الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية        

   
     

  حرب تكسير عظام بين أمريكا والحركات الإسلامية

حسمت الولايات المتحدة الأمريكية معركتها العسكرية مع نظام طالبان في أفغانستان رغم استمرار وجود بعض جيوب المقاومة، لكن المؤكد أيضًا أن أمريكا لم تحسم بعد معركتها الرئيسية مع ما تسميه بالإرهاب الدولي، وهي المعركة التي يعترف المسئولون الأمريكيون أنها قد تستغرق عدة سنوات؛ لأنها معركة مختلفة تمامًا عما سبق من معارك تقليدية. ورغم أن الإدارة الأمريكية تشعر بالزهو بعد انتصارها في موقعة طالبان، وهو ما دفعها للإعلان عن أهداف جديدة لحملتها قد تشمل دولاً، مثل: العراق، والصومال، واليمن، وربما منظمات مثل الحركات الإسلامية في فلسطين، والصومال، والبلقان، إلا أنها تشعر بمزيد من القلق من احتمالات تكرار أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث لا تزال التهديدات من تنظيم القاعدة وغيره قائمة، ولا يزال الكثير من أعضاء هذا التنظيم طلقاء أو كامنين، وبإمكانهم أن ينفِّذوا عمليات موجعة ضد المصالح الأمريكية، وهو ما يدفعها للسعي لتجفيف الينابيع الدينية الإسلامية، بدءاً من المدارس الدينية (مراقبة مدارس باكستانوانتهاء بفرض قيود مشددةداخلها وعبر حكومات العالم - على التبرعات والجمعيات الخيرية. الحرب النظامية وغير التقليدية ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية تخوض حربها ضد الإرهاب على مستويين: المستوى الأول هو مستوى الحكومات المتهمة بدعم الإرهاب أو إيواء إرهابيين. والمستوى الثاني هو مستوى الجماعات المتهمة بالإرهاب، وهذه الجماعات والجمعيات كثيرة ومتنوعة تمتد من أقصى درجات التشدد إلى أقصى درجات الاعتدال، ومن الواضح أن الحرب الأمريكية ضد الإرهاب لن تفرق كثيرًا بين متطرف ومعتدل، ذلك أنها ترى أن (المعتدلين) هم المعين الذي يستمد منه (المتطرفون) قوتهم، كما أن العقلية الأمريكية تتعامل مع جميع الحركات والجمعيات الإسلامية، باعتبارها جميعًا حركات وجمعيات أصولية معادية للغرب والأمريكان ولربيبتهم في المنطقة إسرائيل، وبالتالي يتوجب من وجهة النظر الأمريكية القضاء على كل هذه المجموعات. وقد عبَّر المحلِّل السياسي الأمريكي الشهير توماس فريدمان عن هذه الرؤية في مقاله المنشور في نيويورك تايمز 27-11-2001م، حيث قال بالنص "إذا كان تاريخ 9-11 في الحقيقة بداية الحرب العالمية الثالثة، فعلينا أن نفهم ما تقصده هذه الحرب.. علينا ألا نكافح لاستئصال "الإرهاب".. الإرهاب فقط أداة.. نحن نحارب لهزيمة الأيديولوجيا: التدين الديكتاتوري، والحرب العالمية الثانية والحرب الباردة كانتا صراعاً لهزيمة الحزب العلماني المتطرف - النازية والشيوعية - أما الحرب العالمية الثالثة (الحالية) فهي معركة ضدّ الحزب الديني المتطرف الذي يفرض على العالم سلطة إيمانية تنفي الآخرين.. إنها "البنلادنية" (نسبة لـ بن لادنلكنها على خلاف النازية، فحكم الحزب الديني لا يمكن أن يقاتَل بالجيوش وحدها، بل يجب أن يُقاتل في المدارس، والمساجد، والكنائس، والمعابد، ولا يمكن أن يهزم بدون مساعدة الأئمّة والأحبار والكهنة!!". وتصديقًا وتنفيذًا لهذه الرؤية نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية في عددها الصادر السبت 1-12-2001م عن مسئولين بالحكومة الأمريكية قولهم: إن إدارة الرئيس "جورج بوش" ترغب في منح الـ"إف. بي. آي" سلطات تمكنه من إرسال عملاء لمراقبة الأشخاص الذين يتجمعون في المساجد أو الكنائس دون سبب محدد، أو ثبت أنهم تورطوا في عمل خارج القانون، وبالطبع ستتركز الملاحقة على