد: "مع مضي السنوات، بدأ نظام العقوبات يتهاوى وأصبحت روسيا والصين وفرنسا أكثر توقاً للمتاجرة مع الدولة الغنية بالنفط. ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر، كما أن علاقةً من نوعٍ جديدٍ تبلورت بين موسكو وواشنطن مع مجيء الشتاء، وبدأ الاقتراح البريطاني-الأمريكي لتبني نهج مختلف إزاء العقوبات على العراق يكتسب التأييد. تبنى مجلس الأمن القرار 1409 باقتراعٍ كانت نتيجته خمسة عشر صوتاً إلى صفر، وهو ما يشكل نصراً ديبلوماسياً للولايات المتحدة. والآن على العالم أن يقنع العراق بالسماح بعودة مفتشي الأسلحة، حيث أن الكثير من الحكومات الشرق أوسطية والأوروبية تقول أن جهود التفتيش عن الأسلحة يجب أن تعطى فرصة قبل الحديث عن أي عمل عسكري" (النيويورك تايمز 18/5/2002). وتضيف الواشنطن بوست: "الإدارة [الأمريكية] تقول أن نظام العقوبات الجديد سوف يفقد النظام العراقي الحجة الإنسانية، ولكن الأهم هو التعاون مع الحلفاء في هذا القرار وحول المفاوضات الموازية لعودة المفتشين الدوليين كشرط ضروري لكسب التأييد الدولي لعمل أكثر عدوانيةً" (الواشنطن بوست 17/5/2002). وتقول الألبني تايمز: "العقوبات المعدلة ستضع الأمم المتحدة في موقف أقوى للضغط على العراق للسماح للمفتشين الدوليين بالعودة إلى العراق للبحث عن أسلحة كيميائية وبيولوجية ونووية، فإذا واصل صدام المماطلة، فإن إدارة بوش ستكون في موقف أقوى لاتخاذ إجراء عسكري ضده" (الألبني تايمز 22/5/2002).

باختصار إذن، يهدف القرار 1409 من جهة الولايات المتحدة وبريطانيا إلى التموضع سياسياً بموضعٍ يسمح لهما بتوجيه ضربة عسكرية للعراق، خاصةً وأنهما أعلنتا أكثر من مرة أن العقوبات لن ترفع إلى أن يسقط النظام في العراق كما هو معروف، وأن السياسة الأمريكية الجديدة لن تقوم على الردع والاحتواء كما كانت أبان الحرب الباردة بل على توجيه الضربات الوقائية المسبقة لمن يسعى لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، أي على الاعتداء دون حصول جرم مسبق، كما جاء في خطاب بوش لخريجي الكلية العسكرية في وست بوينت في بداية حزيران /يونيو 2002 في تصريح يبدو أنه كان محسوباً للممارسة الضغط على العراق للسماح بعودة المفتشين دون شروط، ولتبرير سياسة العدوان الأمريكية بشكل عام. ومازالت هناك أطراف في الولايات المتحدة تدفع باتجاه ضرب العراق دون التأييد الدولي، ومنها نائب وزير الدفاع، بول ولفوفيتز، اليهودي الأصل الذي يقول أيضاً أن تهدئة الوضع في فلسطين ليس ضرورياً لضرب العراق، ومنها مؤسسة هريتج Heritage المعروفة بنزعاتها المتشددة التي كتبت في موقعها على الإنترنت في 15 أيار /مايو 2002 :"لسنا مضطرين أن ننتظر كي نُهاجم من أجل أن نهاجم غيرنا. فرنسا وروسيا تعترضان علينا في هذا الأمر بدافع المنافسة أو الحسد، والنقاش الوحيد الآن يجب أن يدور حول التكتيكات لا الأهداف". 

حول مسألة الأسلحة والمفتشين "الدوليين":

لا شك إذن أن القرار 1409 هو سياسياً من مقدمات الحملة على العراق ومشروع تفكيكه، على الأقل من وجهة نظر الولايات المتحدة وبريطانيا كما رأينا، ومن وجهة نظر أي مراقب محايد عند ربطه القرار بقضية عودة المفتشين المسمين "دوليين" الذين سبق واعترف أحدهم علناً بالتشاور مع الموساد الصهيوني. ويبدو أن العراق يدرك هذا البعد للقرار 1409، لذلك دخل المفاوضات مع الأمم المتحدة حول عودتهم محاولاً في الآن عينه فرض بعض الشروط مثل ربط عودتهم بجدول زمني لرفع الحصار عن العراق وعدم تحول التفتيش عن الأسلحة إلى أداة للتجسس عليه والمساهمة في تحقيق الهدف الأمريكي المعلن بإسقاط النظام. ويبدو أن هذه الشروط هي التي حاول بوش إسقاطها بالتهديد والوعيد في خطابه العدواني أمام خريجي الكلية العسكرية في وست بوينت، ومن مصلحة العراق أن لا يخضع لمثل هذه التهديدات، دون أن يبدو وكأنه يقف ضد الإجماع الدولي الذي فبركته الإمبريالية الأمريكية.

وكان المفتشون الدوليون قد انسحبوا من العراق في ديسمبر/ كانون الأول عام 1998 قبل ساعات من ضربة جوية أمريكية- بريطانية شاملة، لم تحظى بتأييد المجتمع الدولي أو غطاء قانوني من مجلس الأمن، مما جعل العراق يؤكد أنه لن يسمح بعودة المفتشين إلى أراضيه بعد سبع سنوات قضوها هناك لم يتركوا فيها حجراً إلا وقلبوه، حتى أن موقع قناة سي أن أن CNN على الإنترنت كتب يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2001 أن معظم الأسلحة العراقية قد تم جردها باستثناء برنامج الأسلحة الجرثومية الذي بقيت أجزاء منه غير واضحة بالنسبة للمفتشين. وتقول الكاتبة الأفريقية -الأمريكية شيريل مكارثي في صحيفة نيوزدي Newsday الأمريكية الصادرة يوم 20 أيار/مايو 2002 : "لم يتمكن أحد أن يثبت أن العراق يحاول مؤخراً تطوير أسلحة دمار شامل، أما الأسلحة البيولوجية، فلم يتمكن أحد حتى الآن من تطوير التكنولوجيا اللازمة لإطلاقها وإصابة آلاف الناس بها عن بعد"، فهي لا تهدد إلا عن قرب، وبالتالي لا يستطيع العراق أن يستخدمها في معركة، عكس الصواريخ الكيميائية التي تم التخلص منها بجهود المفتشين الدوليين.

الطريف طبعاً أن مجلس الشيوخ الأمريكي سن عام 1997 قانوناً يجيز للرئيس الأمريكي منع المفتشين الدوليين من تفقد مواقع الأسلحة الأمريكية بحجة "الحفاظ على الأمن القومي"، هذا مع العلم أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي سبق واستخدمت السلاح النووي، كما أنها استخدمت ما بين 300 إلى 350 طناً من اليورانيوم المنضب في القذائف التي أطلقتها على العراق في حرب الخليج الثانية حسب المصادر الأمريكية والبريطانية، وحسب الأدلة المادية التي حصل عليها العراق والتي تثبت استخدامها في ساحة العمليات. وقد أدى ذلك إلى تلويث الجو والتربة في العراق مما أدى بين عامي 1991 و1994 إلى ازدياد حالات الإصابة بالسرطان 55,6 % و حالات الإجهاض 50,2 % وحالات التشوهات الخلقية للمواليد الجدد 254 % حسب ما استخلصه كاتب هذه السطور من إحصائيات الحكومة العراقية على الإنترنت.

كما هو معروف للجميع، تبرر الولايات المتحدة وبريطانيا الوصاية الدولية على النفط العراقي بأنها تهدف إلى منع العراق من تمويل برامجه التسليحية، خاصة أسلحة الدمار الشامل. 