روَّاد المساجد بشكل أساسي. الجمعيات الدعوية والإغاثية هدفًا ومن خلال تطورات الأحداث في الفترة الماضية التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والهجمات الأمريكية على أفغانستان بدا واضحًا أن الحرب الأمريكية لم تقتصر فقط على تنظيم القاعدة، بل تعدت ذلك إلى غيره من الجماعات والجمعيات الإسلامية الدعوية والإغاثية التي قرَّرت السلطات الأمريكية وضع العديد منها ضمن قوائم الإرهاب، وقامت بتجميد أو مصادرة أموالها في المصارف الأمريكية، وأصبحت الجمعيات الدعوية والإغاثية البعيدة عن السياسة تشعر بالخوف والقلق على أنشطتها. وكما يقول توفيق الشريف مدير المجلس العالمي للدعوة والإغاثة - الذي يضم سبعين منظمة وجمعية دعوية وإغاثية - فإن بعض المنظمات الإسلامية في أمريكا وأوروبا تعرضت لاعتداءات مباشرة، وبعض رؤساء المنظمات تم استجوابهم فعلاً، كما أن العديد من الحكومات في الغرب والشرق وضعت قيودًا على العمل الخيري إلى أن تثبت براءته، وقرَّرت بعض الدول العربية تقليص المساعدات الخارجية وتوجيهها توجيهًا سياسيًّا، وقال الشريف: "إن المجلس العالمي للدعوة والإغاثة سيدعو إلى اجتماع لمجلس رئاسته عقب إجازة عيد الفطر؛ لبحث هذه المشاكل وسبل مواجهتها قانونيًّا". وبالطبع لا ننسى تضييق أمريكا على بعض هذه الجمعيات بشكل مباشر، مثل منظمة الأرض المقدسة التي تقدم معونات للفلسطينيين بدعوى أنها قدمت معونات لأسر خرج منها استشهاديون!. ورغم أن بعض الجمعيات الدعوية لم تشعر بعد بتأثيرات كبيرة على أنشطتها الدعوية مثل جماعة أنصار السنة المحمدية التي تعتنق المذهب الوهابي، وتتركز أساسًا في مصر والسودان، وبعض بلدان الشمال الأفريقي، كما أكَّد لنا رئيسها العام الشيخ محمد صفوت نور الدين، فإن الجمعية تخضع لرصد دقيق، خصوصًا فيما يتعلق بالمسائل المالية من جمع وصرف التبرعات، ويقول رئيس الجمعية: إننا نتعرض للسؤال دائمًا عن هذه الأموال، ونأخذ احتياطاتنا كاملة، ونقوم بعرض هذه الحسابات بشكل شهري على وزارة الشئون الاجتماعية للتأكد من سلامتها. وفي رأي الباحث السياسي ضياء رشوان الخبير في شئون الحركات الإسلامية بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالقاهرة فإن الجمعيات الخيرية والإغاثية ستكون هدفا للحملة الأمريكية لأن هدف الحملة هو تكسير عظام الحركة الإسلامية، وهي أي الإدارة الأمريكية تعتبر هذه الجمعيات عصب الحركة الإسلامية، وقد أثارت حولها قدرا كبيرا من اللغط وربطت بينها وبين الإرهاب، كما أن الحملة الأمريكية ستعمل على توسيع دائرة الاشتباه بحيث يشعر كل الإسلاميين أنهم متهمون بمن فيهم المواطنون العاديون الذين يقدمون بعض التبرعات لهذه الجمعيات، وهذا من الناحية السيكولوجية يفكك التعاطف مع الحركة الإسلامية. ويضيف خبير شئون الحركات الإسلامية أن الولايات المتحدة الأمريكية ترى أن هذه هي اللحظة المناسبة لإضعاف كل مكونات الحركة الإسلامية في العالم. الحرب على الجماعات السياسية الإسلامية وإذا كانت الحملة الأمريكية ستطال أو هي طالت بالفعل الجمعيات والمنظمات الخيرية والإغاثية فإن الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية وحتى المعتدلة ستكون من باب أولى هدفا مباشرا، كما ستعتبر فرصة لحكومات الدول لتصفية الحسابات مع بعض هذه المنظمات. وتأتى في هذا السياق المحاكمة العسكرية لأعضاء التنظيم السلفي المصري المعروف إعلاميا باسم (تنظيم الوعد) والذي يقوده كل من الشيخ نشأت إبراهيم والشيخ فوزي السعيد وهما من مشاهير الدعاة السلفيين في مصر، كما يضم عددا من الطيارين وخبراء المفرقعات، ومتهمين من