والحقيقة أن نزع أسلحة العراق المتقدمة، عدا عن استخدامه اليوم كحجة لضربه عسكرياً وتفكيكه، يجب أن يقيّم في سياق استراتيجي إقليمي لا من خرم إبرة الحجة المقدمة من الولايات المتحدة وبريطانيا وهي "أن العراق يشكل تهديداً لأمن جيرانه". إذ أن إضعاف العراق عسكرياً وهو البلد الغني بالنفط، سوف يتركه في موقفٍ لا يسعه فيه إلا أن يقبل بالحماية الأجنبية، كما حصل مع غيره من الدول الغنية الضعيفة عسكرياً. وهذا يعني أن إضعاف العراق استراتيجياً يكمل بالضرورة محاولات السيطرة على نفطه وموارده وقراره السياسي بغض النظر عن هوية النظام الحاكم بالعراق. 

بالنسبة للأمة العربية ككل، فإن امتلاك أسلحة الردع المتقدمة في مواجهة الترسانة النووية والكيميائية وأسلحة الدمار الشامل الصهيونية ضروريٌ للحفاظ على حد أدنى من التوازن إزاء التهديد الصهيوني للأمن القومي العربي، و ضروريٌ حتى بالنسبة للذين يريدون أن يفاوضوا العدو من غير موقع الضعف المهين. والكيان الصهيوني الذي بدأ برنامجه النووي منذ عام 1957 والذي لم يوقع على معاهدة حظر وانتشار الأسلحة النووية والذي تتغاضى واشنطن و"الشرعية الدولية" عن أسلحة دماره الشامل والذي ضرب مفاعل تموز السلمي في العراق عام 1980 هو المستفيد الأول من نزع أسلحة العراق المتطورة، لا بل أن وضعه السياسي إزاء كل العرب يتحسن بالتناسب مع ازدياد الاختلال في الميزان العسكري بينه وبينهم، فعندما تقول واشنطن ولندن أن العراق يشكل تهديداً لجيرانه، فإن المقصود يكون ميزان القوى بين العرب والصهاينة بالإضافة إلى عدم تهديد السيطرة الأمريكية على حقول وعائدات النفط في المنطقة ككل، ومنها مشروع السيطرة الأمريكية على نفط العراق.

أخيراً، بغض النظر عن طبيعة النظام الموجود في إيران، شاهنشاهياً كان أو خمينياً، فإن إضعاف العراق استراتيجياً سوف يزيد النفوذ والدور الإيراني في المنطقة العربية ككل، وهو الأمر الذي يترك دول المنطقة تهرول خلف الحماية الأمريكية بقدر ما كان الأمر الذي خلق الأرضية الجغرافية السياسية للتعاون السري الإيراني – الصهيوني خلال الحرب العراقية- الإيرانية. وبعد مضي أكثر من اُثني عشر عاماً على العقوبات على العراق وجهود نزع أسلحته باتت السعودية والكويت تدركان حجم العبء الذي تشكله الولايات المتحدة على قرارهما السياسي وميزانيتيهما بحجة الحماية، وباتتا تدركان، وإن بدرجتين مختلفتين، أن التفاهم مع العراق قد يكون أجدى وأكثر عقلانيةً من الوصاية الأمريكية، خاصةً في ظل تفاقم التناقضات الأمريكية - السعودية بعد 11 سبتمبر. ويصح الأمر نفسه على ازدياد قوة تركيا في مواجهة سوريا والدور الذي يمكن أن يلعبه التحالف مع العراق إزائها. 

ويبقى أن العراق الضعيف المنزوع السلاح تكون السيطرة عليه أسهل من العراق القوي. لذلك كله، لن تقبل الولايات المتحدة وبريطانيا بأقل من آلية طويلة المدى تمنع العراق وكل الدول العربية من امتلاك عناصر القوة ومنها الأسلحة المتقدمة، بغض النظر عما إذا كان النظام الموجود فيه موالياً لهما أم لا، فالمسألة مسألة مصالح دولية وتوازنات إقليمية. بالمقابل، تتمثل مصلحة الأمة العربية بالسعي الحثيث لامتلاك الأسلحة المتقدمة، حتى لو فقد العراق ما يملكه منها الآن، وفي النهاية، ليست رغبة الولايات المتحدة وبريطانيا قدراً محتوماً لمن يملك إرادة الحياة. وليست هذه دعوة لخوض معارك غير محسوبة جيداً بقدر ما هي دعوة لتفكير استراتيجي يضع مصالح الأمة العربية فوق الحسابات الصغيرة. وقد حاولت الفقرات السابقة تبيان الأبعاد الحقيقية لنزع الأسلحة العراقية المتقدمة وتداعياتها على العرب كشعبٍ وحكومات. 