داغستان ومصريين يحملون جنسيات أوربية وأمريكية، ولعل أبرز التهم الموجهة إليهم هي دعم الانتفاضة الفلسطينية بالمال والسلاح، ومحاولة اغتيال عدد من الشخصيات العامة ونسف بعض المنشآت الحكومية الهامة، وتدريب بعض الكوادر عسكريا للسفر للجهاد في الشيشان، ورغم أن الرئيس مبارك نفى في حديث للتلفزيون الإسرائيلي نوفمبر الماضي أن يكون هذا التنظيم جزءا من تنظيم القاعدة الذي يتزعمه أسامة بن لادن فإن محاكمة هذا التنظيم حاليا تأتي في سياق الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب؛ حيث إن إحدى التهم الموجهة للتنظيم أيضا نسف بعض المنشئات الأمريكية، واغتيال عدد من الشخصيات الأمريكية في مصر. ولم تسلم جماعة الإخوان المسلمين التي تتبنى فكرًا معتدلاً، وتنبذ العنف والإرهاب من هذه الحملة، حيث ذكرت صحيفة الأسبوع المصرية المستقلة والمقربة من أجهزة الأمن المصرية في شهر ديسمبر 2001 أن اللجنة الأمريكية اليهودية والرابطة اليهودية العالمية طلبت من الإدارة الأمريكية الضغط على مصر من أجل تسليمها قادة جماعة الإخوان المسلمين لمحاكمتهم في الولايات المتحدة الأمريكية واصفة إياهم بأنهم "قوى الإرهاب الحقيقية في الشرق الأوسطوقالت الصحيفة: إن التقارير التي حصلت عليها اعتبرت أن القضاء على منابت الإرهاب الأصلية يتطلب قيام الحكومة المصرية بتسليم العناصر القيادية في الإخوان المسلمين إلى الولايات المتحدة، وأن يتم إخضاعهم للاستجواب لمعرفة التفصيلات المعقدة والخطوط المتشابكة في التشكيلات الإرهابية، وشددت التقارير على ضرورة تتبع نشاط الإخوان المسلمين في كل الدول العربية، والذي تمتد فروعه إلى العديد من الدول الآسيوية والأوربية، وزعمت التقارير اليهودية أن الحكومة المصرية وإن كانت تقوم بين الحين والآخر بالقبض على عناصر من الإخوان وتحاكمهم إلا أن القيادات الرئيسية للتنظيم لا تزال طليقة، وأن البنية التنظيمية للإخوان في مصر تزيد على عشرات الآلاف من الأشخاص، وأن القضاء على الإرهاب يتطلب البدء فعليا في تصفية عناصر هذا التنظيم، وأن جماعات الضغط الصهيونية تعقد اجتماعات مكثفة مع لجان الكونجرس للضغط على مصر ودفعها لتسليم قيادات وعناصر الإخوان وتروج لوضع مصر على قائمة الدول الراعية للإرهاب في حال رفضها الاستجابة لهذا الطلب. وعلى الرغم من أن هذه الضغوط لا تزال بعد في بداياتها وعلى الرغم من أن السفير الأمريكي بالقاهرة "وولش" صرح بأن إدارته لم تطلب من مصر تسليمها أي شخص إلا أن الخبرة العملية تؤكد أن تلك الجماعات الصهيونية تسعى لفرض مطالبها على الإدارة الأمريكية المتعاطفة بطبيعتها مع أي مطالب صهيونية، ولعل أحدث الأدلة على ذلك ما حدث عقب تفجيرات القدس الأخيرة في مستهل شهر ديسمبر 2001من مداهمة ومصادرة أموال بعض الجمعيات الإسلامية الأمريكية بحجة دعمها لحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية حماس. ويرى بعض المحللين والمتابعين أن مثل هذه الضغوط ربما دفعت الحكومة المصرية للتشدد مؤخرا مع الإخوان المسلمين لتفويت الفرصة على اللوبي الصهيوني، حيث قامت بالقبض على اثنين وعشرين من قيادات الجماعة وإحالتهم للمحاكمة العسكرية، وقامت النيابة العسكرية بإعادة توصيف التهم لتنسب إلى أحد عشر متهما بتهمة قيادة وإدارة تنظيم غير مشروع، وهو ما يعني تعرضهم لعقوبات حبس طويلة حسب قانون مكافحة الإرهاب في مصر (قانون العقوبات المعدلولم يقتصر الأمر على جماعة الإخوان المسلمين، بل إن حزب العمل المصري وهو حزب سياسي ذو توجه إسلامي والمجمد النشاط بقرار من السلطات المصرية منذ مايو 2000 إثر أزمة رواية وليمة أعشاب