القرار 1409 كاستمرار للحرب على العراق:

كانت اللعبة الكبرى التي مارسها الإعلام الأمريكي والبريطاني بعد أحداث 11 سبتمبر هي ربط العراق في أذهان الغربيين بما يسمى الإرهاب، وبالتالي ربط الحملة ضده بالحملة ضد الإرهاب. المقيمون خارج الولايات المتحدة لن يفهموا تجدد الحماس الأمريكي لضرب العراق، بالرغم من المعارضة الدولية لذلك، دون إدراك عملية الربط المصطنع بين العراق من جهة وأحداث 11 سبتمبر والهستيريا الأمريكية الداعية للانتقام من كل مصدر محتمل للخطر على المصالح الأمريكية في العالم من جهة أخرى. وقد جاء الربط بشكل تدريجيٍ متصاعد نسقته قوى الصقور في الإدارة الأمريكية وعلى رأسها نائب وزير الدفاع ولفوويتز الذي يتكلم العبرية والعربية، والذي اصطدم مع بوش الأب وكولن باول أثناء حرب الخليج الثانية لأنه كان يرى ضرورة متابعة الحملة الأمريكية حتى إسقاط النظام العراقي بالكامل بينما كانا يريان إسقاط النظام العراقي بأيدٍ داخلية، وهي الثغرة التي حاولت أن تستغلها إيران عند نهاية الحملة العسكرية في جنوب العراق. اللعبة الإعلامية طبعاً أن العراق لم يتهم مباشرةً بأن له علاقة بما جرى في 11 سبتمبر أو بدعم ما يسمى الإرهاب، باستثناء بعض الإشارات الصحفية العابرة التي تبخرت بسرعة في زحمة الحملة على أفغانستان، وباستثناء التهمة المشرفة بأنه يقدم العون لعائلات الإستشهاديين الفلسطينيين، وهي تهمة يمكن بسهولة أن تسم غير العراق بتهمة الإرهاب كما لم يغب عن كثيرين. حول تهمة الإرهاب، تقول الكاتبة شيريل ماكارثي التي سبق ذكرها، وهي تعلن معارضتها للنظام في العراق بالمناسبة: "الاختلاط الأكبر في قضية صدام حسين يكمن في الجهد المبذول لربطه بالإرهاب الدولي، إذ أن هناك شك كبير حول مدى علاقته به، ولكن يبدو أن البعض يعتقد أننا إذا كررنا هذا الإدعاء، فإن الناس سوف تصدقه".

وتتابع شيريل ماكارثي: "ليس حسين ببساطة سوى خصم للولايات المتحدة. إنه يسعى ليكون القوة السياسية والعسكرية الأولى في الشرق الأوسط، وهو معادي للسيطرة الأمريكية، وقد هدد إسرائيل أحياناً، وهو يسيطر على نفط يحتاجه حلفائنا. فكون مصالحه تتعارض مع مصالحنا، وكون هذا يجعله مشكلة وعائقاً في وجه فرض الإرادة الأمريكية في الشرق الأوسط شيء يختلف تماماً عن القول أنه إرهابي..." (نيوزدي 20/5/2002).

المهم، تم ربط العراق عنوةً بالحملة ضد الإرهاب، كما تم ربط إيران وكوريا الشمالية، وإبان ذلك تحسنت العلاقات الأمريكية – الروسية بينما كانت تتصاعد العدوانية الأمريكية في العالم. فجاء القرار 1409 ضمن سياق محاولة أمريكا فرض إرادتها في العلاقات الدولية حتى على حلفائها، بالرغم من الضوابط التي فرضتها استراتيجية إعادة تشكيل التحالف ضد العراق. وهنا، لا بد من العودة إلى الإستراتيجية الأمريكية الهادفة إلى تدمير العراق بالكامل، لا أسلحته المتقدمة فقط، كنقطة مرجعية. فأثناء العدوان على العراق تم تدمير أكثر من عشرة آلاف مشروع خلال 42 يوماً من القصف المكثف منها محطات توليد كهرباء ومصانع وطرق وجسور ومستشفيات ومدارس ومجمعات سكنية ومنظومات سيطرة مياه الصرف الصحي ومحطات اتصالات سلكية ولاسلكية وشبكات مرتبطة بها ومقرات وزارات ودوائر بلديات ومساجد وكنائس وغيرها. 

حسب إحصائيات الحكومة العراقية، دمر خلال هذا العدوان 71 % من المستشفيات و 48 % من المراكز الصحية والمختبرات، وساهم ذلك بحدوث انخفاض موازي في العمليات الجراحية والفحوصات المخبرية بعد الحملة الأمريكية ترافق مع تعقيدات استيراد الدواء عبر لجنة العقوبات حتى عندما سمح بالاستيراد. كما توقفت مشاريع تصفية المياه كلياً أو جزئياً بنسبة 70 % مما أدى إلى ضخ مياه غير معقمة للمساكن أساساً لأن لجنة العقوبات لم تسمح باستيراد المواد الكيميائية وأدوات الاختبار اللازمة. كما توقفت حركة مياه المجاري في أنابيب الصرف الصحي كلياً مما أدى إلى طفحها داخل الدور والمساكن. تلوّثت المياه والتربة، بعد تلوّثها باليورانيوم المنضب. عادت الكوليرا إلى الظهور، وحدث ارتفاعٌ شديد في معدل وفاة الأطفال والمسنين نتيجة الأمراض وسوء التغذية، وكان من أهم أسباب هذه الوفيات بين الأطفال الإسهال وذات الرئة وسوء التغذية. 

وكان نظام العقوبات منذ وضع موضع التطبيق جزءاً من الحرب ضد الإنسان العراقي، لا الدولة العراقية فحسب، لأن العقوبات أعاقت إلى حدٍ كبير محاولات إعادة بناء البنية التحتية لشبكات الكهرباء ومصانع تنقية المياه والمجاري وشبكات الاتصالات والمواصلات، ولأن نقص المواد الأولية ورؤوس الأموال وعدم السماح بالاستعانة بالشركات والخبرات الأجنبية كان النتيجة المباشرة للحصار على العراق، هذا فضلاً عن تلف الكثير من الوثائق والمخططات الهندسية خلال القصف، عدا نقص السيولة وكل التعقيدات التي وضعتها لجنة العقوبات. فبعد مضي أحد عشر عاماً على نظام العقوبات، كتب موقع ال سي أن أن CNN على الإنترنت يوم 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2001: "إن طيفاً كبيراً من المعدات اللازمة لشبكات المياه والمجاري وصناعة النفط تتم إعاقتها في لجنة العقوبات. المشكلة الأساسية اليوم ليست الغذاء أو الدواء، بل عدم توفر المياه النقية، وهذا هو سبب موت الأطفال". 

وكتب جورج بشارات، وهو أستاذ قانون أمريكي من أصل عربي في جامعة سان فرنسيسكو في الولايات المتحدة، في صحيفة السياتل بوست Seattle Post- Intelligencer يوم 3 أيار/مايو 2002 أن نظام العقوبات المفروض من الأمم المتحدة منذ عام 1990 أصبح بمثابة عملية إبادة جماعية. فقد مات خلال السنوات ال 12 الماضية ما بين مليون ومليوني عراقي نتيجة العقوبات كثيرين منهم تحت سن الخامسة. اليونسيف قالت عام 2000 أن خمس إلى ست آلاف طفل عراقي يموتون كل شهر بسبب العقوبات. وهذه تعتبر جريمة إبادة جماعية حسب إحدى اتفاقيات الأمم المتحدة التي كانت قد وقعتها الولايات المتحدة عام 1988 والتي تقول أن إتباع سياسة هادفة تقتل أعضاء مجموعة هو كذلك، ولا توجد فوائد من العقوبات يمكن أن تبرر الإبادة الجماعية. 