البحر التي أثارتها صحيفة الحزب (الشعب) تلمح عناصر فيه إلى أن أزمته التي كانت في طريقها إلى الحل بعد توالي صدور أحكام قضائية لصالحه من المحاكم المصرية قد لا تجد طريقها إلى الحل في الوقت الراهن بسبب الحملة الأمريكية الدولية على الإرهاب حيث يتهم الحزب بأنه حزب أصولي وأنه يفسح المجال للأصوليين بممارسة النشاط السياسي الشرعي، وبالتالي فإن الحكومة المصرية قد تستشعر حرجا دوليا إن هي قررت السماح للحزب بمعاودة نشاطه السياسي وبعودة صحيفته للصدور بما قد تحمله من هجوم على أمريكا وعلى الحكومة المصرية ذاتها. الأقطار العربية تقدم القرابين! وما يحدث في مصر يجد له نظيرا في العديد من الأقطار العربية والإسلامية الأخرى خاصة التي تشعر بالضعف وعدم القدرة أو عدم الرغبة في مواجهة أمريكا، ففي الكويت فرضت الحكومة قيودا كبيرة على الجمعيات الخيرية التي تمول أنشطة خيرية خارج الكويت، وفى اليمن التي تشير التوقعات إلى أنها ستكون إحدى المحطات القادمة للحملة الأمريكية فقد أعلن رئيسها علي عبد الله صالح عقب زيارته لواشنطن نهاية نوفمبر 2001 أن بلاده تتعاون مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، وأن السلطات الأمنية اليمنية تقوم حاليا بتتبع بعض العناصر المتهمة بالإرهاب. وفى الأردن أصدرت الحكومة -في غياب البرلمان - قانونين "مؤقتين" اعتبرا من القوانين المقيدة للحريات ، حيث يفرض القانون الأول قيودا على تنظيم الاجتماعات العامة والتظاهرات في الأردن، في حين أن القانون الثاني المتعلق بمحاكم أمن الدولة يعطي لرئيس الوزراء سلطة إحالة ما يراه من القضايا إلى هذه المحاكم ذات الطابع العسكري. أما في لبنان التي تقف حتى الآن موقفا صلبا في مواجهة المطالب الأمريكية بضرب حزب الله فقد تعهدت الحكومة اللبنانية بتطبيق الاتفاقية الدولية الخاصة بوقف تمويل الإرهاب، والتي تبنتها الأمم المتحدة في العام 1999، وتعهد لبنان بتطبيق هذه الاتفاقية الدولية (1373) التي تقضي بتجميد أصول منظمات وأفراد إرهابيين، وإنما في إطار احترام مبادئه الوطنية وخصوصا التمييز بين المنظمات الإرهابية وحركات المقاومة، كما أضاف البيان الذي نشرته رئاسة الجمهورية اللبنانية. وهكذا أعلنت بيروت بوضوح أنها تلتزم بقرارات الأمم المتحدة وخصوصا رفع السرية المصرفية التي تشكل أحد المبادئ المقدسة في اقتصاد لبنان، في حين قالت: إنها ليست على استعداد للالتزام بطلب الولايات المتحدة الصادر بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، والقاضي بتجميد أصول حزب الله الشيعي اللبناني الذي تعتبره واشنطن منظمة إرهابية. وإلى جانب عدم القدرة أو عدم الرغبة في مواجهة أمريكا فقد أعطت الحملة الأمريكية لمقاومة الإرهاب العديد من الأنظمة العربية والإسلامية الفرصة لتصفية خصومها السياسيين، كما عبر عن ذلك صراحة الزعيم الليبي معمر القذافي، لكن الخبير في شئون الحركات الإسلامية ضياء رشوان يرى أن توسيع أمريكا لحملتها على الإرهاب لدرجة قد لا تستطيع بعض الأنظمة تحملها سيدفع إلى تقارب بين مجمل الجماعات الإسلامية وبعض الأنظمة السياسية العربية والإسلامية؛ ذلك أن الحملة الأمريكية لن تتوقف عند حدود مواجهة الجماعات الإسلامية، ولكنها تتعدى ذلك إلى النيل من القضايا العربية والإسلامية الكبرى، فلو قامت أمريكا بضرب العراق أو حماس أو حزب الله فإن ذلك سيقرب كثيرا من موقف الجماعات والحكومات، ويستشهد رشوان على كلامه بالتصريح الذي أصدره المرشد العام للإخوان المسلمين دعما لموقف الرئيس مبارك الرافض لضرب أفغانستان عقب أحداث الحادي عشر من

page 1   2

الصفحة الرئيسية