ويتفق مع جورج بشارات أستاذ القانون الدولي في الجامعة الأمريكية في القاهرة، البرفسور جان ألن، الذي كتب مقالاً في الأهرام الإنكليزية يوم 9 أيار /مايو 2002 قال فيه أن العقوبات أصبحت غير قانونية من وجهة نظر القانون الدولي وإن بدأت قانونية عندما دخل العراق الكويت، أما الآن فيمكن وضعها في نقطة ما بين جريمة الإبادة الجماعية وعملية تصفية extermination هي بالتأكيد من عداد الجرائم ضد الإنسانية. وأضاف جان ألن أن التعديلات المتلاحقة لنظام العقوبات خلال ال 12 سنة الماضية فشلت في إيقاف كارثة إنسانية متفاقمة منذ سنوات، نقلت بلاد بأسرها من حالة الرخاء إلى حالة العوز.

وفي هذا السياق فقط نستطيع أن نحكم على التعديل الجديد لنظام العقوبات في ظل القرار 1409. ففي كتاب "عقد العقوبات" يقول الكاتبان ديفيد كورترايت وجورج لوبز أن العراق تعرض لنظام عقوبات جماعية هو الأطول والأشمل والأشد في التاريخ (أوردها جان ألن في مقالته في الأهرام)، والتعديل الجديد هو تثبيت لنظام العقوبات، لا تخلي عنه كما رأينا سابقاً.

اقتصادياً، لن يخرج القرار 1409 عن هذا السياق الإجرامي الرامي إلى توظيف العقوبات في خدمة أهداف الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية. وكانت قد كتبت مجلة الإيكونوميست البريطانية يوم 26 أيار /مايو 2001 ، أي قبل القرار 1409، تعليقاً على مشروع العقوبات الذكية: "على الرغم من أن العراق سيستطيع الاستيراد أكثر، ألا أنه سوف يحرم من حرية حركة رأس المال والعمل اللتين يحتاجهما بشكل ماس. العراق يحتاج إلى استثمارات هائلة لإعادة بناء صناعته وشبكات طاقته ومدارسه، ويحتاج للسيولة لدفع رواتب مهندسيه وأطبائه وأساتذته. ولا يبدو أن شيئاً من هذا سوف يحدث في ظل العقوبات الذكية". 

المشكلة باختصار من الناحية الاقتصادية هي أن الاقتصاد العراقي سيبقى معزولاً عن العالم، وأن عائدات نفطه لن تكون بيده، كما قالت جماعة أصوات في البرية: "سيقال لنا الآن أن العقوبات قد رفعت، وأن كل معاناة العراق من الآن فصاعداً هي مسؤولية الحكومة العراقية، وهذه كذبة، فالعقوبات الذكية ستستمر 1) بمنع إعادة الإعمار السريعة للبنية التحتية للصحة العامة في العراق، 2) منع إحياء الاقتصاد العراقي لتأمين الوظائف ورواتب الكفاف للعائلات العراقية، 3) بمنع تطوير صناعة النفط العراقية لتأمين دخل ثابت مضمون لإعادة البناء والإحياء".

وتضيف نشرة أصوات في البرية: "المسألة ليست مسألة السلع التي سيسمح لها أن تدخل والتي ستعاق في لجنة العقوبات. حتى لو توقفت الولايات المتحدة وبريطانيا عن إعاقة أية سلع مدنية أو ذات استخدام مزدوج، فالعقوبات ستستمر بالقتل... هكذا استنتجت في آذار /مارس 1999 مجموعة من الخبراء الذين أرسلهم مجلس الأمن لدراسة الوضع الإنساني في العراق: أن الوضع الإنساني سيبقى في حالة حرجة في غياب إعادة إحياء قابلة للاستمرار الذاتي في الاقتصاد العراقي". ثم تقول النشرة: "العقوبات الذكية ستستمر بمنع الشعب العراقي بأكمله من كسب القطع الأجنبي ومن الحصول على قروض أو استثمارات أجنبية أو من بيع السلع العراقية، ما عدا النفط في الأسواق الأجنبية"، ثم تستخلص نقلاً عن مصدر آخر: "العقوبات الذكية لن تعيد إحياء اقتصاد العراق المدمر طالما بقيت السيطرة على عائدات نفط العراق بيد الأمم المتحدة، والاستثمارات والقروض الأجنبية محظورة". وكما جاء سابقاً، المطلوب هو عملية جراحية، لكن العقوبات المعدلة هي من الناحية الاقتصادية والإنسانية كحبة أسبرين، فدون اقتصاد يعمل، ليس من الواقعي تحسن الوضع بصورة جذرية، رغم التحسن الطفيف الذي طرأ عليه منذ عام 1999.

وحول برنامج النفط مقابل الغذاء الذي كان يسمح للعراق ببيع ملياري دولار من النفط كل ستة أشهر، تم رفعها إلى 5,2 مليار عام 98، ثم إلى 8,2 مليار، إلى أن رفع هذا السقف تماماً عام 1999 ، أي أن العراق أصبح يستطيع نظرياً أن ينتج أية كمية يشاء منذ ذلك التاريخ، لا بد من الإشارة أن هذا ساهم بتحسن جزئي للوضع الإنساني، ولكن ليس كثيراً. فانخفاض أسعار النفط وحالة صناعة النفط العراقية التي دمرتها الحرب لم تسمح ببلوغ ذلك الهدف عام 1998، كما أن العقوبات ما زالت تمنع استيراد المعدات اللازمة لتطوير صناعة النفط العراقية وتمنع الشركات الأجنبية من الاستثمار في تطويرها. لذلك، مع أن العراق يملك ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم، فإن حصته لا تساوي أكثر من عشرة بالمئة من إنتاج منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك، وأقل من أربعة بالمئة من الإنتاج العالمي، حسب الفايننشال تايمز في 9 نيسان/ابريل 2002 ، أي بعد يوم من قرار العراق إيقاف تصدير النفط لمدة شهر رغم ظروفه الصعبة من أجل تشجيع دول الأوبك الأخرى على حذو حذوه في ممارسة حظر نفطي دعماً للانتفاضة الفلسطينية. ولعل انخفاض الإنتاج النفطي العراقي ليس بالأمر السلبي على المدى الطويل، طالما بقيت العائدات بيد الأمم المتحدة، وطالما لا يتحكم العراق بالكامل بسعر الشراء وهوية المشتري، ولا بالسلع التي يستطيع شرائها بحصته من هذه العائدات، وفي ظل تهديد دائم بالعدوان والتفكيك هو بحد ذاته خروج على القانون الدولي الذي يخول مجلس الأمن وحده باتخاذ إجراء عسكري ضد دولة ما، إلا في حالات الدفاع عن النفس ضد هجوم مسلح كما يقول ميثاق الأمم المتحدة. 

ويبدو أن هذا الهجوم العسكري على العراق الذي يحمل في طياته احتمالات التفكيك قادمٌ لا محالة رغم عدم توقف الغارات في مناطق الحظر الجوي في السنوات المنصرمة، ولا بد للعراق أن يعد العدة لهذا الهجوم من أجل دحره من أجل العراق ومن أجل الوطن العربي، وبما أن أهل مكة أدرى بشعابها لن نقول للعراقيين كيف يجب أن يعدوا العدة للمواجهة القادمة بعد أن صمدوا كل هذا الصمود الأسطوري العظيم، سوى بالتذكير أن التجارب حركات التحرر الحديثة أثبتت أن حرب العصابات والعمل الإستشهادي هما الأنجع إزاء خصم متفوق تكنولوجياً، وأن تماسك الجبهة الداخلية على أساس تقبل النقد البناء والانفتاح على كل الجهات غير المرتبطة بالسياسة الأمريكية ومشاريعها هما الشرط السياسي للنصر وللصمود.

 

الصفحة الرئيسية